الفصل الخامس

"والله كدت أمسكها من شعرها وأمسح بها أرض الجامعة كلها"

هتفت طيف بنزق مثيرة ضحكات سمراء وابتسامة شاحبة من رواء 

"لكن سامحهم الله منعوني. آه، ما زال دمي يغلي كلما تذكرتها"

خفتت ضحكة سمراء إلى ابتسامة شاردة

"يبدو أنها لم تتغير، ما زالت حادة الطباع وشرسة كما كانت"

"هل قابلتِها من قبل؟"

ابتسمت بشحوب واختفت ابتسامة رواء بينما تتذكر صورة لصبية صغيرة نحيفة عصبية ترمقها بغيرة واضحة ورفض

"نعم قابلتها ذات مرة. لا، في الواقع قابلتها مرتين"

وأطرقت صامتة لثوان قبل أن تبتسم مردفة بمرح مفتعل

"وفي المرتين شعرتها ستأكلني بأسنانها دون سبب"

نهضت رواء وتحركت إلى الشرفة بينما صوت طيف تسلل إليها وهي تهتف

"أخبرتكِ . إنها متعجرفة جدًا وسليطة اللسان"

ضحكت سمراء 

"نعم، وأنتِ الملاك ذات الأجنحة البيضاء. أنا متأكدة أنكِ أسمعتها ما لذ وطاب من قاموسكِ الفريد"

"ﻻ يا سمارا، ما زلت لم أشف غليلي منها، بسبب ذلك الأحمق شاهد لم آخذ فرصتي"

تنهدت سمراء مرددة 

"لأول مرة أكون ممتنة له، لولاه لتسببتِ في فضيحة مدوية بالجامعة"

لوت شفتيها بغير رضا قبل أن تلتفت لرواء هاتفة

"ماذا تفعلين عندكِ  يا رواء؟ تعالي واسمعي شقيقتكِ المحترمة ماذا تقول"

تسللت الكلمات إليها دون أن تلتقط منها واحدة بينما يغرق عقلها في تلك الذكريات المُضنية... غريب كيف تتحول ذكرى عزيزة وجميلة في غمضة عين فتصبح أكثر اللحظات بغضاً للقلب وأشدها ألماً.

 

"رواء"

هتفت طيف بصوت أعلى تشدها من شرودها، فالتفتت لها بتساؤل

"ماذا؟"

"لا، أنتِ لستِ معنا على الإطلاق"

أخبرتها طيف فتحركت عائدة إليهما 

"أصبت بالصداع من ثرثرتكِ يا طيف، هل تعرفين كم مرة سمعت هذا الموشح منكِ؟"

ردت باعترض

"لكنّ سمراء لم تسمعه، كان يجب أن أخبرها بما حدث. آه، كلما تذكرت... العنكبوتة المتعجرفة تقول أنّ سمراء تعمدت الحادث لتورط شقيقها الأحمق وأنّنا أردنا ابتزازه ونصبنا عليه"

شحبت سمراء قليلاً قبل أن تهمس

"لا تلقي بالاً لكلامها. يبدو أنّها ما زالت تغار من رواء وتحمل عليها لهذا تعاملت معكِ بهذه الطريقة"

سألت بحنق

"ولماذا تغار منها تلك السلعوة؟"

لم تتمالك سمراء ضحكتها 

"طيف، ارحميني من لسانكِ هذا. أنتِ تزيدين ذنوبي وأنا استمع لنميمتكِ وغيبتكِ هذه. استغفري الله ولا تزيدي ذنوبكِ أنتِ أيضاً"

"على رأيكِ، لماذا أعطي تلك العنكبوتة من حسناتي؟ خسارة فيها. آه أتمنى لو خنقتها، لكن لا بأس، المرة القادمة لن أفوتها"

هزت سمراء رأسها بقلة حيلة  

"ﻻ فائدة"

ضربت طيف كفيها بغيظ

"أنتِ لم تسمعيها عصا المقشة تلك"

"استغفر الله العظيم"

رددت الاثنتان معًا قبل أن تضربها رواء على رأسها

"قلنا يكفي شتائم وغيبة"

"دعيني يا رواء أفش قليلاً من غلي، أنتِ لم تسمعي كيف تتحدث عن شقيقيها كأنّهما ملاكان لا يستطيعان أذية نملة"

تنفست رواء بعمق تقاوم مشاعرها ثم قالت

"المرة القادمة تجاهليها، ليس لنا علاقة بهم ولن يكون. عندما تجري سمراء عمليتها على خير وتعود للبيت سنغلق صفحتهم تماماً"

****

شردت سمراء عنهما فجأة مع ذكر العملية التي قررها الطبيب وعاودها التوتر رغم أن الطبيب طمأنها ما زالت تشعر بالقلق من النتيجة.

هل سيعود بصرها؟

قال أنّها ربما تحتاج لعملية أخرى بعد أشهر، هذا يعني أنّها ربما تبقى هكذا لأشهر، أو ربما للأبد…

هزت رأسها تطرد مخاوفها وهمست داخلها تطمئنها أنّ قدرها خير مهما حمل لها وهي مؤمنة ولا يجب أن تحمل همًا بشأن الغد.

انتبهت من شرودها على انفتاح الباب وسمعت صوت أمها تحدث إحداهن لتهتف طيف في الحال

"لا، ليس مجدداً. لقد حولوا الغرفة لمحل أزهار"

ابتسمت سمراء قبل أن تشعر بأمها تقترب لتضمها بحنان

"وما المشكلة يا آخر صبري؟ سمراء تحب الزهور ولم تعترض أساساً"

غرقت في حضنها الدافئ قبل أن تبعدها أمها وتمسح على وجهها بحب.

"ذلك الأحمق المتعجرف، من أين عرف أنّكِ تحبين الزنابق؟"

ارتجف قلبها مع كلمات طيف وأدارت وجهها نحو صوتها، تنحنت لتجلي صوتها ثم سألتها

"من أين سيعرفون زهوري المفضلة يا طيف، بالتأكيد هي مجرد"

قاطعتها بإصرار

"هذا المكتوب"

عاودت قلبها ارتجافة أعنف

"مكتوب أين؟"

"هناك بطاقة مع الباقة مكتوب فيها... (لم أجد أفضل من أزهاركِ المفضلة لترسل إليكِ سلامي. كوني بخير دوماً)"

وواصلت بحيرة وهي تقلب البطاقة

"ﻻ يوجد توقيع، لا أعتقد أنّ ذلك الأحمق أو شقيقه هما من كتبا..."

قاطعتها ضاحكة بافتعال

"آه، لا بد أنّها سارة التي تعمل معي في الكشك. أخبرتني على الهاتف أنّها سترسل لي أزهاري المفضلة فلا بد أنني اشتقت إليها"

رددت داعية ألا ينتبه أحدهم لارتباكها أو كذبتها، أو هكذا تمنت... أن تكون كذبة، إن لم تكن كذبة فحيرتها ستضاعف، إن لم يكن يوسف هو من أرسل الزهور هذه المرة فمن سيكون؟

"ناوليني الباقة يا طيف لو سمحتِ"

قالت وهي تمد يدها فاقتربت طيف لتناولها إياها، ضمت الباقة وأغمضت عينيها بينما عقلها يعيدها إلى ذكرى كانت قد دفنتها في أعماقها، ذكرى المرة الأولى التي منحها أحدهم زهرة زنبق بيضاء مع ابتسامة ظلت ترافق أحلامها لوقت طويل.

**********************

 

تنهد سالم وهو يرفع رأسه لينظر للسماء بينما يجلس على السلم الخارجي للسراي، 

الهم ثقيل بقلبه، أفكاره لا تترك له لحظة راحة وجدران السراي تطبق عليه، ولولا وعده لأمه لخرج دون عودة.

