الفصل الثالث
الندم،
شعور قررت ألا ينتابها منذ وقعت في الخطأ تلو الآخر وانتهى بها المطاف تدفع ثمن أخطائها فادحًا.
بينما القوة…
القوة شعور خادع ظنته صار جزءًا حقيقيًا منها منذ أجبرت نفسها على مواجهة حقيقة أنّها أسيرة هنا ولا خيار أمامها سوى أن تواجه مصيرها وتصمد إن أرادت النجاة.
أما الراحة،
فشعور ظنت أنّه لن يزورها مجددًا منذ هجرها قبل سنين.
وكم كانت واهمة،
الندم عاد بكل مرارته والقوة تبددت وتركتها أمام لحظة ضعف يراودها شعور أنّها ستدفع ثمنها لاحقًا، والراحة غمرتها كضيف حل فجأة دون إنذار.
لماذا تركت غرفتها أصلًا؟
لماذا كان يجب أن يشهد هو بالذات لحظة ضعف غبية لم يكن يجب أن تحدث؟
وتعترف أن الندم ليس على ضعفها وبكائها أمامه فحسب بل لذلك الشعور بالراحة والسعادة الذي انتابها في تلك اللحظات التي جلسا فيها سويًا،
كأنّها بطريقة ما استعادت تلك الأيام الخوالي،
كأنّها استعادت جزءًا من تارا التي كانتها قبل أن تفقدها في مسار حياة لم تتخيل أن يكون مصيرها.
وليلتها انقضت يتبادلها الندم والراحة فيما بينهما بعبث، حتى غرقت في النوم ولم تستيقظ منه إلا على صوت صغيرتها وضربات كفها الرقيقة.
"ماما.. هيا استيقظي.. هيا"
فتحت عينيها مع النداء لتقابلها عينا لي لي بشقاوتهما الحبيبة فاعتدلت مبتسمة وهي تتمطى بكسل
"صباح النور يا أميرتي الحلوة"
اندفعت إلى حضنها وهي تزم شفتيها فضمتها بحب
"ما الأمر؟ من أغضبك هكذا؟"
رددت بنزق
"بوب، لن أكلمه مرة أخرى"
بهتت ابتسامتها مع ذكره
"أنتِ تقولين هذا في كل مرة وترجعين في كلامكِ"
زمت شفتيها بعناد وكتفت ذراعيها
"هذه المرة سأخاصمه كثيراً... قال لي أنّه سيبقى وكذب عليّ"
رمقتها بأسى، تدرك كم طفلتها متعلقة به وكم يدللها إيهاب حد إفسادها
"غادر دون أن يسلم عليّ ولم يتصل حتى مرة واحدة بي"
رددت ببكاء فاحتضنها تارا برفق بينما جزء منها يتنهد ارتياحًا وقد انزاح عنها هم الأسئلة التي أرقتها الليلة الماضية،
بأي وجه ستقابله في الصباح؟ هل تتحاشاه؟ هل تعود لتعامله كعادتها مع الكل كأن شيئًا لم يتغير أم تتعامل بطبيعتها القديمة والتي لا تعرف إن كانت قادرة على استدعائها مجددًا؟
طردت أفكارها لتخبرها
"بالتأكيد لم يقصد يا حبيبتي، ربما حدث معه شيء مهم"
تحركت في حضنها واحتضنت وجهها بكفيها قائلة بحماس
"ماما، هل يمكن أن تتصلي به؟"
"أنا؟"
ردت بتوتر فأومأت لي لي
"اتصلي به لأتكلم معه"
وتعلقت بعنقها في دلال تتوسلها وتقبل خدها مراراً
"أرجوكِ .. أرجوكِ، من أجلي"
"لي لي"
قبلت خدها بقوة فضحكت تارا بقلة حيلة
"اتصلي به وسأقول لدادة إحسان تصنع لكِ هوت شوكليت لذيذ جداً، اتفقنا؟"
ضحكت مرغمة وقالت وهي تقرص خدها
"تمام، اتفقنا يا مخادعة"
تمرغت في حضنها ضاحكة بدلال وضمتها تارا وهي تكتم تنهيدة يأس، كيف ترفض طلب ابنتها العنيدة؟
يبدو أنّها مجبرة على المواجهة في النهاية، لتترك الإجابة للحظة الحاسمة ولتدعو الله ألا تندم على النتيجة فيما بعد.
انتبهت على انفتاح باب غرفة أسامة لتراه يخرج فاعتدلت في جلستها بينما ارتسمت على شفتيه ابتسامة نادرة تخص ابنتهما فقط
"ما هذا؟ زنبقتي الحلوة هنا؟"
اندفعت من حضنها تهرع إليه ليلتقطها بين ذراعيه، احتضنها بقوة وقبّل خديها
"صباح الخير يا زنبقتي"
"صباح النور يا أحلى أسامة"
قالتها ضاحكة وهي تقبل خده بقوة، فقرص خدها مداعبًا
"أنتِ أكبر ماكرة في الدنيا يا بنت أسامة، يجب أن أعطي محاضرة قاسية ليوسف وإيهاب فقد علّماكِ الخداع والشقاوة"
هتفت مع ذكر إيهاب
"سترى بوب اليوم يا بابا، صحيح؟"
"ربما، لماذا؟"
زمت شفتيها مجيبة
"أخبره أنّني خاصمته ولن أصالحه حتى يأتي ويصالحني… وأيضاً وقتها لن أصالحه إلا عندما يحضر لي هدية كبيرة وبعدها سأفكر"
ابتسمت تارا بشحوب بينما تضبط ثيابها ثم تتحرك لتجلس على حافة الفراش
"حسناً يا آنسة لي لي، أي طلبات أخرى؟"
فكرت لثوان ثم أخبرته
"نعم، أعطه هذه مني"
أمسكت خديه بكفيها ومالت تطبع قبلة طويلة على أحدهما فضحك وضمها مدغدغاً
"أين سأذهب من شقاوتكِ هذه، هه أخبريني؟"
تأملتهما تارا وقلبها متأثر بضحكات صغيرتها التي تتلوى متوسلة والدها أن يتوقف حتى رحمها أخيراً مع رنين هاتفه. أنزلها بعد قبلة أخيرة لتندفع نحوها.
كانت تارا تمسح على شعرها بحنان حين ارتفع صوته المتحمس يهتف عبر الهاتف
"حقاً؟ أنتِ متأكدة؟"
رفعت عينيها إليه وانقبض قلبها وهي ترى وجهه متألقًا بسعادة
"حمداً لله، لا أعرف كيف أشكركِ حقاً... نعم بالتأكيد لن أنسى"
زادت تقطيبتها بتوجس بينما ينهي المحادثة، ليسارع بعقد رابطة عنقه ولم تقاوم سؤاله بفضول
"ما الأمر؟ يبدو أنّك تلقيت خبراً سعيداً"
لم يبد أنّه سمعها بينما ينهي ما يفعله، رش بعضًا من عطره ثم عانق صغيرتهما، غير قادرٍ على إخفاء ابتسامته السعيدة وصمتت مدركة أنّها لن تجد رداً لكنّه قال وهو ينزل لي لي
"نعم، حمداً لله"
وقبل أن تسأله ما يعني تحرك مبتعداً وهو يقول
"سأذهب قبل أن أتأخر على الشركة"
"أسامة انتظر"
التفت لها بتساؤل فتقدمت نحوه بتردد
"نسيت أن أخبرك... أمي أكدت على ضرورة حضورنا معاً للحفل"
راقبت بحسرة انسحاب الألق من عينيه
"أرجوك... أنا حاولت معها كثيراً لكنّها مصرة"
"تارا، ألم نتفق على .."
