القصة كاملة

أمواجُ البحرِ التي تضرب صخور الشاطئ بمثابرة، نسيمُه الباردُ بشجونه وحكاياته التي لا تنتهي، غيماتُ الشتاءِ المنذرة بمطرٍ وشيك، امتزجت كلُها في روح وقفت هي لتحتويها في أنفاسٍ عميقة، عيناها الغائمتان بسحبٍ توشك هي الأخرى على سَكْبِ أمطار حزينة لا تدري سببًا لتجمعها في روحها، والمشهدُ أمامها يزيدُ تلك العواصف الرمادية داخلها ويعصفُ بالستار الذي يحجبُ عنها رؤية ما يعتمل بأعماقها ويكاد يدفعها للبكاء.

تحركت بعد لحظات طوال لم تعرف كم استمرت، تتابع طريقًا تحفظ قدماها خطواته.

لا تتذكر تحديدًا متى أصبحت تلك عادة لديها ... منذ وقعت في غرام ذلك المكان أصبح طقسًا مقدسًا لا يكاد يمر يومها دونه ... في ذلك الركن العزيز الذي صار يحفظها وتحفظه.

ثارت موجةٌ وهب النسيم يغمرها ببرده فرفعت كفيها تضم طرفيّ سترتها الصوفية بينما تسرع خطواتها لتعبر الباب ... عانقها الدفء ولفتها ذبذبات ناعمة تعرف فيها عقلها الذي يجاهد عبر غيمات الشرود صوت فيروز الدافئ.

عيناها الغارقتان في عالم آخر التقطتا بلا وعي أشباحًا جالسة لرواد المكان وشبحًا آخرًا للنادلة يروح ويجيء ... في السابق كان يحلو لها مراقبتهم لبعض الوقت قبل أن تفتح بوابة الخيال وتلج إليها منعزلة عن العالم كله.

عبرت الأشباح التي كانت في السابق بشرًا بحكايات شتى وأسرار تجول بين ثناياها وتلتقط خيوطًا تغزل منها أحرفًا فوق الصفحات البيضاء وتراقبها تخرج إلى النور رويدًا.

صورةٌ أو بضع كلمات عابرة تلتقطها كانت كافية لتشعل شرارة البعث في إحدى الحكايات الغافية في أعماق عقلها المزدحم بالحكايا.

اتجهت إلى ركنها العزيز في زاوية تطل على الشارع، اعتادت مراقبة المارة من خلالها، لكنّها الآن وهي تنظر عبرها لا ترى إلا نفس الأشباح الباهتة، ولا يتسلل عبر شبكيتيّ عينيها الغائمتين سوى البحر، والغيوم، وقطرات المطر التي بدأت تتساقط.

كان جوًا مثاليًا.

هل هناك أفضل من هذا الجو لتبدأ؟

اقترب شبح النادلة لتضع أمامها فنجان القهوة الذي اعتادت شربه قبل أن تبدأ طقس الكتابة ... كلمات النادلة لامست أذنيها كذبذبات غير مفهومة لم يبذل عقلُها جهدًا ليترجمها أو حتى ليفسح لها معبرًا للدخول.

"كيف اتسعت الفجوة فجأة لتفصلها عن الواقع هكذا؟"

سؤالًا تردد همسًا داخلها قبل أن يتبخر سريعًا دون جواب، ولم تحاول مطاردته فهزت رأسها تستجمع تركيزها لتفكر في الأهم.

حان الوقت لتتخلى عن ماديتها، وتحرر روحها لتفتح البوابة وتلج إلى عالمها الرحب.

ارتشفت القهوة وأخذت نفسًا عميقًا وأغمضت عينيها وتحررت ... ها هي على أعتاب البوابة، تمد يديها وتفتحها على مصراعيها، يفتح لها الخيالُ ذراعيه مُرحِبًا، يسمح لها أن تتجول بين أروقته الفسيحة، تقترب أكثر وأكثر من غايتها وخلال لحظات تعود وهي تضم بين يديها نبتتها الخضراء النابضة بالحياة تنتظر لحظة الميلاد.

فتحت عينيها تنظر إلى شاشة حاسوبها الشخصي والصفحة البيضاء تنتظر بشغف لتُغزل فوقها حياة جديدة … نفسٌ آخر عميق واستسلمت للتيار ... اختفى العالم المادي من حولها وتجسدت شخوص حكايتها، ومن قلبها مرورًا بأصابعها انهمرت الكلمات مثل قطرات المطر التي تضرب الزجاج بموسيقى خاصة ساعدتها لتستكين وتغرق أكثر في عالمها، تتحرك أصابعها بسرعة أكبر، تسابق الوقت لتحرر أكبر قدر من الحكاية قبل أن يأتي كعادته ويقطع خيط الإلهام.

"حبيبتي"

همسة دافئة ترددت قربها فور أن خطر في ذهنها.