 تعلقت عيناه بالقمر بشرود، هل ما زالت تحب رؤيته أم خاصمته هو الآخر يوم نبذته من حياتها؟

 كان يخبرها دائماً أنّه يرى وجهها على صفحته، وتخبره أنّها ترسل بصحبته كل ليلة رسالة إليه. كيف له أن يعيد الزمن للوراء فيغير كل شيء؟ يعود لتلك الليلة ويصلح ما أفسده؟ كيف يقنعها أنّه يستحق أن تثق به؟ أنّه لم يعد سالم الأحمق الذي دمر كل شيء في لحظة غبية؟

 

انتبه على صوت خطوات فالتفت خلفه، لمح الخيال الصغير يراقبه من وراء الباب ثم يتراجع سريعًا. قبل أن يعود ليطل بفضول اعتاده، قاوم ابتسامته وقد توقع أنّها ستهرب كالمرات السابقة فعاد يلتفت أمامه لكنه تفاجأ بخطواتها تقترب منها، يبدو أنّ الفضول غلبها هذه المرة. 

رسم الجدية على وجهه بينما تجلس جواره في صمت، نظراتها منصبة عليه تتفحصه كأنّه خلية تحت مجهر. لم يعرف كيف يتصرف، لم يعتد الاقتراب من الأطفال ولطالما شعر أنّه لا يستحق براءتهم مع كل الظلام الذي ملأ قلبه.

تنهيدة خانته تكررت بصدى فالتفتت نحوها بدهشة، قابلته عيناها تلمعان بمكر، لم ينتبه لتقطيبه حتى وجدها تقطب مثله واستمرت تبادله النظرات بجرأة لم يتوقعها. 

خانته شبه ابتسامة لمحتها الشقية فقلدتها في الحال. اعتدل في جلسته فاعتدلت مثله، رفع حاجبًا فرفعت واحدًا، التفت بجسده ليواجهها مسنداً مرفقه لركبته، ففعلت مثله.

"ماذا تفعلين؟"

"أنا أقلدك، ألا ترى؟"

حاول الحفاظ على ملامحه جادة وهو يخبرها

"أليس عيبا؟"

زمت شفتيها الصغيرتين فضيق عينيه مركزًا عليهما، هل تضع حمرة شفاه أم أنه يتخيل؟ انتبه على ضحكتها بينما تتراجع لتسند مرفقيها للدرجة مقلدة جلسته الأولى

"ممكن، لكن أنا أحبه"

كم عمرها هذه الثعلبة؟ تحركت عيناه عليها بتدقيق، لا تصل حتى لركبتيه لكن من الواضح أن لسانها أطول بكثير. انتبه للجينز المرقع قبل أن ينظر للكحل في عينيها وحمرة شفتيها، هذا منظر فتاة عشوائية متمردة، لا منظر طفلة تنتمي لعائلة مثل عائلتهم. كيف سمحت زوجة أخيه الأنيقة بهذا؟ قفزت فجأة تستعرض نفسها أمامه

"هل أعجبتك ملابسي؟ جميلة، صحيح؟"

أجابها بسؤال

"كم عمرك يا لي لي؟"

لوت شفتيها بضيق،ربما لأنه لم يجبها أو لأنّها كانت تتوقع معرفته بسنها. لم تلبث أن ابتسمت ورفعت كفها بأربعة أصابع ثم نصف

"أربع سنوات ونصف؟"

ضيقت عينيها بغير رضا 

"هل أنت أخو بابا حقاً؟"

"نعم، هل يضايقكِ هذا؟"

تحركت عيناها المتفحصتان على وجهه، قبل أن تسأله

"ولماذا لم تكن تزورنا أو تعيش معنا مثل يوسف ونيرو؟"

ولا تستخدم الألقاب أيضاً؟ هذا يجعله سالم بالنسبة لها وليس العم سالم بالتأكيد

"لأنني كنت مسافراً، لكنني عدت وأعيش هنا الآن"

أمسكت ذقنها مفكرة ثم سألته بجدية شخص كبير

"ولماذا أنت حزين؟ لا تحب العيش معنا؟"

"حزين؟ من قال أنني حزين؟"

هزت كتفيها

"أنا أعرف، بابا أيضًا عندما يحزن يجلس مثلك وينظر للسماء"

ابتسم بشحوب مفكرًا في أخيه الذي كان كظله، لا يطيقان خصام بعضهما ولو لساعات والآن ماذا أصبحا. قاوم غصته وتأملها يرى فيها ملامح من أسامة وشقاوته حين كان طفلاً.

انتبه على صوتها بينما تقفز عائدة إلى جواره

"هل صحيح اسمك مثل جدو سالم؟"

أجابها بإيماءة فتمتمت بغير رضا

"لماذا لم تختر واحداً غير هذا؟"

"ألا يعجبكِ اسمي يا بنت أسامة؟"

ضحكت وهي ترمقه بشقاوة

"ﻻ أحبه، لكن لا مشكلة"

ورفعت نفسها لتقبل خده منتزعة خفقة من قلبه مردفة بحلاوة

"سأحبك أنت يا عمو"

حمداً لله، كانت ستصيبه بأزمة قلبية لو نادته باسمه مجرداً، شعر بها تبتعد، حدجته بضيق عندما رأته صامتاً

"المفروض أن تقول أنا أيضاً أحبكِ يا لي لي"

لم يقاوم ضحكته 

"هكذا فقط؟ حسناً، أنا أحبكِ يا أميرة لي لي"

وطبع قبلة على خدها مردفًا

"جيد هكذا؟"

رفرف قلبه مع ضحكتها التي ما كادت تنتهي حتى سمع هتافًا نزقًا

"أنتِ يا عفريتة هانم، أين اختفيتِ؟ أنتِ هنا وأنا أ.."

التفت إلى نيروز التي توقفت متفاجئة برؤيته وسرعان ما تجاهلته كعادتها بعناد طفولي والتفتت نحو لي لي

"هل هذا اتفاقنا؟ ألم أخبركِ أن تظلي مكانكِ حتى أعود؟"

ابتسم وعيناه تمران على ملابسها الصبيانية، الآن عرف من السبب وراء مظهر لي لي الغريب ذاك.

"نيروو، هل تعرفين؟ عمو سالم قال أنه"

قاطعتها وهي تشدها من كفها

"تعالي لأبدل لكِ ثيابكِ قبل أن تعود ماما"

"ﻻ يا نيروو .. سأبقى قليلاً مع عمو"

"آه .. حتى تعود أمك وتصاب بأزمة قلبية عندما تراكِ أو تقتلني"

حاولت شد يدها بينما تواصل نيروز هذرها

"في الحالتين ستقتلني عندما تعرف أنني تركتكِ تسهرين حتى الآن، هيا لنبدل ثيابنا وننام"

شدت يدها منها واندفعت عائدة إليه

"سأقبل عمو أولاً"

ارتمت عليه متعلقة بعنقه، فضمها بتلقائية وعانق فيها أخاه الذي يفتقده، رائحتها الطفولية دغدغت قلبه، الصغيرة الماكرة لا تعرف أنها ملكته في لحظات.