قاطعته برجاء
"أرجوك .. هذه المرة على الأقل، الحفل كبير ومهم جداً لها وبصفتي ابنتها يجب أن أتواجد مع زوجي. أرجوك تجاوز كراهيتك هذه المرة"
كاد يعترض لولا أن حانت منه نظرة لابنته التي تراقبهما بحزن فأجبر نفسه على ابتسامة واسعة
"تمام، سأتفرغ للحضور معكِ"
تنهدت براحة
"شكراً لك"
منحها ابتسامة باهتة قبل أن يلوح لصغيرتهما ويغادر، والتفتت هي إلى صغيرتها بجزع حين رأت دموعها المكبوتة
"ماذا حدث يا لي لي؟"
همست بشهقة باكية
"هل ستتركين بابا فعلاً؟"
"من قال لكِ هذا الكلام؟"
سألتها بقلب واجف لترد
"سمعتكِ وأنتِ تقولين لتيتا يسرا"
تراجعت بشحوب ثم قالت بلوم تخفي وراءه ارتباكها
"لي لي، لا يصح أن تتنصتي على أحاديث الكبار"
"والله كان صدفة، لم أقصد"
غمغمت وهي تلقي نفسها في حضنها فضمتها تارا متنهدة
"لماذا قلتِ لها هذا؟ ألا تحبين بابا؟"
تنهدت بألم ثم ابعدتها قليلاً لتحتضن وجهها بحب
"حبيبتي، انسي ما سمعتِه"
"لكن..."
"ﻻ يهم ما قلت، اسمعي يا لي لي. الكبار... ربما يحدث بينهم بعض المشاكل. ربما نغضب ونتخاصم لكن هذا لا يعني أننا نكره بعضنا"
رددت بأمل
"يعني أنتما فقط متخاصمان"
ابتسمت بشحوب
"تقريباً... لكننا نتخاصم ونتصالح، والأهم من هذا .. أننا نحبكِ "
وداعبت وجنتها بحنان
"نحبكِ كثيراً ومهما حدث بيننا سنبقى نحبكِ دائمًا، فهمتِ؟"
أومأت وهي ترتمي في حضنها
"وأنا أيضاً أحبكما... كثيراً جداً"
احتضنتها بقوة تدفن في حضنها الصغير آلام قلبها وبرودة حياتها وهي تفكر بحسرة،
هل فكرت لحظة أن ما يقف أمام طلبها الطلاق هو تهديد جد زوجها؟ هذا الحزن في قلب صغيرتها وتمزقها بينهما هو السبب الحقيقي وراء عجزها.
******************
كانت سمية في طريقها إلى غرفة الطعام حين انتبهت لنزول أسامة على السلالم بقفزات سريعة، والسعادة على وجهه جعلت قلبها يخفق بقوة لتتجه إليه بحبور
"ما شاء الله، وجهك منيرٌ اليوم"
احتضنها بقوة فتمتمت بدهشة سعيدة
"خيراً؟ تبدو سعيداً للغاية"
ابتعد بعد ثوان بابتسامة واسعة
"جدًا يا أمي"
"أدام الله سعادتك يا بني، ما شاء الله"
همست وهي تمسح على خده بحنان
"يجب أن أرقيك قبل أن تغادر"
ضحك وهو يميل ليقبل خدها مزيداً دهشتها وأدركت أنّه لا يكاد يحوي سعادته داخله. دعت له بحرارة ثم ابتعدت بابتسامة واسعة
"تعال لتتناول الفطور ولنرى موضوع الرُقية بعدها"
شدّ كفها يوقفها
"ﻻ يا أمي، أنا مستعجل. يجب أن أذهب حالاً و"
قاطعه نداء جده الصارم آمرًا
"أسامة .. الحقني على مكتبي"
انقبض قلب سمية مع انسحاب لونه وانطفاء سعادته كأنّها لم تكن، نظرت لأسامة بأسى وحسرة بينما يخبرها بسخرية
"يبدو أنّه لا نصيب لي، لا في فطوركِ ولا رُقيتكِ يا أمي"
وتركها متجهاً بخطوات جامدة نحو المكتب
"سامحك الله يا عمي، ستموت لو تركت أحد أولادي يسعد يومًا"
غمغمت وهي تتجه إلى غرفة الطعام بتثاقل وقد فقدت شهيتها كُلياً، كان يوسف واقفًا يتناول الفطور بسرعة بينما نيروز تردد ساخرة
"اجلس وافطر بهدوء يا يوسف. سيتوقف الطعام في حلقك وتموت"
رمقها شذراً وتمتم
"ركزي أنتِ في مضغكِ الصحي يا حبيبتي"
وأسرع يلتقط شطيرة من الجبن ويلتهمها بسرعة دفعت بابتسامة يائسة لشفتيّ سمية
"ليتني أرى أثر اهتمامكِ بالطعام على جسدكِ. أنتِ ماكينة حرق خارقة"
وتنهد بحسرة مفتعلة
"يبدو أنني سأعيش وأموت دون أن أراكِ زدتِ جرامًا واحدًا"
قالت وهي تغرس شوكتها في طبقها
"هذه رشاقة يا مفجوع، ولا شأن لك بوزني. عندما تقرر الزواج ابحث عن واحدة ذات منحنيات ترضي ذوقك الأحمق"
أسرعت تتدخل قبل أن تندلع حرب المشاكسة بينهما
"ما هذا يا يوسف؟ اجلس وكل، لن يطير الأكل يا بني"
"ليس أنتِ أيضاً يا أمي أنا متأخر"
قال وهو ينهي شطيرته، اتجه نحوها بعدها مكملًا بتهكم
"سمعت جدي ينادي أسامة، دعيني أفلت بجلدي قبل أن يتذكرني"
ابتسمت بقلة حيلة وضربت كتفه فمال يقبلها متابعًا
"سأذهب أنا... نيرو، هل تريدين توصيلة؟"
"شكراً يا جو. أنوي التكاسل اليوم، لا مزاج لديّ"
رددت سمية بيأس
"أنتِ لا مزاج لكِ أبداً يا نيروز"
تابعت طعامها بابتسامة هادئة بينما ودعهما يوسف مغادرًا
"إلى اللقاء يا جميلتيّ"
تابعته سمية حتى خرج وتنهدت بأسى فسألتها نيروز
"ما الأمر؟ ما المفاجأة هذا الصباح؟ اتحفيني بالجديد أمي"
"على أساس لم تسمعي صوت جدكِ"
"تقصدين أسامة؟"
وهزت كتفيها مردفة ببساطة
"وما الجديد؟ كل صباح يحلو له اصطياد أحدنا ليوبخه على أمرٍ ما"
وضحكت ساخرة
"أتخيل أحياناً أنّه يقضي الليل يتذكر أخطاءنا ليواجهنا بها صباحاً وإن لم يجد يفتش في دفاترنا القديمة"
زفرت سمية بتعب ثم قالت متحسرة
"أسامة يا حبيبي، كان سعيداً جداً... منذ سنوات لم أره هكذا لكن كل هذا اختفى فور أن ناداه جدكِ"
مطت شفتيها وقالت وهي تضع شوكتها جانباً
"سأكون صريحة، أخي أسامة واعذريني... أحمق"
"نيروز، تهذبي وأنتِ تتحدثين عن أخيكِ"
هتفت فيها فهزت نيروز كتفيها
"بصراحة، كلنا يعرف القاعدة هنا، لا تظهر سعادتك أبداً أمام سالم باشا وإلا عليك وداعها للأبد"
وضحكت وهي تلتقط كوب العصير مواصلة
"وماذا فعل أسامة؟ فضح سعادته متناسياً أن جدي يتربص بأي لحظة سعيدة ليدهسها بضمير مرتاح"
زفرت بحسرة، تدرك أنّ ابنتها محقة في كل كلمة، كادت ترد عليها لولا دخول سالم فتألقت بحبور
"صباح الخير يا سالم، تعال يا حبيبي"
اقترب مبستمًا
"صباح الخير يا أمي، صباح الخير يا نيروز"
لم ترد رغم نظرات أمها القاسية إليها ونهضت بهدوء لتغادر فناداها
"نيروز، انتظري. أريد التحدث معكِ"
أسرعت تقول متحاشية وجه أمها اللائم
"سأتأخر على كُليتي، سلام"
تبعها ببصره مقطباً بضيق فأسرعت إليه سمية تربت على كتفه
"ﻻ تغضب منها يا حبيبي، ما زالت طفلة حمقاء رغم سنها هذا"
ابتسم بشحوب ثم انتبه متذكراً ما أتى من أجله
"أين فلك؟ لم أجدها بغرفتها"
رمقته بتردد
"عادت لتلك الغرفة"
"ماذا؟"
لحقت به حين خرج غاضبًا
"ترفق بها يا بني، هي في حاجة للوقت، كما أنّها خائفة من جـ..."