انقطع الخيط وانفجرت الفقاعة ... تبخرت شخوص أبطالها، واختفى كل شيء، فترنحت روحها فجأة ثم استكانت قليلًا حين شعرت به يأخذ مكانه قربها.

التفتت إليه بنظرة عتاب تردد في صوتها وهي تهمس
"ألن تتوقف عن عادتك هذه؟"

قابلتها ابتسامته المشاكسة ولمعة عينيه فردت عنه بتنهيدة مستسلمة

"لن تتغير"

ضحك وهو يتراجع مسترخيًا في مقعده

"لا يمكنني .. بما أنني وحدي من يستطيع فعلها فيجب أن أستفيد من قدرتي هذه لأقصى درجة"

تنهدت مجددًا ونظرت بأسى للشاشة ... إنّه محق ... في السابق لم يكن أحدٌ قبله قادرًا على اقتحام فقاعتها ... ما أن تخطو إلى العالم الآخر حتى تنعزل عن الواقع بأكمله ولا تخرج إليه سوى بإرادتها ... هو وحده يستطيع ويبدو أنّه أصبح يستمتع بالأمر مؤخرًا، صار يحلو له انتزاعها من عالمها الخاص، وبسببه لا تستطيع إكمال روايتها.

"على هذا المعدل لن أنجز شيئًا"

غمغمت باعتراض فرد مبتسمًا وهو يهز كتفيه
"ما زلتِ تملكين الوقت"

رفعت أصابعها عن المفاتيح وتمتمت بتذمر

"بدأت أشك في هذا ... بإصرارك على مقاطعتي كلما رغبت في الكتابة، لا وجود لذلك الوقت أصلًا"

لم يرد وقطبت هي حين رأته منشغلا في إشعال سيجارة ... لا فائدة ... لم تسمح له بنفس إضافي وانتزعتها من فمه وقالت بحنق وهي تغرسها في منفضة التبغ

"هذه السجائر ستقتلك يومًا ... قلت لك ألف مرة يجب أن تهتم بصحتك أكثر من هذا"

مط شفتيه معترضًا ثم ردد

"لا تخافي، لن يقتلني هذا الشيء ... ثم قولي هذا الكلام لنفسك"

رمقته بدهشة فأشار برأسه نحو فنجان قهوتها 

"رقم كم هذا الفنجان؟"

نظرت للفنجان بحيرة ... لا تتذكر حقًا ... أليس أول فنجان؟ ... لا تذكر أنها طلبت غيره.

"هذا فنجانكِ الخامس بالمناسبة"

"أنت تمزح .. مستحيل"

هتفت نفيًا بإصرار فضحك قائلًا

"لا تنكري .. أنتِ تنسين نفسكِ حين تبدأين الكتابة، لكنكِ لا تنسين طلب القهوة وسط طقسكِ المقدس"

صحيح ... إن كان يمكن أن تعتبر نفسها مدمنة على شيء فهي مدمنة على الكتابة والقهوة.

"أرأيتِ؟ ... لا تستطيعين الإنكار ... أنتِ ضعيفة أمام القهوة"

تنهدت باستسلام

"أنت محق"

ظلت عيناها معلقتين بشرود بفنجان القهوة الذي كانت متأكدة أنها انتهت من شربه قبل قليل لكنه الآن ممتلئ عن آخره لم تنقص منه رشفة.

ماذا يحدث معها؟

هزت رأسها محاولة التركيز والتفتت تسأله

"أليس لديك عمل هام اليوم؟"

"هل تحاولين طردي؟"

سألها بابتسامة خبيثة فزمت شفتيها ليردد مردفًا

"ليس لدي عمل .. أنا متفرغ لكِ كليًا"

تمتمت متذمرة

"قل إنك متفرغ لتعطيلي عن إنهاء روايتي المسكينة"

انصبت نظراته عليها متفحصة عميقة قبل أن يقول

"لا أفهم حقًا .. ألا ترين أن هذه الرواية بالذات صارت هوسًا لديك؟ .. صرتِ تقضين أغلب وقتكِ إما في التفكير فيها أو في كتابتها .. تكاد تكون هي كل حياتكِ"

بصعوبة تحررت من أسر نظراته، والتفتت إلى الشاشة والكلمات التي تراقصت فوقها بطريقة غريبة

"قلت لك... هذه الرواية مختلفة ... إنها الخطوة التي كنت أنتظرها، الباب الذي سيفتح لي الطريق"

صمت هُنيهة يرمقها بنظرات هادئة ثم ردد

"أعتقد أنكِ حققتِ شهرة كافية من رواياتكِ السابقة"

هتفت بقوة

"أنت لا تفهم .. ما أريده ليس مجرد شهرة ... أريد أن أكتب ... الرواية التي لم تكتب بعد، الفكرة التي لم تولد ... أريد أن أكتب عملًا خالدًا لا مجرد رواية تُنسى بعد حين"