انتبه على نيروز ترمقهما بشيء من الغيرة، وعندما انتبهت أنّه ضبطها أشاحت وجهها بسرعة، فابتسم بحنان قبل أن يبعد لي لي قائلاً

"تصبحين على خير يا أميرة لي لي"

قبلت خده ضاحكة وابتعدت لتسرع نيروز وتسحبها 

"هيا، يجب أن نذهب للنوم حالاً"

ناداها لتقف، لكنّها لم ترد وحملتها مرددة بصوتٍ تعمدت أن يصله

"هل سمعتِ شيئاً يا لي لي؟ أنا لم أسمع أحداً يتحدث"

نقلت نظرها بينهما وردت

"نعم، عمو يناديكِ"

"أنتِ أيضاً لم تسمعي؟ أنا أيضاً قلت هذا"

قطبت حاجبيها الصغيرين وضربتها على كتفها

"قلت عمو يناديكِ"

"لم تسمعي شيئاً؟ قلت لك أنا أيضاً لم أسمع"

تابع اختفاءهما قبل أن تخفت أصواتهما ويعود الصمت ليحل ضيفًا عليه. عاد يسترخي في جلسته ناظرًا للقمر وهو يلامس قبلتها على خده لتتسع ابتسامته ولأول مرة منذ عودته شعر أنّه يتنفس، ما زال هناك حياة وأمل بين جدران هذا السراي القاسي.

**********************

ترجل إيهاب من سيارته ودار حولها بتوتر قاومه ليبتسم بينما يفتح الباب لرفيقته التي أمسكت بكفه ونزلت برقة، شكرته بابتسامة فاتنة بينما تمسد حرير فستان سهرتها قبل أن تتأبط ذراعه التي مدها لها.

تحركا نحو فيلا السيوفي وكل خطوة تغرس سكاكين ملتهبة في جسده وقلبه بينما يسب نفسه على موافقته على مرافقتها. هذا آخر مكان يجب أن يكون فيه.

 

"إيهاب ما بك؟"

انتبه على صوت كارمن فالتفت لها متسائلاً 

"ﻻ تبدو بخير، منذ أتيت لتقلني من البيت وأنت تبدو مهموماً"

ابتسم بتشنج

"أنا بخير، انشغل فكري بأمر يخص العمل"

"تعلم مني إذن، أنا أجيد الفصل بين العمل والمتعة"

قالت ضاحكة، وهي تدلف برفقته للفيلا، استمع لها بذهن مشغول وقلب مضطرب، رسم قناعًا زائفًا بينما يوزع ابتساماته الباهتة بينما العاصفة داخله تزداد زخمًا مع كل لحظة تمر. تنهد حين استأذنت كارمن لترد على اتصال، وانزوى هو في ركنٍ من الحفل يراقب بشرود.

لمح بعد برهة يسرا تتجه إليه بابتسامة واسعة فقاوم مشاعره نحوها دافعًا كل ما يعرفه عن معاناة تارا معها جانبا، ليرد على تحيتها بابتسامة دبلوماسية

"أنت هنا يا إيهاب؟ لم أعرف أنّ تارا دعتك"

لم يرتح لنبرتها لكنّه أسرع يجيبها 

"أعتذر لو أتيت دون دعوة، لكن أنا هنا برفقة أحد ضيوفكِ"

"ﻻ بأس، أنت مرحبٌ بك في أي وقت"

وسألته وهي تتلفت حولها

"هل رأيت تارا وأسامة؟ كانا هنا قبل قليل"

رد بتشنج

"لا، لم أرهما. وصلت لتوي"

ضربت جبينها بكفها ضاحكة 

"آه، يا لنسياني الدائم هذا، لقد أتعبهما الحديث مع الصحفيين مؤكد ذهبا ليستريحا بغرفتها"

قاوم حتى لا تفضحه ملامحه أمامها ورد بهدوء

"اعتذر منكِ  يا يسرا هانم، لم أباركِ لك على افتتاح الفرع الجديد"

اتسعت ابتسامتها التي تشبه ابتسامة تارا لكنّ فرق السماء والأرض بينهما، ابتسامة تارا صافية، تزرع الحياة، تتألق في عينيها فتكشف الستار عن روحها النقية

"شكرًا يا إيهاب، كانت خطوة مهمة تأخرت قليلاً لكن... كل شيء بأوان"

هل كل شيء بأوان حقاً؟ 

ربما ليس كل شيء. هناك أشياء لا يأتي أوانها أبداً، أو ربما أتى لكننا تخلينا عنها في الوقت الذي كان يجب أن نتمسك فيه بها.

انتبه على صوتها وهي تلامس مرفقه

"اعذرني، سأتركك لأرحب بباقي الضيوف. اعتبر البيت بيتك"

أومأ بابتسامة باهتة، وزفر ما أن تركته، تراجع يستند للحائط بملل 

"كل هذه مكالمة يا كارمن؟ ما كان يجب أن أحضر"

تذمره واعتراضاته تبخرت ما أن وقعت عيناه على تارا، تنزل السلالم. اختنقت أنفاسه وتهاوى قلبه، كانت متألقة في فستان سهرة أزرق اللون، لونه المفضل، لا بل لونها الذي صار بالتعبية أكثر الألوان التي يعشقها. كانت ساحرة وأنيقة كعادتها، نجمته المستحيلة

*****

 

"تارا .. ماذا يعني اسمكِ؟"

سألها يوماً عن معنى اسمها بينما يجلسان أسفل الشجرة التي التقيا عندها أول مرة، يختلس هو إليها نظرات عشق مسروقة بينما كانت غارقة هي في كراسة رسمها. كل تقطيبة وابتسامة على شفتيها اختزنها في أعماقه وتشربها بعطش لفراق بات يعلم أنه آت لا محالة. التفتت له يومها بابتسامتها التي لمعت بشقاوة مضاعفة في عينيها البندقيتين 

"أنت كسول يا إيهاب. يجب عليك البحث عن أجوبة أسئلتك بنفسك"

وعادت تركز في رسمتها ليخبرها متبرمًا

"وأنتِ لئيمة يا آنسة تارا، ماذا ستكلفكِ إجابة هذا السؤال البسيط؟"

ضحكت برقة 

"لو كنت مهتماً كنت عرفت وحدك"

قاوم نفسه حتى لا يشدها من خصلتها الشاردة التي تغيظه ويحركها النسيم لتلامس شفتيها، خصلة متمردة وشفتان معذبتان وقلبه المتوله يتخبط في صدره، ليسرع مخرساً إياه

"تمام، آسف لإزعاج سموكِ. لا أريد أن أعرف معناه"

وادعى عدم اهتمامه والانشغال في قراءة الكتاب الذي يحمله

"نجمة"

قالت بعد لحظات فنظر لها مستفهماً، واصلت بابتسامة رقيقة

"اسمي له معاني مختلفة في أكثر من لغة، لكن... في الأوردو والهندية يعني، نجمة"

خفق قلبه انبهارًا، كيف يطابق معناه شعوره بها؟ يراها دائما نجمة لامعة، عالية بعيدة، سحرًا سماويًا لا يستحق أن يمد يده لينتزعه لنفسه.

انتبه لتحديقه فيها عندما احمر وجهها، وأطرقت سريعًا في لوحتها مغمغمة بارتباك

"وهذا يكفي، يمكنك البحث عن باقي معانيه بنفسك"

ولم يهتم أن يفعل، يكفيه أنّها نجمة. كانت نجمته العالية التي أصبحت الآن مستحيلة. 

********

ونجمته في هذه اللحظة كانت تتأبط ذراع أقرب الناس إليه،

تفتت قلبه وهو يراقبهما، توقفت عيناه على ابتسامة أسامة الباهتة، يعرفه جيدًا. أسامة لا يحبها، لا يقدر قيمة النجمة التي يملكها، يعرف كل هذا ويجد نفسه عاجزًا عن التدخل بينهما.

لا يريد وصم نفسه بالخيانة والخزي أكثر، لا يريد أن يثبت على نفسه الجرم. لا حق له فيها من الأساس.

كيف وقد اختارت أسامة وأحبته؟ إن كانت تتألم لأنّ أسامة لا يحبها وتحتمل حياتها الباردة معه أملاً أن يحبها يومًا.