قاطعها بحسم بينما يتجه للجناح المعزول
"لن أسمح لأي شخص أو شيء بإخافتها... ما كان يجب أن تسمحوا لها بالاستسلام هكذا"
تابعته بنظرات متحسرة،
ابنها لا يدرك أنهم لسنين حاولوا معها وفشلوا، ليت الأمر بهذه السهولة.
لكن رغم كل شيء، ترجو أن ينجح هو مع فلك فيما فشلوا فيه…
سالم كان الأب دائمًا لنيروز وفلك، ربما مفتاح قلبها كان معه وهي كانت في انتظار عودته ليخرجها من سجن نفسها.
يا ليت ظنها يصدق.
*********************
فتح سالم باب الغرفة برفق ليجد فلك نائمة محتضنة نفسها كجنين نبذته الحياة بقسوة. تنهد بأسى واقترب ليجلس جوارها ومع لمسته انتفضت لكنها هدأت سريعًا مع همساته الحانية.
لامس خصلاتها متذكرًا ما أخبرته به أمها عن الانيهار الذي كان يصيبها كلما استطال شعرها قليلًا وقصها له بعشوائية حتى أخفت هي عنها المقص أول مرة فحطمت النافذة وقصت شعرها بقطعة من الزجاج وبمعجزة استطاعت إقناعها أن تقصه هي لها كلما استطال.
انتبه على كفها الرقيقة تتمسك بثيابه كما اعتادت في صغرها فابتسم بشحوب وذاكرته تعود لعشرين عامًا مضت حين دخلت بخطواتها الصغيرة إلى السراي تتعثر وأمها تشدها خلفها لتلقيها إلى جده، تخبره أنّها سئمت من تربية ابنته وتريد أن تعيش حرة لتتزوج مجددًا.
حتى اللحظة لا ينس صدمة الجميع بوجود ابنة لجدهم في الثالثة من عمرها.
تأمل وجهها متذكرًا خوفها وجريها خلف الأم التي نبذتها دون أي تردد، وبكاءها الذي لم يهدأ إلا حين اقترب ليتحدث معها، ومنذ ضمها بحنان وتشبثت به وتلجأ له بطريقة غريبة وهو يشعر أنّها ابنته الصغيرة لا عمته.
عمته المسكينة، الأسيرة، التي نشأت خلف أسوار السراي ولم يسمح لها جده بالتحليق خارجه، حتى تعليمها كله كان على يد مدرسين خصوصيين. حتى حين تسلل بها مع أسامة ذات يوم نالا عقاباً رهيباً من جدهما وهي حبسها شهرًا كاملًا في غرفتها.
تنهد بألم وهو يشعر بارتجافها فمسح على رأسها برفق
"أنا هنا، لا تخافي يا لوكا، لن أترككِ"
استكانت في نومها بينما توقفت أصابعه على ندبة وجهها، كيف يمكنه أن يصدق بعد كل هذا أنّها حاولت الهرب مع شاب، وانكشف أمرها ليعاقبها جده بهذه الطريقة التي حطمتها هكذا؟ كيف يصدق؟
**********************
"ها قد أصبحنا بمفردنا يا عمي، إن شاء الله يكون ما طلبتني فيه خيراً"
قالها شهاب بينما يجاور عمه على أريكة خشبية في حديقة المشفى، وابتسم بدر بهدوء وهو يتأمله ابن شقيقه الكبير، يرى الشبه الواضح بينهما. شقيقه الوحيد الذي كان مشفقاً عليه من المصير الذي دفعه إليه العشق، الوحيد الذي كان يفهمه، ربما لأنّه مثله جرب لوعة الحب والفراق.
تأمل شهاب ملياً وهو يفكر، تُرى هل ورث قلب أبيه أيضاً؟ هل يأمل أن يجد بين جوانحه قلباً يمكنه أن يحتوي إحدى بناته ويقف أمام الجميع من أجلها فيحميها هي وشقيقتيها؟ أم أنّه سيكون كجده وأعمامه، التقاليد والعائلة أولا. يريد التأكد قبل أن يتخذ قراره بشأن...
"عمي؟"
انتبه على صوته فنظر له برهة ثم ابتسم قائلاً
"هل أخبرتك كم تشبه والدك؟"
أومأ بابتسامة هادئة
"أخبرتني في زيارتي لك قبل .."