"تبحثين عن الخلود إذن"

أطرقت مرددة بهدوء

"رغبة الخلود تكمن في أعماق البشر وتحركهم وتحكم تصرفاتهم … البعض يبحث عنه في نسل يتوارث اسمه جيلًا بعد جيل والبعض يُعبِد الطريق إليه بكلمات أو أعمال تتناقلها الأجيال من بعده، صحيح؟"

أومأ مبتسمًا وأضاف

"وفي النهاية لن يبقى أحدٌ ليتذكر .. سينتهي كل شيء ويصبح أثرًا بعد عين"

لوت شفتيها 

"متشائم عدمي"

ضحك بتسامح لتردد هي بعد قليل بشرود

"لكنك تعرف أن هذا ليس فقط ما يحركني … لا تدفعني الشهرة أو رغبة الخلود بقدر ما أنني .. ببساطة لا أستطيع التوقف، تلك الأفكار والحكايات التي تتصارع داخلي … الأصوات التي تطالب بالتحرر … لا يمكنني إيقافها أو إخراسها، أريدها أن تتحرر وأريد للعالم كله أن يراها ويسمعها"

أنصت لها بابتسامة هادئة لتواصل بتذمر

"وأنت تعرف كل هذا وتفهمه، ومع هذا تصر على إفساد كل محاولاتي، وتتعمد قتل بنات أفكاري في مهدهن"

انتظرت رده لثوان قبل أن تلتفت له بتساؤل فقابلتها نظراته بشيء من العتاب والتسامح

"ما الأمر؟"

سألته بزمة شفتين
"هل تنكر أنّك تتعمد ذلك؟"
"لن أنكر"

أخبرها ببساطة وهو يعقد ذراعيه فوق صدره وكادت تضحك حين أردف كطفل متطلب مدلل
"أكره أن تهمليني بسبب شغفكِ الجنوني بكتابة الروايات"
هزت رأسها ضاحكة
"ظننت أنّ هذا السبب بالذات كان ما أوقعك في حبي"

خيم الصمت قليلًا حتى ظنته لن يرد بينما تعلقت عيناه هو بالنافذة الزجاجية بشرود بدا معه أنّه يستعيد ذكرى من الماضي ... ابتسم أخيرًا وهو يعود بناظريه إليها وقال
"هل تذكرين؟ هنا كانت أول مرة أراكِ فيها"

وأشار نحو النافذة لتنظر بدورها إليها
"كنتُ مشغول البال يومها وأمرُ بمشكلة معقدة، ومررتُ بشرود من هنا .. لا أعرف ما الذي أوقفني فجأة وجعلني ألتفت وأنظر عبر النافذة .. رأيتكِ لحظتها ونسيتُ كل مشكلتي وهمي"

لمع الحنين في نظراته وابتسم فابتسمت بدورها بينما يكمل بعد تنهيدة
"لا أظنني رأيت شيئًا ساحرًا كما رأيتُ لحظتها ... كنتِ تكتبين ... جسدكِ أمامي وأصابعكِ تتحرك على لوحة المفاتيح لكنّ روحكِ بدت لي هائمة في مكان آخر ... لا أعرف كم من الوقت وقفتُ هناك أراقبكِ ... كل تعبير ارتسم على وجهكِ … كل لحظة ألم وحزن وسعادة ... حياة كاملة … شعرتُ أنّكِ تتنقلين بين أشخاص عديدين .. روحكِ تتنقل كفراشة هنا وهناك .. لا أعرف كيف أصف شعوري تحديدًا .. ربما حسدتكِ لحظتها"

أنصتت مليًا ومالت تسند ذقنها إلى راحتها تنظر له مبتسمة وهو يكمل
"أنا الغارقُ في الواقع بماديته وجموده، المقيدُ إليه بقيود ثقيلة حسدتكِ ... أمام عينيّ كنتِ تتألقين، تملكين جناحين غير مرئيين ... ودون أن أشعر تولدت داخلي رغبة وأمنية انسقت خلفهما"

نظر في عينيها واتسعت ابتسامته بينما يردف
"لم أتحرك من مكاني يومها إلا حين انتهى السحر وعدتِ إلى الواقع ... وجدتُني أتبعكِ خشية أن تضيعي ولا أراكِ مجددًا ... بعدها عرفتُ أنّكِ تأتين إلى هنا يوميًا لتقضي ساعاتٍ في الكتابة وصرتُ بدوري آتي لأراقبكِ من إحدى الطاولات هناك حتى امتلكت الشجاعة لأقترب منكِ واخترق عزلتكِ"

قالها مشيرًا إلى طاولة عبر المكان لتتذكر ذلك اليوم حين انتبهت إليه أخيرًا ... لا تنكر أنّها ظلت لأيام ينتابها ذلك الشعور أنّ شخصًا ما يراقبها من مكان قريب لكنّها اعتادت العيش مع خيالاتها … اعتادت سماع أصوات أبطالها والشعور بهم داخلها وحولها، لذا لم تلق بالًا لشعورها ذاك حتى أخذ هو الخطوة الأولى واقتحم عزلتها ذلك اليوم ليعرفها على نفسه ويخبرها ببساطة أنّه معجبٌ بها.