كان شاردًا في مراقبتها تتحدث بابتسامتها الساحرة مع ضيوفها، نجمته تجيد التمثيل لكن تمثيلها لا يخدعه. وحده يرى ما خلف قناعها، وحده يرى رقصتها المذبوحة ودموعها خلف تلك الابتسامة. 

لو استطاع لاستجاب لرغبته في أن يندفع ويشدها، يصرخ فيها أن توقف هذا التمثيل وتمنح نفسها رفاهية الاستسلام، يفتح ذراعيه لانهيارها ولملمة شظاياها. 

لكن منذ متى والقاتل يطبب جروح ضحيته؟ هو معترف بذنبه وخطيئته. هو أول من آذاها، ليس جده أو أسامة.

**

"إيهاب"

انتفض قلبه مع ندائها، ينتزعه من عذابه ليلقيه في جحيم أكبر.

"إيهاب .. هل أنت بخير؟"

فتح عينيه ليجدها أمامه حقًا، متى تركت مكانها واتجهت إليه؟

تقف أمامه ترمقه بتساؤل،

عيناها، آه منهما. كانتا دافئتين قلقتين، هذا القلق من أجله؟

"إيهاب، ما بك؟"

بحث عن صوته فخانه لثوان، حرك عينيه بجزع يبحث عن وجه أسامة لينقذه، يريد تلك الصفعة ليستفيق. وجده منهمكاً في حديث مع بعض رجال الأعمال، ورؤيته منحته الدرع الذي يحتاجه فأسرع يرفعه أمام سحرها.

تنفس بعمق وجاهد ليرسم ابتسامة خرجت شاحبة 

"أنا بخير"

تأملته مقطبة بشك فأسرع يكمل

"لم أنم جيداً الأيام الماضية بسبب ضغوط العمل"

أومأت دون أن تتخلى عيناها عن شكهما

"لكن... أنت هنا؟ هل دعتك أمي؟"

ألقت سؤالها بضيق لم يفهم سببه

"لا، أتيت مع أحد الضيوف. كانت تحتاج لمرافق، والدعوة..."

"كانت؟"

رمقها بدهشة بينما واصلت هي مقطبة بشدة

"هل أتيت برفقة فتاة؟"

تخبط قلبه، بينما عقله أخبره أنه توهم سماع نبرة الضيق في صوتها. أومأ وهو يبحث بعينيه عن كارمن

"نعم، أتيت مع كارمن لكنّها..."

عادت تقاطعه بهتاف مذهول

"كارمن؟ لا تقل كارمن عزمي، هل أتيت معها؟"

"نعم، لماذا تستغربين هكذا؟"

"هل تمزح؟"

تراجع مصدوماً من هجومها، بينما تلفتت حولها بارتباك وأسرعت تخفض صوتها لتهمس 

"ولم تجد سواها؟"

"وما بها؟ إنّها فتاة لطيفة"

رد بصعوبة وهو يجاهد حتى لا ينظر إليها بينما تهتف حانقة

"فتاة لطيفة؟ تلك المغرورة الـ"

"ما بكِ؟ لماذا تنفعلين هكذا؟"

تراجعت بارتباك

"أنا لست منفعلة، أنا فقط"

عضت شفتها وتوقفت عن الكلام فقال هو بهدوء

"هناك عمل مشترك بين شركتينا وكارمن مسؤولة عن..."

عادت تقاطع بتجهم

"هذا يعني أنّها ستقفز لكم في الشركة كلما يحلو لها"

عقله صفعه أنّها تغار على أسامة ليس أكثر. قاوم اختناقه والغيرة التي بدأت تنهش قلبه بينما تابعت هي بعد ثوان

"عن إذنك، أمي تشير إليّ. سأذهب لأرى ماذا تريد"

أومأ بشرود واسترخى متنهدًا ما أن ابتعدت دون أن يدري أنّها كانت تحترق.

*********************

نهض سالم بعد فترة حين وجد الوقت قد تأخر كثيرًا، ألقى نظرة أخيرة على القمر ثم دخل السراي بقلب متثاقل وأفكاره تأخذه من جديد إلى معذبته،

هل يمكن أن تتعقد الأمور أكثر؟ الطريق إليها صار أصعب بعد خسارة سمراء لبصرها بسبب يوسف، لن ترحمه وستحمله الذنب بالتأكيد. 

همس لنفسه

"ﻻ تقلق يا سالم، ستجد حلاً لكل هذا"

قبل أن يصعد نحو غرفته غير اتجاهه نحو غرفة فلك ليطمئن عليها، هي أيضًا يجب أن يجد حلا لها. عجز عن إخراجها من جديد ولا يعرف هل كانت تعاقب نفسها أم خائفة وحسب من غضب جده الذي مزق أجنحتها وضمن أنها لن تهرب ولن تجد القدرة حتى للخروج من محبسها.

صوت أنين تسلل إلى أذنيه مع اقترابه من غرفتها فاندفع يفتح الباب هاتفًا اسمها بقلق، أشعل النور وتوقف لحظة بصدمة حين رآها تنتفض في فراشها ممسكة رقبتها باختناق.

"فلك، فلك ماذا أصابكِ؟"

أسرع يحل كفيها عن عنقها ليرى آثار احمرار فوقه 

"فلك، استيقظي… فلك، افتحي عينيك"

انتفضت بعد لحظات مهلكة وحين رأته أسرعت تنطوي على نفسها وجسدها يرتجف بعنف، مد يده نحوها، وهمس مهدئًا

"ﻻ تخافي، هذا أنا سالم. لا تخافي أنا هنا"

استكان جسدها قليلاً لكنّ نظراتها ظلت على رعبها، اقترب بحذر واطمأن عندما لم تبتعد. نظراتها المستنجدة مزقت قلبه فشدها مانعًا مقاومتها الأولية

"ﻻ بأس، أنت بخير الآن"

استكانت متشبثة به بقوة، وسالت دموعها تحرق قلبه أكثر، لامس بألم ندبة وجهها وصوت أمه يتردد في ذاكرته

 

"لم يستطع أحدنا التدخل، لم يكن أسامة وإيهاب في البيت ويوسف لم يستطع منعه"

 

اختنق بالذنب أكثر وأكثر... لو كان هنا لمنعه.

مسح على شعرها برفق وضمها أكثر

"سأجده وأكسر يديه وكل عظامه ذلك الملعون"

خانها نشيج متوجع ورفعت وجهها الباكي إليه فتابع وهو يلامس الآثار على رقبتها

"كنت تخنقين نفسكِ "

هزت رأسها نفياً وابتعدت ملوحة بيديها في الهواء، لم يفهم منها ولم تستطع الشرح فاختنقت ببكاء من عجزها فتنهد بحرارة واقترب يضمها مرة أخرى

"اهدأي، أنا هنا"

دفعته وعادت تحاول عبثًا الشرح ولما يئست منه اندفعت لتلتقط دفترها وقلمها وتخط شيئًا، رفعت الدفتر أمامه ليقطب مردداً ما كتبته

"هناك شبح"

لوحت بيدها نحو الباب ثم أحاطت عنقها بكفيها

"شبح دخل الغرفة وحاول خنقك؟"

هزت رأسها مرارًا فتنهد ماسحًا على شعرها

"ليس هناك شبح يا حبيبتي، كنتِ تحلمين"

هزت رأسها نفياً بإصرار وأشارت لآثار عنقها فلامسها بحنان

"هذه آثار يديكِ، لقد رأيتكِ تخنقين نفسكِ"

رمقته بخذلان آلمه قبل أن تطرق لتكتب شيئًا على الصفحة ثم رفعتها

"لم أكن أحلم. أقسم ، إنّه شبحه. يأتي دائمًا ويريد أخذي معه"

"شبحه؟ من؟"

كتبت ودموعها تسقط على الورق

"شبح تامر"

"من قال لكِ أنه شبحه؟'

دمعت عيناها بينما تكتب

"هو أخبرني"

"هل رأيتِ وجهه؟"

هزت رأسها نفياً، فتنهد بأسى، أمه أخبرته عن كوابيسها هذه، لا يرى سبباً سوى أنها تُحمِل نفسها ذنب ما جرى لتامر الذي لا يعرف أحد مصيره، يحتاج لرأي طبيب في حالتها ليفهم ما يحدث معها.