قطع كلماته واعتمت نظراته بالاعتذار فهز بدر رأسه متفهماً
"قبل أن انفعل عليك وشبه أطردك من بيتي"
زفر شهاب بضيق
"آسف يا عمي، ربما خانني التعبير وقتها ولم أشرح لك طلبات جدي جيداً"
تفحصه بتمعن ثم سأله
"هل هي طلبات جدك فعلاً يا شهاب؟"
رمقه بدهشة فابتسم بدر
"أبي لن يفكر في هذا من نفسه"
وغامت عيناه بحنين لم يكبحه، حنين امتزج بألمه ووجعه ومرارته
"إنّه عنيد ورأسه صلبٌ للغاية، هل تعلم أنّه أتى لرؤيتي بعد رحيلي بسنوات؟ أتى ليمنحني فرصة أخيرة للعودة للعائلة بشرط أن أطلق زوجتي"
وتنهد بألم
"كان قاسياً ولم يراع وجودها في الغرفة المجاورة تستمع لكل كلمة مسيئة في حقها. لم يهتم لرواء التي كانت لا تزال رضيعة، لم يلق نظرة واحدة عليها. توسلته أن يفعل، ظننت قلبه سيرق عندما يراها لكنّه ظل قاسياً"
أطرق شهاب لثوان قبل أن يخبره
"لقد تغير يا عمي. الزمن، وموت أبي فت في عضده، وفقدانك من قبله، الكثير حدث في العائلة، لا شيء يبقى على حاله"
"أعرف، صحيح أنني رحلت لكن هذا لا يعني أنني تركتكم كُلياً. كنت أتقصى أخباركم من بعيد"
ظل شهاب مطرقاً لبرهة قبل أن ينظر إليه ويسأل
"هل كان الأمر يستحق؟"
قطب بدر بتساؤل أجابه شهاب
"هل كان حبك لها يستحق كل هذه التضحيات؟"
لم يرد في الحال، ظل يتفحصه في صمت قبل أن يسند ظهره للأريكة ورد
"أحياناً تجبرنا الحياة على الاختيار بين خيارين أحلاهما مر. أي طريق منهما سيمزقك، لكنّك مجبر على اتخاذ القرار. في لحظة مصيرية تجد نفسك مدفوعاً نحو أحدهما، لا وقت لتفاضل... وأنا اخترت حين حانت اللحظة"
تنهد بحرارة وهو يتذكر سنيناً مضت
"لم أستطع التخلي عنها. حاولت... لم أستطع تركها لمصيرها الأسود هناك. كان الخيار بين مصير أقرب إلى الموت لكلينا، وحياتنا لو هربنا. عندما أنظر للخلف لا أراني نادماً أبداً"
والتفت له بابتسامة هادئة
"لو عاد الزمن بي لأخذت نفس القرار مهما كانت النتائج ومهما كان الثمن"
لبرهة ظل شهاب صامتًا بعد كلماته حتى قال أخيرًا
"اخترت حبك وماذا كانت النتيجة يا عمي؟ خسرت عائلتك ومالك وكل شيء. بناتك صرنّ مقطوعات عن صلة رحمهن و"
قاطعه بحزم
"لم أكن أنا من قطع صلة رحمهن. جدك الذي لم يرق قلبه لحفيدته وأخبرني بقسوة أنّه لا يعترف بها حفيدة... أشقائي الذين رفضوا كل محاولاتي للتواصل معهم لسنين وهددوني إن حاولت العودة لأرضي وبلدي"
أسرع شهاب يخبره
"وأنا هنا لأعيد ما انقطع يا عمي"
ابتسم بشحوب فواصل شهاب بإصرار
"أخبرتك أنّ جدي تغير، هو أيضاً يشتاق إليك ونادم على ما فعله"
أغمض بدر بألم يعتصره الحنين لهم جميعاً واستمع له يكمل
"أنت تعرفه جيداً. إنّه عنيد ورأسه صلب كما قلت، لن يستطيع أن يأتي بنفسه إليك ولن يعتذر. رغبته في عودتكم اعتذار عملي"
"وماذا عن زوجتي؟"
صمت شهاب مرتبكًا فأعفاه من الرد
"ﻻ داعي للبحث عن جواب، أعرف رأيه جيداً ورأي البقية، لا عودة إلا بانفصالي عن جميلة وأنا لن أتخلى عنها. إن كنت لم أفعلها قديماً وهي مجرد حبيبة، كيف أفعلها الآن وهي زوجتي وأم بناتي، رفيقة دربي وحياتي"
تمتم شهاب محاولًا إقناع
"سأتحدث مع جدي، وأنا واثق أنّه لن يمانع"
حين لم يرد تابع بجدية شديدة
"عمي، أقسم لك وأنت تعلم صدقي، لا طمع لي في الأرض التي كتبها جدي لبناتك. إنّها مجرد اعتذار منه وتعويض عن الماضي. ويمكنني أن أكتب لك تعهداً ألا أمسها أنا أو أي شخص في العائلة. ستبقى باسم بناتك وحقهن وأنا بنفسي سأحفظ هذا الحق برقبتي"
تأمله بدر ملياً ثم تنهد مربتاً على ساقه
"سلمت يا ولدي، لكن عرف العائلة يرفض ذهاب الأرض لغريب... ربما يُغير جدك رأيه إن رفضت طلبه"
"هل تفكر في الرفض؟ وماذا تعني بغريب هذه؟"
هز رأسه مبتسماً
"ﻻ تظن أنني سأفرض شيئاً على بناتي يا ابن عمران. لم أفعلها أبدًا ولن أفعلها بعد هذا العمر... لن أجبرهن على الزواج ضد إرادتهن"
قال وهو يحاول التحكم في هدوء تعابيره
"عمي، بعد العمر الطويل لك. أي قرار ستأخذه بعيداً عن عودتهن للعائلة لن يكون في صالحهن"
"هل أنت أعلم بصالح بناتي مني؟ تظنني غير قادر على حمايتهن واختيار الصالح لهن؟"
هتف بسرعة
"معاذ الله يا عمي"
تنهد بدر بأسف وقال
"ربما أي قرار سأتخذه سيكون أرحم بكثير من عودتهن للعائلة"
"عمي!"