أخفت ضحكتها خلف كفها فحدجها بلوم
"هل تضحكين على إحراجكِ لي يومها؟"
تحررت ضحكتها بخفة وهزت رأسها نفيًا
"لا .. تذكرت فقط كلماتي الحمقاء"

مط شفتيه بابتسامة ساخرة وقال مقلدًا إياها
"لقد قطعت حبل أفكاري يا أستاذ .. هل تعرف كم انتظرت هذه اللحظة؟ .. كان البطل على وشك أن .."

قطع جملته وقطب مفكرًا
"كان على وشك ماذا؟ .. لا أتذكر"

انفجرت ضاحكة
"لا تتذكر لأنني لم أكمل جملتي"
"صحيح .. تذكرت .. لقد انتبهتِ لحظتها لوقوفي كالأبله محرجًا من صوتكِ المرتفع الذي لفت أنظار الجميع إليّ"

هزت كتفيها مرددة وهي تحاول التحكم في ضحكتها
"على أساس أنّك ظللت محرجًا .. ألم تصدمني وتجلس دون دعوة وتبدأ في تعريفي بنفسكِ؟"

عادت تعيش تلك الذكرى بكل تفاصيلها لينبض قلبها بسعادة تشعر أنّها افتقدتها منذ وقتٍ بعيد ... كم تشعر أنّه مرت أبدية منذ ذلك اللقاء الأول بينهما ... منذ متى لم تضحك هكذا؟ ... منذ متى لم يتحدثا معًا دون عتاب أو شجار؟

منذ تدخل الواقع بينهما ربما ... أو منذ عاد الخيال ليطالب بحقه فيها وينازعه عليها.

كان أول شخص يقتحم عزلتها وينتزعها من عالمها. كان الخيال بيتها الدائم وكيانها، والواقع كان محضَ محطات استراحة وسط رحلاتها المستمرة في مخيلتها، حتى أتى هو ومد يده يشدها إلى عالمه ... لم تعرف كيف وقعت في حبه واستسلمت لصدى مشاعره، لفترة من الزمن تخلخل رابطُ اتصالها بالخيال وفرض الواقع وجوده عليها.

كانت تعرف أنّها امرأةٌ خيالية لا تنتمي إلى هذا العالم بواقعيته السوداوية وماديته الخانقة، لكنّها لم تتوقع أن تنقسم لنصفين يتعاركان كل يوم لفرض السيطرة عليها.

نصف يريد منها البقاء ثابتة القدمين على أرض الواقع لأجله، ونصف يحثها على العودة إلى عالمها الأصلي، يغويها بمتعة التحليق في سمائه الواسعة.

الخيال كان القاعدة والأساس أما هو والواقع كانا استثناءً وحدثًا طارئًا على حياتها.

كيف تصورت وهي بشخصيتها هذه أن تنجح معه؟ ... كيف اعتقدت أنها يمكنها أن تكسب كل شيء؟ … تدرك الآن أنّها لم تكسب شيئًا.

في أعمق أعماقها تشعر أنّها خسرت العالمين معًا.

ما كان عليها من البداية أن تفتح قلبها له، ففي النهاية جعلته يندم على ...
"لست نادماً"

انقطعت أفكارها مع صوته الذي تردد بحسم امتزج بحنان أثار فيها شجنًا غريبًا
"لم أندم يومًا على اقترابي منكِ ولا على حبي لكِ"

أطرقت بقلبٍ تثاقل وتمتمت

"لم أسألك إن ..."

قاطعها وعيناه تشردان من جديد

"لكنّكِ قلتِها لي .. أخبرتِني أنّني لا بد نادم على اختياري وحبي لكِ"
"ألم تلمني على تباعدي وإهمالي لك؟ ... ألم تغضب لأنني لم أستطع منحك الاهتمام الذي تريده؟ ... قلتَ أنني وضعتُك دائمًا في المرتبة الثانية"

أومأ مؤكدًا ظنونها

"لن أنكر أنني شعرت بالضيق وأحيانًا كثيرة بالعجز ... لم أكن أريد حرمانكِ من العالم الذي تحبين ولم أرغب في الظهور أمامكِ بمظهر الكاره لنجاح امرأته، الغيور الساعي لتحطيمها"