انتبه لنظراتها الخائفة تدور في المكان فضمها بحماية

"ﻻ تخافي، لن أدع أي شيء يؤذيكِ"

واحتضن وجهها مطمئنًا

"ألا تتذكرين كيف كنت أخيف الأشباح التي تأتي في أحلامكِ؟"

أومأت بعينين دامعتين فاتسعت بسمته ومال يقبل جبينها

"من الليلة لن يزعجكِ أي شبح"

تطلعت فيه بعينيها الواسعتين يضطرب الأمل داخلهما

"لن يجرؤ أحد على أذيتكِ  في وجودي"

تعلقت بعنقه تبكي بحرارة ومسح هو على ظهرها برقة بينما يتمتم واعدًا

"لن أترككِ وأرحل مرة أخرى، سامحيني. لن أفعلها مرة أخرى"

شعر بها تهز رأسها بضعف تخبره أنّها تسامحه وتصدقه، وتثق بوعده، أنّه لن يخذلها مجددًا.

 

ظل جوارها حتى غرقت في النوم، دثرها برفق ثم نهض ملقيًا نظرة أخيرة على وجهها وغادر بعدها إلى غرفته. ارتمى على فراشه بتعب وتعلقت عيناه بالسقف لحظات طويلة وخيوط أفكاره تتسلل واحدة بعد الأخرى حتى توقفت على خيال رواء.

ليتها تعرف كم أحبها وكان صادقًاً وكم كسره فراقهما قبل أن يكسرها هو.

قاوم حتى لا يغرق في يأسه وعذابه أكثر وانحنى بفكره متذكرًا شيئًا آخر يقلقه. نهض ليلتقط هاتفه ويتصل برويدا

"لنرى أين ذهبت تلك المتهورة؟"

قابله نفس الصوت المعدني

"لماذا تغلق هاتفها هكذا؟"

عاود الاتصال بمدير أعمالها الذي لا يرد هو الآخر منذ أيام، كاد يغلق الخط يأسًا حين انفتح الخط

"مرحباً"

"أخيراً، مرحباً يا جون. هل تعرف كم مرة اتصلت بك يا رجل؟"

رد معتذراً

"آسف يا سيد سالم، الأمور هنا كلها على رأسي ولم أجد الوقت لأتصل بك"

قطب وقلقه يزداد

"هل كل شيء على ما يرام؟ وصلتني رسالة من بلانكا قالت أنها مسافرة ومن وقتها وهاتفها مغلق"

أجابه بعد ثوان

"نعم، سافرت وتركت كل شيء على عاتقي"

"أين سافرت بالضبط؟"

"حجزت تذكرة وسافرت لإحدى الجزر الاستوائية، لا أعرف أين بالضبط"

قطب بتوجس وواصل جون

"من الجيد أنّها فعلت، أعصابها كانت متعبة للغاية في الفترة الأخيرة وبدأت تتوهم الكثير من الأشياء"

تمتم بشك
"أنت متأكد أنّها تتوهم فقط، كلامها أقلقني كثيرًا"

"أنا متأكد… كل هذا بسبب الضغوط التي مرت بها مؤخرًا، كانت في حاجة لبعض الاسترخاء. لا تقلق عليها، بالتأكيد عندما تعود ستكون في حال أفضل"

تنهد بقوة ثم قال

"أرجو هذا، حسناً، إن اتصلت بك قل لها تتصل بي لأسمع صوتها"

"بالتأكيد، سأبلغها أن تكلمك في حال اتصلت"

ودعه بعد أن أكد عليه إبلاغه بأي شيء طارئ، أغلق الهاتف وألقاه جانباً وارتمى على فراشه مغمضاً عينيه

"كوني بخير يا رويدا، لا ينقصني أن أقلق عليكِ وأنا مكبلٌ هنا"

*******************

 

استعادت تارا قناعها البارد بينما تقترب من أمها التي استأذنت من ضيوفها لتنتحي بها جانبًا، مالت نحوها وشفتاها تحافظان على ابتسامتها

"ماذا تفعلين؟ كيف تتركين زوجكِ وتقفين مع إيهاب هكذا؟  ماذا سيقول الناس؟"

حافظت هي الأخرى على ابتسامتها التي ناقضت برودة ردها

"ماذا سيقولون؟ وماذا يهمكِ أصلاً؟ أنا أرحب به كما أفعل مع أي ضيف"

رمقتها بنظرة جانبية 

"من يراكما لن يقول أنّه "أي ضيف"، انتبهي لتصرفاتكِ جيداً"

انقبض قلبها مع المعاني المبطنة في رد أمها التي أردفت بصرامة

"اذهبي وقفي بجوار أسامة، لا أريد أن يشعر أحد بوجود مشكلة بينكما"

منحتها ابتسامة صفراء 

"سأذهب إذن لأكمل دوري في مسرحية الليلة، بعد إذنكِ"

وتركتها دون أن تعبأ في بالغضب الذي اشتعل في عينيها، تحركت في طريقها إلى أسامة حين غافلتها عيناها إلى حيث وقف إيهاب. توقفت خطواتها بصدمة حين رأت الفتاة التي تعانقه، رفعت عينيها إلى وجه إيهاب المندهش والذي سرعان ما ابتسم بترحيب. 

تحركت قدماها بإرادة منفصلة تدفعها نحوهما بينما يبدو من تعابيرهما المتتابعة بين دهشة ومرح وضحكات مرحة أنهما على معرفة وثيقة للغاية،

وثيقة إلى درجة غير مريحة… ومستفزة.

كانت على مقربة حين سمعته يقول ضاحكًا 

"هكذا فقط، حسنًا. أنا مدين لكِ بواحدة، لكن لا تخبري أحدًا من الشلة أنّكِ التقيتِني وإلا سأفلس"

ضحكت الفتاة وهي ترجع خصلاتها للخلف، ثم تلفتت حولها كأنما تبحث عن أحدهم

"ذكرتني الآن، تارا كانت"

"مرحبًا"

قاطعتها بتحيتها الباردة ولم تنتبه أنّ الفتاة تلفظت باسمها إلا حين التفتت لها الفتاة ضاحكة وقالت

"آه ها أنتِ ذا"

حدقت فيها تارا بدهشة لثوان 

"جيلان، هذه أنتِ؟"

"اشتقت لكِ يا فتاة"

صاحت وهي تندفع لتحتضنها، وبادلتها تارا عناقها بدهشة 

"ﻻ أصدق، أراكما معًا بعد كل هذه السنوات"

قالت جيلان وهي تنقل بصرها بينهما

"كنت لتوي أسأله عنكِ ، وكما توقعت... تقفزين فجأة عندما تقترب منه أي فتاة"

شحب وجهها بشدة مع كلماتها والتفاتة إيهاب بصدمة، لتردف جيلان موجهة كلامها إليه 

"لم تتغير أبدًا، ما زالت غيرتها عليك تدفعها لـ"

صمتت عندما وقعت عيناها على يد تارا فشهقت 

"هل تزوجتما؟"

تلفتت تارا حولها بفزع وقبل أن يصحح أحدهما لها صفقت مواصلة

"كنت أعرف أنّ هذا سيحدث، لستِ سهلة أبدا يا تارا. في النهاية حققتِ ما كنت تريدينه"

"جيلان، لحظة... أنتِ لا تـ"

"ربحت الرهان مع أولئك الحمقى، من يعرف العشاق مثلي؟ كنتما مفضوحين كُليًا"

وتنهدت بهيام 

"صدقاني، كنت أنتظر اعترافكما وزواجكما بفارغ الصبر وصُدمت عندما سافر إيهاب فجأة وساءت حالتكِ يا تارا"

شعرت بحرقة دموعها وجيلان الحمقاء كعادتها، تواصل ثرثرتها دون تفكير، لم تستطع النظر نحوه لكنّها كانت تشعر بكل نظراته الذاهلة

"لن يصدق الشباب حين أخبرهم بما..."