"أنت أتيت بعد كل هذه السنين تقدم لي ما انتظرته من أبي لكن... بعد كل هذا الوقت لا يمكنني أن أخاطر ببناتي"
"ماذا تعني؟"
"يعني أنني إن وافقت، سأكون قد أرسلت بناتي بيدي إلى عش دبابير"
حاول الاعتراض لكنّه منعه مكملاً
"ﻻ أحد يريدهن هناك... وأولهم والدتك"
تحاشى النظر له بارتباك فابتسم بدر بتفهم
"أعرف أنّها تكره جميلة، كراهيتها لها عميقة وتمتد لسنوات بعيدة، لأيام صباهما"
وصمت قليلاً بشرود ثم أردف بهم ثقيل
"لن ترضى أبداً أن تدخل إحدى بناتي بيتها"
"هل تراني رجلاً غير قادر على حماية المرأة التي ستحمل اسمه يا عمي؟"
رد شهاب مستنكرًا فرمقه باهتمام ثم ربت على ساقه
"بل أنت أكثر من قادر يا بني، لكنني لا أستطيع المخاطرة. هن أغلى ما أملك"
سأله بتوجس
"وما العمل؟ أنت لا تنوي تزويجهن من خارج العائلة، لا يمكنك أن تفعل"
"ولما لا؟ ماذا سيمنعني؟"
"ماذا تقول يا عمي؟ هل الغريب سيكون جديراً ببناتك من أبناء عمومتهن؟"
هز رأسه مبتسماً
"ومن قال أنّ القريب جدير بهن؟ أتظن أنّ هذه الأمور تُحسب بالدم والقرابة؟ لا يا بُني، كثيراً ما تأتي الطعنات من أقرب الناس إلينا ويكون الغريب أحن وأرحم"
أطرق شهاب مقطبًا وقرأ بدر في وجهه تفكيرًا عميقًا قاطعه بسؤاله
"لماذا سمراء يا شهاب؟"
رفع رأسه بارتباك
"ماذا؟ لم أفهم ما"
ابتسم بروية
"سألتك لماذا سمراء بالذات التي طلبت يدها؟"
تردد للحظات قبل أن يجيبه
"سمراء تناسبني"
ضحك بدر
"أرى رواء تناسبك أكثر"
تمعض ملامحه جعلت بدر يضحك أكثر قبل أن يواصل استجوابه
"هل تحبها؟"
نظرة الهلع في عينيه كادت تدفعه للضحك مجدداً
"أي حب يا عمي؟ أنا لا أفكر في هذه الأمور الـ"
قاطعه بدر بأسى
"توقعت هذا، كنت آمل أنّك ورثت قلب عمران أيضاً"
وتنهد بتثاقل قبل أن يغمغم
"إذن أنت تريد الزواج من سمراء مدفوعاً بواجبك فقط؟"
صمت بضيق ثم قال
"عمي، أعتذر إن خيبت ظنك، لكن... ليس كل البيوت تبنى على الحب"
"أنت محق، لكنني لا أستطيع إجبار ابنتي على الزواج من رجل لا يدفعه نحوها سوى شعوره بالواجب"
هتف باعتراض
"هذا لا يعني أنني سأظلمها. أنا سأقوم بواجبي كزوجها وابن عمها ومكانتها فوق رأسي ولن"
"أعرف هذا لكنني أعرف بنات أيضًا يا شهاب، أكثر مما يعتقدن بأنفسهن"
ورق صوته وهو يتحدث عنهن
"خلف صلابتهن وقوتهن هناك قلوبٌ رقيقة لن تحتمل حياة جافة. لن يرضين بزواج قائم على الواجب خالِ من العاطفة"
"إلى ماذا تريد الوصول يا عمي؟"
أجابه متروياً
"أقول أنّ سمراء بالذات لا تناسبك… سمراء عاطفية وحساسة جدا بينما أنت ترى المشاعر تفاهات وشيء بلا قيمة... لن تحتمل الحياة التي تنوي تقديمها لها"
أنصت ملياً وصمت بدر مفكرًا قبل أن يسأله بتوجس
"لماذا لم تطلب يد رواء؟"
شحب وجهه بارتباك زاد شك بدر
"جدي أعطاها لحسان"
"أعطاها؟"
هتف مستنكرًا الكلمة، ولم يمنحه الفرصة ليعتذر بينما يهتف
"بناتي لسن عطايا يوزعهن أبي كيفما يشاء"
"حاشا لله يا عمي، لم أقصد ما فهمته. جدي فقط قال أنّ حسان هو الأفضل لها ولهذا سـ"
ضرب كفيه محوقلاً
"حسان؟ ابن عمك مجاهد؟"
أومأ شهاب دون كلمة ليزفر بدر بغضب
"حسان؟ حسان المتزوج ولديه ثلاثة أولاد؟"
صمت عاجزاً عن الرد فعاد بدر يضرب كفيه
"إن كنت تقبلت طلبك أنت وشقيقك على مضض، هل اعتقد أبي أنني سأرمي ابنتي لذلك الأحمق؟ هل يظن أنّ أخباره لا تصلني وأنني لا أعرف أي رجل هو؟"
"اهدأ يا عمي، إنّه مجرد اقتراح. جدي يراه الأنسب لرواء لأنّها"
صمت محرجاً فأكمل عنه بدر بقسوة
"لأنها مطلقة، صحيح؟ وما يعيبها لو كانت مطلقة؟"
رد مدافعاً دون أن يزن كلامه
"ليس كونها مطلقة، بل سبب طلاقها وسمعتها التي"
"سمعتها؟ هل تدرك ما تقوله يا ابن عمران؟"
هتف فيه بحدة فأسرع يقول
"أقسم لا أقصد سوءاً، أنا أوضح لك ما وصلنا عنها ودفع جدي لأن"
صاح فيه بعينين تقدحان شرراً
"سأقطع لسان أي شخص ينطق بكلمة في حق ابنتي وسمعتها. ابنتي ليست ناقصة ولا مشبوهة ولن أسمح لجنس مخلوق أن ينطق كلمة واحدة في حقها"
"عمي، رجاءً لا تنفعل.. لم"
هتف ضاربا كفيه بنفاد صبر
"يقول لا أنفعل، وأنا الذي طلبت قدومك ربما أجد لديك ما يقضي على شكوكي ومخاوفي"
وتابع هازًا رأسه بأسف
"كيف آمن على بناتي معكم وهذه نظرتكم لكبيرتهن؟ رواء ليست ابنتي وحسب... هي عمادي وظهري الذي أتيتم لتكسروه الآن"
"ما عاش ولا كان من يكسر ظهرك يا عمي"
هز رأسه ساخراً
"جدك فعل. وليست المرة الأولى، أبي يريد تزويجها لحسان بالذات ليعاقبها، لأنه يراها مرغت اسم العائلة في التراب. لكن لا. اذهب وأخبره أنني أرفض، ابنتي ستعيش معززة مكرمة في بيت أبيها حتى وإن لم تتزوج أبداً"
أخبره حازمًا ونهض فوقف شهاب بالتبعية
"عمي، فكر جيداً قبل أن .."
"قلت ما عندي يا شهاب. رواء بالذات لن تتزوج من العائلة أبدًا"
ورفع كفه يمنعه من الكلام مردفًا بحزم أكبر
"هذا آخر كلام عندي، وتذكر... أنا لن أجبر بناتي إطلاقاً"
أومأ في ضيق فربت بدر على كتفه
"سأتصل بك لاحقا، مع السلامة"
قالها بحزم ثم تركه وانصرف وكل خلية منه تنتفض انفعالًا وغضبًا.
****************
بادرة لطف، هذا كل شيء.
لم يكن له أي نوايا سيئة، هكذا يردد على نفسه دون توقف.
وفي أعماقه يعرف كم هو كاذب.
لا أحد يجيد خداع نفسه والتحايل حول وضعه البائس كما يفعل هو، وربما هذا ما مكنه من الصمود كل هذه السنين دون أن يفقد عقله.
لكن حتى متى؟
ما حدث مع تارا يخبره أن دعائم إرادته تداعت مع الوقت وتكاد تنهار، يجب أن يجد حلًا، لا يمكنه الاستمرار هكذا.
ألقى إيهاب الأوراق من يده زافرًا بقوة وتراجع في كرسيه مغمضًا بتعب. ضغط بين عينيه بإرهاق، ليته بطريقة ما يفقد الذاكرة،
ربما هو الحل الوحيد لنجاته.
فالمهرب المتمثل في سفره رفضه جده رفضًا قاطعًا.
رفضه وقت أراد السفر بعد أشهر قليلة من عودته من الخارج حين اكتشف أنّه اضعف من احتمال الواقع وعاد ليرفض مجددًا حين عاد سالم وتحجج هو أنّ العمل لم يعد في حاجة إليه ويكفيه أن يدير فرع الشركة بالخارج،
لكنه يعرف جيدًا لماذا يفعل جده هذا؟
ابتسم بسخرية مريرة متذكرًا كلمات جده المحذرة من أن يختبر حظه أكثر
"يكفي أنني تركتك تشتري تلك الشقة وسمحت لك بالبقاء فيها"
وكأنّه لا يحذره في كل مرة يطيل فيها البقاء هناك، وكأنه لا يقيده عمدًا إلى السراي ويتحداه أن يظهر تذمره.