ثقل جديد انضم إلى أثقال قلبها فتمتمت بخفوت
"لم أفكر يومًا فيك هكذا"
"أعرف ... لكنني كنت أغار فعلًا ... ليس من نجاحكِ، بل من الكيان الآخر الذي يقف بيننا، وكلما اتسعت الفجوة بيننا شعرت بالعجز والفشل … ابتعادكِ وغرقكِ في عالمكِ ذاك شيئًا فشيئًا كان يعني فشلي"

أطرق هُنيهة وغامت عيناه وتسللت بعض المرارة إلى صوته
"كرهتُ ذلك الشعور ... كرهتُ أن أكره الشيء الذي جذبني إليكِ في المقام الأول ... ربما كان من الأفضل لنا لو أنني ظللتُ أراقبكِ من بعيد ولم آخذ تلك الخطوة نحوكِ ... هكذا فكرتُ كثيرًا ... ربما ما كان عليّ اقتحام الهالة المحيطة بكِ"

ابتسمت بأسى
"ألم أقل لك أنّك ندمت؟ ... حين أزلت الهالة واقتربت اختفى ذلك الجمال الخيالي الذي تصورته وبدت الصورة أوضح ... حين نقتربُ أكثر تبدأ العيوبُ في الاتضاح ويومًا بعد يوم تقع أعيننا على الشقوق الصغيرة في ثوب اللوحة المثالية"

شيئًا فشيئًا كان الثقل في قلبها يزداد ... لا ترغب في الاستمرار في هذا الحديث ... لا تريد لومًا أو شجارًا آخرًا ... تريد العودة إلى حلاوة البدايات.

في هذه اللحظة لا تريد سوى استعادة ذكرياتهما الجميلة.

وكأنّما التقط أفكارها غير المجرى فجأة وطرد المرارة واليأس من صوته ليقول
"بالعكس ... الاختبار الحقيقي يبدأ وقتها ... حين نرى الشقوق الصغيرة والعيوب وندرك أنّ نصفنا الآخر ليس مثاليًا كما نحن بالضبط ومع ذلك نشعر بالكمال ونتمسك به أكثر، لهذا لستُ نادمًا ... لستُ مثاليًا بدوري، أنا ممتلئٌ بالعيوب والشقوق وواقعيٌ بدرجة بائسة على النقيض منكِ لكن هذا لا يمنع أنني أحببتكِ وحتى اللحظة لم أندم على هذا"

رفرف طائرُ الصمتِ حولهما وحط على رأسيهما لبرهة بدأت عبرها ذبذباتُ الواقع في التسلل إليها ... ذبذبة خافتة تتردد قربها تحاول لفت انتباهها كأنّ أحدًا ما يناديها ... أرادت الالتفات لكنّها عجزت.

ظلت عيناها تنظران إليه وحده، تلتقطان كل الكلمات التي ما زالت تقبع في أعماقه عاجزة عن التحرر ... ربما يخشى أن يجرحها أكثر إن أثبت لها أنّها فشلت معه ... أنّها منحته المرتبة الثانية وسمحت لنفسها بالغرق يومًا بعد يوم في عالم آخر لا يملك هو الدخول إليه.

"قلت لكِ … يومًا ما سأتمكن من الدخول"

اهتز قلبها بنبضة خائفة محذرة مذعورة من شيء لا تفهمه حتى اللحظة ... قاومت شعورها لتردد مبتسمة

"صرت تقرأ أفكاري مؤخرًا"
لامست نظراتِه مسحةُ غموضٍ مثل ابتسامته التي ردت عليها قبل صوته الضاحك

"لماذا لا تقولين أنني وصلتُ أخيرًا إلى درجة امتزاج روحينا؟ ... قلتُها لكِ كثيرًا ... يومًا ما سأقتحم خيالكِ ذاك وأطرد منه كل خصومي ومنافسيّ عليكِ"

ابتسمت بحنين وهي تتذكر ... صحيح، أخبرها بهذا مرارًا ... كان يقول أنّه سيقتل كل أبطالها الخيالين الذين يصرون على حرمانه منها ... كان يمازحها حين يقولها، لكنّها وخلف مزاحه كانت تشعر ببعض الأسى والغيرة التي يخفيها.

لم يكذب حين قال أنّه غار من عالمها الخاص.

"إذن لهذا تتعمد قطع إلهامي وطرد أفكاري كلما أردت الكتابة ... أخبرتك، على هذا المعدل لن أنجز شيئًا"

هز كتفيه ببساطة
"حاولي طردي إن استطعتِ"

فتحت فمها لتنطق بشيء لكنّها لم تستطع ... داخلها تدرك أنّها لا تقوى على قولها، لا يمكنها إبعاده … وحده حين يقرر سيتركها وشأنها.

إن طلبت منه المغادرة الآن فستكون قد أدانت نفسها بالفعل، ستثبت له أنّها لوقت طويل اعتبرته استثناءً ومنحت الأولوية لخيالها.