أوقفت ثرثرتها حين رن هاتفها واعتذرت منهما

"عذراً. آلو... نعم حبيبي... تمام، أنا قادمة حالاً"

أغلقت الهاتف ونظرت لضحيتيّ قنبلتها 

"خطيبي يبحث عني، سأذهب إليه قبل أن تخطفه إحدى فاتنات الحفل"

وغمزت لتارا التي تموت في جلدها

"ليتني أملك نظراتكِ القاتلة التي كانت تبعد أي فتاة عن إيهاب"

كادت تبكي أو تستسلم لرغبتها في ضربها لتخرس، بينما أخرجت جيلان بطاقتين من حقيبتها أعطتهما لهما 

"هذه أرقامي، يجب أن نلتقي مرة أخرى. هناك الكثير لنتحدث عنه"

عانقت تارا ثم ابتعدت مودعة إياهما

"أراكما لاحقا يا شباب"

لم يلتفت لابتعاد جيلان، ولا يزال في صدمته محدقًا في تارا، تحرك نحوها خطوة 

"تارا، ما الذي كانت تـ .."

تراجعت بشهقة خافتة ثم دارت على عقبيها مسرعة، خُيل إليه أنه هتف مناديًا إياها لكن صوته ضاع وسط صخب الموسيقى الذي تعالى بمقطوعة جديدة، اندفعت دون تفكير نحو أسامة الذي التفت مقطبًا بتساؤل حين ضمت نفسها إليها

"تارا"

ردد اسها مصدومًا قبل أن يحاول إبعادها ناظرًا حوله بحرج

"آسفة يا أسامة"

تجمدت يداه ولم يبعدها، تساءل بتوتر

"تارا، ماذا تفعلين؟"

أخفت دموعها في صدره لكنّها خانتها في صوتها

"أرجوك، هذه المرة فقط.. انس كل شيء، وضمني. هذه المرة فقط أرجوك"

مرت ثوان قبل أن يضمها فعرفت أنّ شعوره بالذنب نحوها غلبه من جديد، شدها فجأة نحو ساحة الرقص يمنحها المهرب الذي شعر بها تحتاجه. دار بها لتلقي عيناها بعينيّ إيهاب، والجرح داخلهما أوجعها فأسرعت تدفن عينيها الدامعتين في صدر أسامة، تريد أي ملجأ يحميها الآن حتى لو كان هذا الملجأ مجرد... زوج على الورق.

********************

 

الانتقام،

يقولون أنّه طبق يُفضل أن يُقدم باردًا، لكن في سبيل ذلك عليك احتمال الاحتراق في ناره.

وهو يحترق منذ سنوات وناره لا تهدأ ولا يبدو أنّها ستخمد حتى يأخذ حقه من سالم، وربما حتى بعدها لن تفعل.

أحيانًا يتساءل إذا ما كان باستطاعته أن يتجاوز الماضي لو أراد لكنّه يشك، كلما تذكر تلك الليلة، تلك الطعنة، يذوق في كل مرة ذات المرارة.

كيف ينسى؟ كيف يعيش حياته كما يفعل ذلك الخائن؟ من ظنه يومًا 

 

تعلقت عينا شاهين بالأمواج في شرود، ملامحه لا تعكس رحى العاصفة الدائرة في أعماقه، فقط السواد الذي طغى على عينيه حتى كاد يغلب زرقتهما كان الدليل عليها.

فك ربطة عنقه مقاومًا اختناقه وأتبعها أول زرين من قميصه، تخلل شعره الأشقر بأصابعه في عصبية

قريبًا يصل إلى غايته... لن يطول الوقت حتى يحقق ما يريده.

شرد عقله إلى رويدا وتردد صوت ضعيف داخله يلومه، أن لا ذنب لها في صراعه مع سالم لكنّه أسرع يخرسه هامسًا بنقمة

"ذنبها أنها نقطة ضعفه، ذنبها أنها وثقت بخائن مثله... حمقاء"

 

ركل الرمال بينما يشرد عقله بلا إرادة إلى أول مرة رآها مع سالم الذي لم يتوقف عن مراقبته منذ انتهت صداقتهما. لم يتوقف عن انتظار فرصة يقع فيها ويظهر نقطة ضعف يمكنه أن يؤتى منها ليرد له الصاع.

كاد يصرف النظر عن استغلالها ظنًا منه أنّها مجرد نزوة في حياة سالم لولا أن أدرك أنّها ليست كذلك، لم تكن امرأة عابرة، كان يهتم كثيرًا لأمرها ويحميها باستمرار.

بحث في ماضيها وجمع كل المعلومات عنها ليعرف كيف يقترب منها، لكن سالم اكتشف سريعًا ما يخطط له وبدأ يحميها مؤكدًا له بالفعل أنّه كان محقًا في شكوكه بشأنها.

تلك المرأة غالية عليه جدًا ولن يسمح لأي أذى بالاقتراب منها.

تمتم ويداه تنقبضان بقوة

"أخطأت حين ظننتني تراجعت يا سالم، كان عليك أن تأخذ تهديدي على محمل الجد"

وابتسم بشيء من الشماتة والمرارة

"ما كان عليك أن تهرع خلف جدك وتتركها وحدها هكذا"

 

ارتفع رنين هاتفه مقاطعًا خلوته فالتقطه، نظر للشاشة بملل حين رأى اسم ابن عمه لكنه اضطر للرد

"نعم يا سِكندر... نعم أسمعك… أنا في الجزيرة"

"في الجزيرة؟ ماذا تفعل هناك؟"

أبعد الهاتف قليلاً عن أذنه مع صياحه الحانق

"هل نسيت اجتماع الغد أم أنّك تتهرب وتنوي ترك كل شيء عليّ؟"

رد ضاحكًا

"أنا لم أهرب لأستجم. أنا في مهمة عمل سرية"

قال سِكندر ساخرًا

"نعم بالطبع، مهمة عمل سريعة... حسنًا، ابق مع مهماتك اللعينة هذه ولست مسؤولا عما سيفعله عمي إن وصله الخبر"

ابتسم وهو يتحرك مبتعدًا عن الشاطئ ويتجه إلى الفيلا

"أنا عائد في الغد، لا تقلق"

غمغم بتهكم

"أشك في ها لكن ما باليد حيلة"

وعده مبتسمًا بهدوء

"لن أتأخر أعدك، سأصل في الموعد"

"سأدعي أنني أصدقك... أراك غدًا"

ودعه وأغلق الهاتف لتختفي ابتسامته وعيناه تتوقفان على الطابق العلوي لتعود إليه أفكاره الانتقامية.

أسرع للداخل مغمغمًا

"أتمنى أن أرى وجهك حين أرد لك صفعة خيانتك يا سالم"

 

اندفع يقفز السلالم إلى جناحه، وقلبه يقفز ترقبًا ليرى كيف قضت الساعات الماضية. مؤكد استيقظت منذ ساعات وقد تركها وحدها فترة كافية لتستوعب صدمتها.

توقف عند الباب وأخذ نفسًا قويًا ومحى ابتسامته، أدار المفتاح في ثقبه وفتح الباب ليدخل بهدوء. 