رنين هاتفه المفاجئ جعله ينتفض فرفع رأسه والتقطه بآلية، حدق بصدمة للحظات في شاشته حين رأى اسمها.
أخذ لحظات ليستوعب قبل أن يرد بصوت خانه بتوتر
"مرحبًا"
تنهد بقوة واسترخى حين أتاه صوت لي لي
"أنا أخاصمك يا بوب، لن أكلمك مرة أخرى"
ابتسم بحنان يخصها
"لماذا يا أميرتي؟ هل سأهون عليكِ؟"
"أنت كذبت عليّ وذهبت دون أن تسلم عليّ حتى"
تنهد معتذرًا
"آسف جدًا يا حبيبتي، حدث شيء مهم واضطررت للذهاب. أنا آسف .. المرة القادمة سأخبركِ قبلها، اتفقنا؟"
صمتت ثوان فسألها
"صاف يا لبن؟"
عادت تهتف بعناد
"ﻻ... أنا ما زلت أخاصمك"
ضحك هازًا رأسه بيأس
"ماذا تريدين يا عفريتة لتصالحيني؟"
ادعت التفكير لثوان وردت بترفع زاد ابتسامته
"تمام، سأفكر .. أولاً أريد شوكولا... اثنين .. لا، عشرة .. كثير جداً"
"حسنًا سوف..."
"لحظة، لم أنته"
قاوم ضحكته لتتابع
"هناك دمية جديدة رأيتها في التليفزيون. أحضرها لي"
"وكيف سأعرفها يا لي لي هانم؟"
"مممم .. سأجعل ماما ترسل لك صورتها"
خانه قلبه بخفقة وجلة وقاوم بشدة ليخبرها بمرح مفتعل
"حسناً، أي طلبات أخرى؟"
ادعت التفكير مجدداً ثم أخبرته
"سأفكر .. لو تذكرت شيئاً سأتصل وأخبرك"
ضحك من قلبه
"تمام، لكن على الأقل أعطيني هدية صلحنا، هيا، أين قبلتي؟"
لم يصله ردها فنظر للهاتف بتساؤل ثم ناداها
"لي لي، أين ذهبتِ؟"
وصلته أنفاس مرتبكة قبل أن يسمع صوت تارا
"مرحباً يا إيهاب، هذه أنا"
اعتدل في مقعده بتوتر وتمتمت هي بارتباك
"عفريتتك تركت الهاتف وأسرعت تلحق بالفطور بعد أن تأكدت أنّك ستلبي طلباتها كالعادة"
توسل صوته ليعود بينما تخبره
"أنت تدللها كثيراً وهذا سيء"
"يحق لها الدلال"
قال أخيرًا بتحشرج ثم ران الصمت قليلاً قبل أن...
"كيف حالكِ؟"
"شكراً لك على..."
هتفا في آن ليصمتا معاً قبل أن تعود هي وتقول
"أنا بخير... شكراً لك كثيراً على مساعدتي تلك الليلة"
اختنق قلبه بعذاب، ومذاق مر بحلقه
"ﻻ شكر على واجب... نحن في الخدمة دائماً"
قال جملته بمرح افتعله وران صمت مربك قبل أن تهمس
"أعتذر عن إزعاجك لكنّ لي لي أصرت على مكالمتك وأنت تعرفها عندما تصمم على شيء"
قال بتسامح وعقله يحثه على إنهاء المكالمة بسرعة
"لي لي تزعجني في أي وقت، هل لديّ أغلى منها؟"
وأسرع يردف مدعياً الانشغال، منهياً وصلة عذابه
"آه... آسف يا تارا. إنّهم يطلبونني، عليّ الذهاب"
"بالطبع بالطبع... آسفة لو عطلتك"
ابتسم بشحوب
"ﻻ عليكِ ، إلى اللقاء"
ودعته وأغلقت ليتطلع للهاتف بحسرة، ظل هكذا لثوان قبل أن يضربه على قلبه هاتفاً بحرقة
"ماذا أفعل يا ربي؟ لقد تعبت"
انتفض من كرسيه ليسرع إلى نافذة مكتبه ويشهق متنفسًا الهواء بعنف، وقف مكانه لحظات يحاول بصعوبة التخلص من ذلك الاختناق الذي يرفض الزوال. لا يعرف كم مر من وقت حتى عاد هاتفه يرن ومعه انتفض قلبه ذات الخفقة الخائنة.
اتجه إليه بتردد تضاعف مع رؤية اسم المتصل، ترددٌ حسمه سريعًا ليرد بصوت أجبر نفسه أن يصبغه بابتسامة مرحبة
"كارمن، كيف حالكِ؟"
وصله صوتها الناعم تسأله
"بخير، كيف حالك؟ هل اتصلت بوقت غير مناسب؟"
أسرع ينفي بمرح
"وماذا لو؟ كارمن عزمي معها تصريح خاص تتصل في أي وقت"
بادلته ضحكته قبل أن تقول
"وإيهاب المنصوري مجامل كالعادة، ولكن سآخذ كلامك على محمل الجد ولهذا سأعتمد على أن تفرغ لي بعض الوقت في جدولك المشغول"
قطب لثوان قبل أن يعود إلى كرسيه متمتمًا بلباقة
"بالتأكيد، لكن لأي سبب؟"
"سأذهب إلى حفل في نهاية الأسبوع ومعي دعوة لفردين، أريدك معي، هل يناسبك؟"
صمت لبرهة طافت خلالها عشرات الأفكار والاحتمالات قبل أن يحسمها
"بالتأكيد"
"رائع"
هتفت بحبور قبل أن تتابع
"سأذهب الآن فلدي اجتماع الآن، سأرسل لك التفاصيل لاحقًا"
تمتم بموافقة قبل أن يودعها ويغلق ليشرد بعدها للحظات قطعتها طرقات على الباب قبل أن يدخل أسامة بوجه متألق جعله يرفع حاجبيه دهشة قبل أن يقترب منه أسامة متسائلًا
"أنت بخير؟ وجهك شاحب وتبدو كمن لم يذق النوم منذ قرن"
تمتم بسخرية
"وأنت تبدو كمن لمس السماء بيده وانتزع نجمة بعيدة"
رد أسامة بابتسامة نادرة
"لن أجعل سخريتك هذه تفسد عليّ سعادتي، لم يستطع جدكِ بكل جبروته أن يفسدها"
انقبض قلبه وشيطانه يوسوس له أنّ سعادته هذه مرتبطة بتارا. أسرع ينفض خيالاته بعيدًا
"تقدم رائع، نادراً ما يفلت أحدنا من تحت يده"
هز كتفيه قائلاً بمرح غريب ذكره بأسامة الذي كانه قبل سنوات
"تركته يعتقد أنّه انتصر كالعادة"
زفر بيأس وتابع أسامة
"آه، كدت أنسى"
وارتسمت على شفتيه ابتسامة خبيثة جعلته يتراجع بتوجس
"ما الأمر؟"
ضحك قائلاً
"لي لي غاضبة منك وتقول أنّها لن تحدثك مرة أخرى حتى تأتي وتصالحها بنفسك"
ابتسم بشحوب قبل أن ينتبه على اقترابه بخبث
"وأيضاً .. أرسلت لك رسالة مهمة جداً طلبت مني أن أوصلها لك بنفسي"
زاد توجسه قبل أن يصدمه أسامة حين أمسك وجهه بين كفيه
"ماذا تفعل؟"
"أوصل لك رسالتها"
وقبل أن يفهم كان أسامة يقبل خده بقوة مشاكساً، صرخ فيه وهو يدفعه ماسحاً أثر قبلته بقرف
"ماذا تفعل يا أحمق؟"
ابتعد أسامة ضاحكا
"ما ذنبي أنا؟ إنّها رسالتها"
قبل أن يرد حانت منه نظرة للباب فرأى سكرتيرته تحدق فيهما بصدمة، ردت بعد ثوان بارتباك
"أنا آ .. سالم بك وصل ويطلب حضوركما للاجتماع"
أشار لها الانصراف، ولم تكد تغادر جريًا حتى انفجر أسامة ضاحكا، ركله في ساقه بغلظة
"أرأيت ماذا فعلت؟ ماذا ستفكر تلك الحمقاء الآن؟"
ضرب على ظهره بقوة دفعته للأمام ورمقه إيهاب بغل قبل أن تغلبه ابتسامته، رد له ضربته بالمثل وقال
"تحرك يا حبيبي، تحرك. أعرف أنّ نهايتي ستكون على يدك قريباً"
رافقه أسامة للخارج لتقابلهما السكرتيرة، ليفاجئه أسامة أكثر حين تعمد أن يلتفت للسكرتيرة محمرة الوجه قبل أن يغادرا فيغمز لها لتغرق المسكينة في موجة ارتباك أشد.