تنهدت باستسلام

"تمام ... ابق كما تشاء .. لكن رجاءً هل يمكنك ترك بعض المجال لأبطالي؟ ... لا أستطيع استدعاءهم بسببك"

"لم أمنعهم من الخروج … يبدو أنّهم صاروا جبناء مؤخرًا"

أخبرها ببساطة متسلية فمالت برأسها زافرة بتعب
"لا فائدة ... أنا أستسلم"

"لا تبتأسي هكذا ... لا تجعليني أشعر أنني السبب"

رمته بنظرات نارية
"طبعًا لا .. أنت بريء وملاك"

قابلتها نظراته ببراءة مفتعلة مغيظة فعادت تتنهد باستسلام
"لستُ كذلك أبدًا ... أنا فقط أحبكِ"

استكان قلبها قليلًا لكلماته وانفرجت شفتاها لتخبره أنّها تحبه بدورها لكنّ ملامحها تشنجت حين رأت سيجارة أخرى بين شفتيه
"يا ربي ... ماذا أفعل معك؟"
لم يزد عن ضحكة بينما تنتزع منه السيجارة لتشهق بعدها
"متى دخنت كل هذه السجائر؟"

هتفت باستنكار وهي تنظر لأعقاب السجائر التي تملأ المنفضة
"أرأيتِ؟ ... هذا دليلٌ آخر على أنّكِ لستِ بعد بكامل كيانكِ معي"
"ماذا يعني هذا؟"

سألت بينما تقتل السيجارة بغيظ في المنفضة جوار شقيقاتها.

لم يرد بحرف فرفعت وجهها إليه لتجد ابتسامة متسامحة على وجهه وقبل أن تتكلم قال هو
"بالمناسبة .. هل تعرفين ما ذكرى اليوم؟"
قطبت تحاول التذكر ... هي أصلًا لا تعرف في أي يوم هي الآن لتعرف ما الذكرى.
"فكري قليلًا ... انظري حولكِ، ألا تتذكرين شيئًا؟"
نظرت حولها لتجد أشباح الناس صارت أكثر شحوبًا ... ماذا يحدث معها حقًا؟

"خسارة .. يبدو أنّكِ نسيتِ"

سمعته يردد بأسف فهتفت بتذمر

"على فكرة ... المفترض أن يحدث هذا الحوار بالعكس ... في المعتاد المرأة هي من تحاول تذكير الرجل بالمناسبات وهو من ينسى"
ضحك بتسامح

"هذا لأنني أعرف أنّ حبيبتي لديها رأس محلق بين الغيوم طيلة الوقت"

زمت شفتيها بحنق طفولي زاد ضحكته فتابع وهو يداعب رأسها بتربيتة مشاكسة
"لا تعبسي هكذا .. أمزح معكِ"
وابتعد قليلًا ومال يلتقط شيئًا من جواره ورفعه أمام عينيها ... كانت حقيبة هدايا أخرج منها وشاحًا صوفيًا أبيض اللون وقال بحب
"لم أجد أفضل من اليوم لأقدمه لكِ ... في الذكرى السنوية لزواجنا"
ترنح قلبها بصدمة ... اليوم ذكرى زواجهما؟ كيف لم تتذكر؟ ... سيغضب حتمًا هذه المرة لأنّها ...

"لست غاضبًا"
نظرت له بدهشة فابتسم بهدوء ومد يده بالوشاح
"قلت لكِ ... أعرف أنّكِ أغلب الوقت في عالم آخر وفاشلة اجتماعيًا بصورة مزرية ... كما أنني في مزاج رائق اليوم، لن أغضب منكِ أبدًا"

تسللت الدموع إلى عينيها بينما يرفع الوشاح ليلفه حول عنقها لكنّها أوقفته فجأة بقلبٍ مرتجف
"مهلًا لحظة"
رمقها بتساؤل فهمست وهي تنظر للوشاح
"إنّه أحمر"
"ماذا؟ ... ألا يعجبكِ لونه؟"

سألها بحيرة فهزت رأسها 

"لا ... كان أبيض اللون قبل لحظات"

"أنتِ تتوهمين"
أخبرها بهدوء فهتفت بتصميم
"لا ... أنا متأكدة ... لقد رأيته و"
صمتت فجأة وعيناها تتعلقان بالسائل الأحمر الذي يتسرب من كفيه إلى الوشاح ليصبغه بالأحمر ولمحت آخر نقطة بياض تغتسل بالحمرة لتختفي للأبد.