كل الاحتمالات التي دارت بعقله لم تعده للمشهد الذي قابله، خزانة الملابس الكبيرة تبعثر محتواها كله على الأرض. رمق بشفقة بعض ملابسه التي تمزقت بوحشية، جوارها الملابس الغالية التي اشتراها لها، ويبدو أنّها خمنت هذا فوجهت دفة جنونها إليها.

كتم ضحكته بصعوبة بينما يدير عينيه في المكان الذي ضربه إعصارها الجنوني، الفراش مبعثر ومفارشه مرمية أرضًا، أدوات الزينة وزجاجات العطور مهشمة هي الأخرى ورائحتها النفاذة هي ما صدمه أول ما دخل.

"فراشة مجنونة"

غمغم محدثًا نفسه بتسل، لو عرف أنّ هذا سيكون مصير جناحه  لحبسها في جناح الخدم لكنّ قلبه لم يطاوعه. صيده الثمين وعليه أن يقدره جيدًا. 

لكن أين هي فراشته الأسبانية؟

تساءل بقلق وهو ينظر نحو الشرفة المشرعة الأبواب، و قبل أن يفكر في الاحتمال الثاني ارتفعت صرختها من خلفه فالتفت برد فعل سريع. تفادى بمعجزة قضيباً معدنياً لا يعرف من أين أتت به وفي لحظة ارتفعت قبضته تمسكه بينما تصرخ بجنون

"أيها الحقير، ما الذي فعلته بي؟"

أسرع يمسك ذراعها الأخرى يحبسها بقبضته، شهقت وهي تجد نفسها ملتصقة به بينما يده الأخرى تضغط على كفها الممسكة بالقضيب بقوة آلمتها ودفعتها لتتخلى عنه فسقط بدوي عنيف.

التفت ذراعه بسرعة حول خصرها، يشدها ويأسرها بين ذراعيه، صرخت تضربه بقبضتيها بقوة

"أيها القذر... اتركني... سأقتلك"

ركلاتها العنيفة لساقيه لم تجد نفعًا بينما تمطره بقاموس طويل من الشتائم الأسبانية واللعنات. أبعد وجهه مدعيًا الضيق

"ما هذا؟ هل تربيت في أزقة أسبانيا يا فراشة؟ لم أتوقع أنّ لكِ هذا اللسان البذئ"

جُن جنونها أكثر وركلته بكل قوتها

"إن لم تتركني ستعرف اللسان البذيء بحق... دعني"

فكر بتسلية وهو ينظر لها، لم تخب ظنه، لعبة انتقامه ستكون أكثر متعة فيما يبدو.

لا بأس ببعض التسلية حتى لحظة دفع الثمن.

*************

كل الانفعالات التي فجرتها في التحطيم والتمزيق لم تقلل من غضبها ونارها تجاهه، لقد تعمد الوغد تركها كل هذا الوقت ليعذبها بالقلق والخوف ثم يأتي الآن ليتسلى، يستعرض أمامها ويعبث بتهديداتها، حتى شتائمها يبدو أنّها لا تزيده إلا سخرية منها.

ترى لمعة التسلية في عينيه، يهزأ بها ذلك الأحمق.

دفعت بقدر أكبر من الشراسة في صوتها تأمره بغضب 

"قلت اتركني وإلا ستندم"

لوهلة ظنته سيستجيب لتهديدها لكنّه استدار بها فجأة ودفعها للخلف لتجد نفسها ملتصقة بالحائط. اتسعت عيناها بجنون بينما يردد بعبث، وقبضتاه تقيدان معصميها إلى جانب رأسها

"ميا آمور، أشتاق حقًا لرؤية ما لديكِ لكن ليس الآن. ما زلنا في البداية"

حدقت فيه بصدمة تحاول استيعاب ما يقوله ثم صرخت بشراسة وهي تقاوم قبضتيه

"أيها الحقير... اتركني... سأقتلك لو لمستني"

أمسك ذقنها يرفع وجهها إليه فقاومت رجفة أصابتها وهي تنظر في عينيه

"مرة أخرى تستقبين الأمور يا فراشة"

خفق قلبها بجزع حين شعرت به يميل نحوها حتى شعرت بأنفاسه على شفتيها وتجمدت لثوان، لكنّه سرعان ما رفع عينيه تلمعان بخبث وابتسم

"بقدري رغبتي الشديدة بفعل هذا لكن أخشى أن تكونا مسمومتين كلسانكِ الجميل"

تسارعت أنفاسها واهتز قلبها بغضب يغلي بينما يمط شفتيه بأسف مصطنع

"لا أريد الموت الآن"

صاحت بوحشة وهي تقاوم حصاره

"سأقتلك... سأجعلك تندم غاليًا على اختطافك لي أيها..."

تابعت وصلة شتائمها الأسبانية بشتائم أكثر انحطاطًا فتنهد بافتعال وردد وهو يميل نحو شفتيها

"يبدو أنّه ما باليد حيلة"

في اللحظة التالية توقف قلبها بعنف وصرخ كل عصب فيها برغبة وحشية في القتل بينما يجاهد عقلها ليعود للعمل وما كاد يفعل حتى كان شاهين قد ابتعد بابتسامة ظافرة

"خاب ظني"

قال بعبث وهو يلامس شفته بلسانه 

"ليستا مسمومتين كما خشيت"

صدمتها انتهت مفسحة المجال لغضبها فانفجر، رفعت يدها وهوت على خده بصفعة أودعتها كل قوتها

"أيها الحقير"

أغمض عينيه لثانية قبل أن يفتحهما ناظرًا لها ببرود

"إياك أن تلمسني مرة أخرى، سأقتلك إن اقتربت مني"

انقطعت كلماتها بشهقة حين قبض على رسغها وشدها خلفه ناحية الشرفة.

"ماذا تفعل؟ توقف. دعني"

لم يتوقف حتى دفعها للشرفة، قاومت حتى لا تهزمها دموع القهر بينما رفع ذراعه يحركها على امتداد المنظر أمامها

"انظري أمامكِ"

شوشت الدموع عينيها رغماً عنها بينما تنظر للشاطئ عاصف الأمواج والأشجار المحيطة بها بينما تراجع خطوة ليقف خلفها ومال هامساً في أذنها

"أنتِ في جزيرتي يا فراشة"

سرت انتفاضة بجسدها بينما يواصل بنبرة زادتها ارتجافًا

"وأنت هنا أسيرة، لن تستطيعي فعل شيء ولن تخرجي من هنا إلا بإرادتي أنا"

وأزاح خصلاتها الكستنائية الطويلة عن عنقها فارتعدت ولم تأت بحركة بينما تشعر بكفيه تمسكان عضديها

"من هذه اللحظة مصيركِ  بيدي ماريبوسا"

انتزعت نفسها منه لتستدير وتواجهه بعينين عاصفتين لم تدر أن الدموع غزتهما

"ماذا تريد مني؟"

لم يجبها ولوهلة شعرت بعاصفة أشد من تلك التي تضرب الشاطئ قربهما تندلع في عينيه قبل أن ينتفض قلبها لرده

"أريدكِ  يا ماريبوسا"

تراجعت بارتجاف حتى اصطدمت بالسور بينما يقترب كصياد خطر ومال نحوها

"أريد حياتك،  ونفسك، والأهم منهما روحك"

تجمدت وقلبها ينبض بنذير خطر وأمسك هو بذقنها يجبرها على النظر في عينيه

"أريد كل شيء وسأحصل عليه، سأسرق كل ذرة حتى لا يبقى سوى خواء... وعندما أنتهي منكِ ، عندها فقط سأطلق سراحك"

وعاد يحرك كفيه بنعومة فوق ذراعيها

"ولتدعي الله وقتها أن يبقى في جناحيَك بعض القوة ليحملاك بعيدًا عن هنا"

تركها بعدها وكلمات وعده تتردد داخلها بنذير مخيف جعل قلبها يضيق بجزع وكأنّها ترى عبر حجب الغيب ما سيكون عليه مصيرها إن لم تنج بنفسها من هنا.