*********************
إلى أي حد قد تثق بشخص كان ذات يوم ركنًا رئيسًا في حياتك وظننت أنّك ضمن أولوياته ثم تخلى عنك حين وُضِع الخيار أمامه؟
هل تعود لتثق بكلماته ووعوده؟
ربما تفعل مع أي شخص لكن ليس سالم، ما دام وعدها فسيأتي حتمًا.
ألم يخبرها في آخر مرة التقيا أنّ انفصالهما لن يُغير شيئًا وأنّه سيكون معها إن احتجت له في أي وقت؟
لماذا تركها إذن؟ لماذا يتحجج الآن بانشغاله؟
لا، سالم لا يكذب مهما حدث.
ولا يجب أن تلومه إلى هذا الحد، لماذا لا تضع نفسها مكانه وهي تعلم جيدًا معنى أن تعيش حياتك بلا عائلة؟ لماذا تنقم عليه اختياره أن يعود إليهم؟ ألم تكن لتدفع عمرها كله في مقابل فرصة مماثلة؟
لا، هي ليست ناقمة.
نوبات الغضب والانتقام الغبية التي انتابتها قبل أشهر حين طلقها والتي دفعتها لتتصرف بطريقة لم تتخيل أن تفعلها يومًا، اقترابها من وتين وتهديد سالم بها كانت أغبى إن لم يكن أحقر تصرف أقدمت عليه،
لكن رغم هذا… كانت لحظة الاستنارة التي احتاجتها لتعرف ما كان ينقصها مع سالم، رؤيتها لوتين مع الشخص الذي تحبه جعلتها تعرف أنّ ما جمعها هي بسالم لم يكن أبدًا حبًا… لا من طرفه ولا من طرفها.
وإدراكها كان صادمًا، لكنها لم تجد الوقت لاستيعاب صدمتها والتعامل معها فقد كان عليها العودة لتواجه واقعًا آخرًا يتمثل في التهديد الذي يلاحق عملها وحلم عمرها.
وحتى هذا لم تجد الوقت له، مع تهديد آخر ربما أخطر من الأول.
وإن لم تلجأ لسالم فلمن إذن؟
لا يمكنها الاعتماد على مدير أعمالها فجون لا يصدقها أساسًا حتى أنّه وصف مخاوفها أنّها مجرد أوهام بسبب الضغوط التي تعرضت لها مؤخرًا.
أدارت عينيها في البيت الأنيق الذي اختاره لها جون بعيدًا عن صخب المدينة وزحامها، مكان منعزل وهادئ، لكنها لم تعرف إلا حين وصلت كم هو منعزل.
لا أحد يسكن قربها، ربما أقرب بيت يبعد أميالًا عنها.
تشاجرت معه عبر الهاتف وأخبرته أنّها ستغادر لولا أنّه أقنعها أنّ هذا المكان تحديدًا هو ما تحتاجه حتى ترتاح أعصابها، لذا قررت المخاطرة والبقاء.
قرار ندمت عليه كثيرًا بعد مرور ساعات فقط، بينما تجلس بتحفز على الأريكة بعد أن أغلقت كل الأبواب والنوافذ، ترتعد خلاياها مع أقل صوت تتخيل سماعه.
تكره العودة لهذا الشعور، تكره هذا الضعف.
لا تريده، لقد جاهدت لسنوات حتى تقتل أي ضعف داخلها. الضعيف في هذا العالم يؤكل.
كل ما تردده على نفسها لم يُجد نفعًا مع أعصابها التي تلفت تمامًا
"اللعنة عليك وعلى اقتراحاتك يا جون"
صرخت بانفعال قبل أن ترتمي نائمة على الأريكة بتراخي تحدق في السقف،
"كلها أوهام، لا تفكري كثيرًا، مجرد أوهام بسبب ما حدث في الماضي"
لا، بل ما حدث في الماضي هو الدليل على صدق إحساسها، سبق وشعرت بذلك وكانت محقة، والآن.. هو نفس الشعور، نفس إحساس الفريسة التي يلاحقها متعقب مهووس.
اقشعر جسدها وحاولت طرد الذكرى سريعًا، هزت رأسها مرددة بتوتر
"لن يتكرر… هذا وهم"
يجب أن يكون كذلك، فهذه المرة سالم ليس موجودًا لينقذها.
انتفضت واقفة تردد بعصبية
"لا، لن أنتظر يومًا آخرًا… في الصباح سأرحل من هنا وليحدث ما يحدث"
واندفعت نحو غرفة النوم لتعد حقائبها لكنها توقفت فجأة حين مرت أمام النافذة، انتفض قلبها مع رؤيتها لخيال سيارة على مقربة يكاد الظلام والسياج المحيط بالبيت يخفيها عن الأنظار.
هل هي خيالات بسبب الظلال؟ لا، نظرها لا يخدعها.