شهقت بجزع وهي تمد كفيها وتقبض على يديه
"ما الأمر حبيبتي؟"
سألها وهي تقلب كفيه تتفحصهما بحيرة ... لا يوجد أثر للدم ... هل صارت تتوهم حقًا؟

سمعته يناديها بقلق فرفعت إليه عينيها حائرتين بخوف
"رأيتُ دمًا على يديك"

رقت نظراته وابتسم
"أخبرتكِ .. أنتِ تتوهمين فقط"

لم يتوقف قلبها عن نبضاته الخائفة فخفضت عينيها تتفحص كفيه بتمعن أكبر رافضة تصديق أنّها توهمت.

اشتدت يداها على كفيه فجأة وعادت تنظر إليه قائلة بتجهم
"أين دبلتك؟"
"أين ستكون يعني؟ .. في مكانها"

أخبرها ضاحكًا فهتفت

"لا أراها في إصبعك ... هل أضعتها؟"

هز رأسه ومد يده نحو عنقها فأطرقت تنظر لسلسلتها ولمحت في طرفها دبلته
"ها هي هنا، في مكانها المثالي ... قرب قلبكِ"

رمشت بعينيها محاولة تذكر متى وضعتها هناك ... ومن مكان ما بعقلها ارتفع نبض مدوي ... شيء ما غير منطقي يحدث حولها، وعقلها يحلول جاهدًا إضاءة الإشارات لها علّها تدركه، لكنها حتى اللحظة عاجزة عن إدراكه أو ربما في أعماقها تعرفه لكنّها خائفة من أن تكشف عنه الستار.

أجهض كل أفكارها حين رفع كفيه بالوشاح ولفه حول عنقها بحركة مليئة بالدفء والحب
"حين اشتريتُه تخيلت شكله عليكِ وعرفت كم سيليق بكِ ... كنتُ أتمنى أن أهديكِ إياه ونحن وحدنا نحتفل في بيتنا لكن لا بأس ... لا أفضل من أن أهديكِ إياه في نفس المكان الذي اعترفت لكِ بحبي وطلبت يدكِ فيه"

اندفعت الدموع إلى عينيها أسرع بينما تنظر في عينيه الحانيتين ومن أعماق ينهشها الندم والحزن همست
"أنا آسفة"

ازدادت الذبذبات الغريبة وارتفع دوي النبض أكثر واهتز قلبها كأنّما يقف على أرضٍ يوشك زلزال أن يدكها دكًا.

"لماذا الأسف يا حبيبتي؟ ... أنا لست غاضبًا منكِ"

همسات ترددت داخلها تتوسله بحرقة ألا يزيد تنور الندم اشتعالًا ... همسات عجزت شفتاها عن النطق بها بينما ابتسم هو بعد أن انتهى من عقد الوشاح

"جميل هكذا ... تمامًا كما تخيلته"

وانخفضت عيناه على ملابسها لتتسع ابتسامته ويقول مشاكسًا
"لم أدرك قبل الآن أنّ "الأسود يليق بكِ" حقًا"

خفضت عينيها متتبعة نظراته لينقبض قلبها ... لماذا؟ ... لم تكن تحب ارتداء الأسود ... كيف ومتى ارتدته؟ 

ارتعشت شفتاها واستعر التنور داخلها أكثر واندفعت من قلبها إلى عينيها دموع أكثر حرقة .. لوهلة اختفى المكان واختفى هو ووجدت نفسها على شفا بركان يوشك أن يثور.

الأرض تهتز أسفلها والنار تستعر وقلبها ينوح.

عيناها تبكيان، ويداها تمتدان نحو الستار الممتد أمامها، تكاد أصابعها تلامسه وتنتزعه، لكنّها خائفة.

لماذا تخشى أن تهتك الستر لهذه الدرجة؟

"حبيبتي"

صوته انتزعها من هول ما تراه، قبل أن تشعر بلمسته الباردة تناقض حر دموعها المتساقطة.

أصابعه تحركت لتمسح دموعها بحنان وابتسامته أعادت تثبيت الأرض أسفل قلبها ومسحت عليه برفق ثم ألقت مطرًا ناعمًا على تلك النار الغريبة فأطفأتها.

"لا تبكي ... أنا هنا ... لن أترككِ أبدًا"

صحيح ... هو هنا ... لماذا تبكي من الأساس؟

انتهت لمساته من مسح دموعها وأعادت لها بعض توازنها فتململت بحرج
"آسفة ... كان من المفترض أنّها مناسبة سعيدة لكنني كالعادة أفسدتها"
أجابها غامزًا
"لقد تعودت ... معروفٌ عن جنسكن أنّه يعشق النكد والدموع"
انتزعت كفيه عن خديها وزمجرت محذرة فتراجع ضاحكًا
"أمزح يا حبيبتي ... تذكري أنّها ذكرى زواجنا ... مناسبة سعيدة لا تفسديها أكثر"
ابتسمت باستسلام وصمتت قليلًا وعيناها تقعان على شاشة حاسوبها لتلتفت له بعد ثوان قائلة برجاء
"إذن ... بمناسبة هذه الذكرى السعيدة ... ألا يمكنني أن أطلب هدية أخرى؟"
رفع حاجبًا محذرًا كأنّما قرأ ما تنوي طلبه فأسرعت مؤكدة ظنه
"لماذا لا تتركني أكتب ولو صفحة واحدة؟ .. هه؟ ... صفحة واحدة فقط وبعدها"