********************

اختلست جميلة النظر عبر المرآة لزوجها المنهمك في القراءة بالمصحف، فكت عقدة شعرها لينسدل خلف ظهرها وعقلها يعمل في حيرة... كيف تخبره؟ تتوقع كيف ستكون رد فعله لكنها رسالة ويجب عليها أن تبلغها.

خانتها تنهيدة جعلته يرفع رأسه إليها والتقت نظراتهما، تنفست بتوتر وهي تخلع قرطيها ليناديها مترفقا

"جميلة"

"نعم يا حاج"

ابتسم وهو يضع مصحفه مكانه وربت على الفراش جواره

"تعالي"

كانت تعرف أنها غير قادرة على خداعه أبدًا، كانت شفافة دائمًا أمامه وبنظرة واحدة يدرك ما بها. اقتربت بتردد لتجلس جواره فمد يده يداعب خصلاتها الطويلة وشرد قليلا لسنواتهما معا منذ كان في الثانية عشر من عمره وحتى اللحظة

"ما بكِ؟ منذ عدت من عند سمراء وأنت متوترة... هل حدث شيء لا قدر الله؟"

"بعد الشر عنها، ابنتنا بخير يا حاج لا تخف عليها"

"إذن ماذا يشغلك هكذا؟"

رمقته بتردد فشد رأسها إلى صدره 

"ما الذي تخفيه عن بدر يا جميلة؟ هل تظنين أنني كبرت وأصبحت عاجزا عن قراءتك؟"

ربتت على صدره

"ما عاش ولا كان من يظن بك هذا يا حاج"

ضحك قائلًا

"دائما تأكلين بعقلي حلاوة يا أم رواء، من أول يوم رأيتك فيه"

ابتسمت بحنين وهي تلامس قلبه تستعيد يوم التقته، لا تعرف كيف كانت حياتها ستكون لو أنّها لم تلتق به، هو من أخذ بيدها في هذه الحياة، كان معلمها الذي تدين له بكل ما تعلمته، كان مرشدها ولولاه لتاهت في هذا العالم القاسي.

حين تخلى عن كل شيء وهرب معها وهي في السادسة عشر بينما هو لم يكمل العشرين، كان يفتح لها أبواب الحياة، إن لم ينقذها من مصيرها مع قبيلتها، كانت ستضيع للأبد، ولربما التقيا بعد سنين ليراها راقصة في أحد الموالد، ينهش السكارى مفاتنها بنظراتهم وتقتات من النقود التي يرمونها تحت قدميها.

كان بدرها الذي أرسله الله لينير لها طريقها ومستقبلها، مهما فعلت لتشكره لن توفيه حقه، جميلة في النهاية صنيعة بدر وابنته الأولى كما كان يخبرها دومًا.

 

"جميلة"

انتبهت على ندائه فرفعت رأسها

"نعم يا حاج"

"أنعم الله عليك يا أم البنات"

عادت تبتسم لكلماته فضمها بحنان

"ألن تخبريني ما الذي يشغلك هكذا؟"

"أخشى أن أضايقك"

تنهد يخبرها

"وأنا أشعر بالضيق حين تكونين مهمومة هكذا... ما دمت سأتضايق في الحالتين فقولي ما عندك"

صمتت لثوان قبل أن تعتدل ناظرة له بتوتر

"اليوم... سالم وشقيقه أتيا لزيارة سمراء مرة أخرى"

أطبقت شفتيها لثوان عندما تغير وجهه ثم عادت تكمل

"أعرف أنك ما زلت تحمله ما أصاب رواء ولا تريد رؤيته لكن... في الحقيقة، ترجاني لأتوسط له عندك"

ضاقت عيناه بتوجس

"تتوسطين له في أي شيء؟"

حركت شعرها للخلف بتوتر

"قال إنه... يريد مقابلتك والحديث معك"

اعتدل مقطبا بضيق فأسرعت تربت على كتفه

"ﻻ تنفعل أرجوك، الشاب أخطأ قديماً وكذلك رواء، لا يمكن أن نحمله وحده الذنب. ربما لو جلست معه وسمعت ما يريد قوله نجد حلاً لـ"

قاطعها بحدة

"حلاً لماذا يا جميلة؟"

خفضت عينيها ارتباكًا تعرف أنّه سيغضب إن عرف ما فكرت فيه، أنّها تمنت عودة المياه لمجاريها بين ابنتها والشاب الذي أحبته، أنّها رأت أنّه يمكنه أن يكون حائطاً منيعاً ضد أبناء عمومتها، ربما كان هو داء ابنتها ودواءها في الوقت نفسه

"ظننت أنّه ربما..."

ترددت لحظة قبل أن ترفع عينيها له وقد حزمت أمرها

"اسمع يا حاج، الشاب ما زال يحب رواء ويريدها"

هتف اسمها بحدة لكنّها واصلت

"نظراته لها تفضحه، إنّه يحبها ونادم بشدة. رأيي أن تجلس معه وتسمع منه. لقد ترجاني بشدة"

وترتها نظراته المتفحصة قبل أن يسألها

"ما الذي تريدين أن تصلي إليه؟"

لم ترد فهز رأسه مجيباً عنها

"تعتقدين أنّ زواجها منه سيبعد عائلتي عنها وعن شقيقتيها وأنّه سيقف لأبناء عمومتها بعد موتي"

أسرعت شاهقة تغطي فمه

"بعد الشر عنك يا بدر، سامحك الله"

رقت عيناه لحظة بينما تردف

"أطال الله عمرك وحفظك لنا"

صمت مقطبًا لثوان ثم تنهد 

"اسمعي يا جميلة، ربما يضايقكِ كلامي لكنني لن أرمي ابنتي إلى تلك العائلة"

قطبت بيأس وهو يردف

"رواء لن تتزوج ذلك الشاب بعد ما فعله بها"

حاولت الاعتراض لكنّه أسكتها بإشارة

"حتى لو كان نادماً وصادقًا بشأنها، أنا لن آمن عليها في بيت جده"

واسودت عيناه وبدا شاردًا عنها لذكرى بعيدة قبل أن يتابع

"يكفي ما فعله بنا، لا أملك القوة الكافية لحمايتكن هذه المرة"

دمعت عيناها ومالت برأسها لصدره

"ﻻ تغضب مني يا حاج، الخوف والألم على حالها هو ما جعلني أفكر في هذا. قلت ربما أعاده الله الآن لينقذها ويعيدها كما كانت"

تمتم ساخراً

"وداوني بالتي كانت هي الداء"

ران الصمت قليلاً قبل أن يناديها بحنان

"نعم يا حاج"

ضحك مداعباً شعرها وقال ليغير مجرى الحديث المؤلم

"لولا أنّكِ ناديتِني باسمي منذ قليل لظننتكِ نسيتِه"

ابتسمت بشحوب 

"هل يزعجك؟"

"ﻻ، لكن ما دمنا وحدنا لا تناديني إلا باسمي"

"حاضر يا حـ... بدر"

ضحكت مصححة وبادلها ضحكتها، قبل أن يسترخي ويضمها بين ذراعيه

"نامي الآن ولا تشغلي بالكِ ، زوجكِ سيهتم بكل شيء"

أومأت وهي تغمض عنييها وهي تطمئن قلبها بوعده كما فعلت طيلة عمرها عارفةً أنّه لن يخذلها هي وبناتها أبداً.

**********************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

قلبُ السراي

اقرأ المزيد