قاطعها ويده تمتد لتطبق شاشة الحاسوب ويغلقه قائلًا بمرح امتزج بقليل من الحسم
"لا ... اليوم لي وحدي"
رددت معترضة
"كل يوم تقول هذا الكلام ... أعرف أنّك لن تسمح لي بالكتابة لا اليوم ولا غدًا"
أزاح الحاسوب ومال نحوها هامسًا وهو يقبض على كفها

"ألديكِ اعتراض؟ ... أخبرتكِ ... لقد أخذوكِ مني وقتًا طويلًا ... الآن دوري أنا، ما دمت هنا لن يجرؤوا على الاقتراب ولن أسمح لهم بسرقتكِ مني أكثر من هذا"

نظرت في عينيه بحيرة وتوجس لكن لم يقابلها سوى مشاعره الدافئة نحوها ... شعرت بالثقل يرتفع أكثر عن قلبها لتستكين ... حاولت أن تحافظ على استيائها منه أو تغضب لأنّه يصمم على إبعادها عن عالمها الذي تحب لكنّها لم تشعر بأي من هذا.

لسببٍ ما لم تعد تشعر بالغربة أساسًا، كأنّما بصورة ما امتزج العالمان داخلها واستطاعت أن تحصل عليه هو وخيالها معًا.

لم تعد تشعر بذلك التمزق الذي يشدها بين العالمين. 

انتزعت بصعوبة ناظريها عنه لتنظر حولها … خيوط العالم المادي تكاد تتلاشى .. خيالات الناس أصبحت أكثر شفافية حتى تكاد تختفي .. ذبذبات أصواتهم بالكاد تصل إليها.

سكون يقترب من الكمال يلفهما هو وهي وحدهما.

وهو ... يبدو راضيًا عن أي وقتٍ مضى.

"لن نفترق أبدًا من الآن فصاعدًا"

سمعته يخبرها بتملك رقيق بينما يده تحتضن يدها، واستسلمت له حين شدها لينهضا معًا
"لا يوجد عالم سيفرقنا .. لا واقع ولا خيال .. تلك الحواجز الحمقاء التي كانت تمنعني عنكِ أزلتُها كلها"

وشدها قربه لتقف ساكنة غارقة في عينيه ويده الباردة تحتضن جانب وجهها ... همساته تشدها أكثر عبر تلك البوابة التي لا تشبه بوابة عالم خيالها المعتادة.

"بعد اليوم لن يكون هناك سواي ... لا وجود لخيالاتكِ الأخرى وحكاياتهم ... لن يكون غيرنا في العالم الذي صنعتُه لنا وحدنا"
ارتعاشة روحها أخبرتها أين يقع ذلك العالم بالضبط، ونظرة عينيه في عمق عينيها صدّقت ظنها.

لا يهم إن كان ذلك العالم في واقعه أم في خيالها ... لا يهم إن كان في أعماق روحها.

ما يهم أنّها ستكون معه في النهاية.

"صحيح .. نحن معًا في النهاية وإلى الأبد"
همس بها وقد قرأ أعماقها مرة أخرى ... ابتسم فابتسمت وسألتها عيناه فأومأت موافقة وراضية.

تركت يدها في كفه واستسلمت لإرادته يشدها معه

"هيا بنا"

تحركت معه ليغادرا المكان الذي شهد حبهما وذكرياتهما.

ذبذبات خافتة ترددت خلفها تناديها، وعقلُها بآخر ما يربطه بالواقع حلل الصوت ... كان حائرًا ثم حزينًا وآسفًا.

لماذا يشعر أحدهم بالأسف والحزن عليها؟

ضغطة يده على أصابعها أوقفت كل تساؤلاتها فرمت كل شيء خلفها وتبعته.

داعبها النسيم البارد فور أن عبرا الباب قبل أن يختفي برد الشتاء ولا يبقى داخلها سوى دفء روحه التي احتوت روحها، ووعدٍ بالحب منحها إياه ذات يوم.

ابتسمت حين شعرت بالشمس تشرق في روحها وتمسكت بكفه أكثر ورحلت معه.

غادرت تاركة خلفها طاولةً في زاوية منعزلة،

فنجانَ قهوة لم تمسه شفتاها،

منفضة تبغ خاوية،

وصفحاتِ خيال بيضاء لم تمسها حروف حكاية لن تخرج للنور قريبًا وربما أبدًا.

*************** 

تمت بحمد الله

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

وردة وقلبُك

اقرأ المزيد