أغمضت عينيها بقوة ثم فتحتهما كأن الخيال سيختفي لكنه ظل مكانه، بأصابع مرتجفة فتحت الهاتف لتتصل بسالم لكنه رن فجأة في يدها فانتفضت بفزع وكاد يسقط منها، رفعته لترد وعيناها تدمعان
"جون، هذا أنت"
أتاها صوته القلق
"بلانكا، ما بكِ؟ أنتِ بخير؟"
تمتمت بصوت مرتعش
"جون، أخبرتك أنني لم أكن أتوهم. هناك من يتعبني بالفعل"
"ماذا؟ بلانكا ألم نتفق"
قاطعته بحدة
"أنا لا أتوهم، لم أفقد عقلي بعد. توقف عن معاملتي كمجنونة"
زفر بقوة قبل أن يخبرها
"لم أقل هذا يا بلانكا، قلت أنّ أعصابكِ متوترة لا أكثر ولهذا نصحتكِ بالراحة لفترة بعيداً عن كل الضغوط"
تحركت لتقف خلف الستار الشفاف واختلست النظر
"توقف عن اتهامي بالتوهم، أنا أرى جيدًا، هناك سيارة تقف قرب البيت"
"ربما كان أحد الجيران وتعطلت سيارته، لا تقفزي باستنتاجاتك"
قبضت يدها على الستار بحنق
"سأتصل بالشرطة، لن أنتظر لـ"
قاطعها بسرعة
"لا تفعلي، ربما تكونين مخطئة، انتظري قليلًا أنا في طريقي إليكِ"
"حقًا؟"
سألته بلهفة فأجاب
"نعم، كنت أعرف أنكِ ستظلين خائفة الليلة بعد كل الرسائل التي أرسلتها فقررت القدوم إليكِ… أنا أكاد أصل، لا تفتحي لأحد مهما حدث، اتفقنا؟"
"بالتأكيد"
همست بصعوبة قبل أن يرتجف صوتها بالدموع
"لا تتأخر أرجوك"
"لن أفعل"
أغلقت مع وعده لها وعادت تلقي نظرة أخرى على ذلك الخيال متمنية أن يكون قد رحل، لكن السيارة كانت مكانها. أسرعت تتأكد من إحكام النافذة ثم تشد الستار عليها وتحركت عائدة إلى الأريكة. تشاغلت بمحاولة الاتصال بسالم لكنّ هاتفه كان يحيلها إلى البريد الصوتي.
خانتها دموعها بينما تردد عبر الهاتف رسالتها الصوتية
"سالم، أنا أحتاجك… أنا خائفة للغاية، هناك من يتعقبني.. جون لا يصدقني، لكن أعلم أنك ستصدقني… أرجوك تعال بسرعة"
أغلقت الهاتف ووضعته على الطاولة أمامها قبل أن تتراجع للخلف وترفع ساقيها تضم ركبتيها إلى صدرها وتدفن رأسها فوقهما.
تردد كترنيمة متواصلة
"لن يحدث شيء، لن يحدث شيء، لن…"
انقطعت كلماتها حين دوت فرقعة وانقطع التيار الكهربي فجأة ليعم الظلام، انتفضت شاهقة وعيناها تتسعان بفزع، وتسارعت نبضاتها وأنفاسها وهي ترى أشباحًا تنفصل عن الجدران تشق طريقها إليها بإصرار. صرخت ضاربة أيدٍ وهمية عنها قبل أن تسمع صوت الباب الخارجي ينفتح تتبعه خطوات.
توقفت الأشباح وابتعدت ودون تفكير هرعت هي إلى الخارج هاتفة
"جون، لقد أتيت"
رأته يعبر الردهة فاندفعت تتعلق بعنقه وجسدها يختض
"أنت هنا، كدت أموت من الخوف"
حالتها لم تسمح لها بتبين الاختلاف بينما تتشبث به بحثًا عن الأمان، فقط حين تحركت كفاه على خصرها بدأ عقلها ينتبه. جون لم يكن ليلامسها هكذا، جون لا يملك هذا الجسد ولا...
شهقت منتبهة وذبذبات خطر تندلع في خلاياها قبل أن تدوي كسرينة إنذار تكاد تصمها مع صوته القوي يردد ساخرًا
"لو عرفت أنّكِ ستستقبليني بهذه الحرارة ما كنت انتظرت كل هذا الوقت"
لم تنس ذلك الصوت رغم لقائهما الوحيد البغيض، انتفضت تبعده بعنف، خطوة واحدة ابتعدتها لتشدها ذراعاه من جديد
"أنت!"
هتفت وقلبها المنتفض زاد جنونه، فتحت فمها لتصرخ فأسرع يكتمه بكفه لتتسع عيناها بينما يردد بابتسامة وأسبانية عابثة.
"مرحبًا يا فراشة"
***********************
"سامحك الله يا أبي، سامحك الله"
ردد بدر بحزن وقلبه ما زال ينزف ألمًا من الطعنة التي وجهها شهاب إليه، يشعر به يكاد يتوقف كما كاد يفعل قبل سنوات، ليلة زفافها التعيس ويوم طلاقها وتلك الليلة التي نحرت فيها شعرها الغالي.
رواء فرحته الأولى والنعمة التي أنارت بيته بعد الألم والغربة. كانت عماده وظهره الذي انكسر يوم انكسرت ثم عاد ليشتدّ، عندما اشتد عودها ونهضت من كبوتها.
تحرك بتثاقل نحو غرفة سمراء، شاعرًا بالعجز ينخره. لو مات الآن لمن يتركهن، يخشى عليهن القريب قبل الغريب. استغفر بحرارة مذكراً نفسه بتقوى الله ليرحم من بعده ذرية ضعافاً يخشى عليهم.
دخل وهو يقاوم حتى لا تظهر مشاعره على ملامحه لكن زوجته كالعادة تقرأه بسهولة، نهضت متجهة له بقلق بينما يقرأ في عينيها كل مخاوفها وشكوكها، تخشى أن يميل لكلام أبيه ويظلم بناته.
"ماذا فعلت يا حاج؟ هل فاتحك في نفس الطلب؟"
رد ممازحًا
"لم تسأليني ماذا فعلت مع الطبيب؟ لم تعودي تهتمين بصحتي يا جميلة"
شهقت بجزع
"هل قال شيئاً سيئاً؟ هل"
"اهدأي، أنا بخير. كنت أختبر محبتكِ"
أخبرها ضاحكًا وثنى ذراعه مستعرضاً قوته لتضحك بخجل وهو يغمز
"ما زلنا شباباً يا فتاة"
مسحت دمعتها وهي تبتسم
"وسيد الشباب أيضاً"
أحاط كتفيها وضمها إليه بحنان فربتت على صدره مقاومة دموعها
"حفظك الله لنا يا حاج وأطال عمرك"
قبل جبينها بحب قبل أن يسمعا نحنحنة تلاها صوت طيف المشاكس
"الله الله، ماذا يحدث وراء ظهري؟ أغيب قليلاً وأعود لأجد الحب مشتعلاً دون خجل"
التفت والدها ضاحكاً بينما حدجتها أمها شذراً
"ولم تجدا سوى المشفى لتجددا عهود الحب يا عصفوري الحب الشقيين؟"
"لسانكِ الطويل هذا ارحمينا منه قليلاً"
غمزت لها مشاكسة
"هل تخجلين يا جميلة؟ يا ربي، إنها تحمر"
قرصت جميلة خدها فتأوهت معتذرة
"خلاص توبة. توبة... سحبت كلامي"
شد بدر زوجته ليضمها إليه وقال مدعيًا الجدية
"لماذا تغارين من أمكِ يا بنت؟ هل ترينها كبرت على تغزلي فيها؟"
اقتربت تتعلق بذراعه وتقبله بدلال
"أنا التي كبرت يا حاج، راعيا فقط الجفاف والقحط الذي تعيش فيه ابنتكما المسكينة، ستكونان مسؤولين عن انحرافي"
شهقت جميلة باستنكار وضرب هو رأس ابنته قائلاً بصرامة مفتعلة
"جفاف وانحراف يا بنت العزايزي، انتظري حتى أعود للبيت وسأعالج هذه المشكلة تماماً"
ابتعدت ضاحكة قبل أن يضربها مجددًا
"ﻻ شكرا، لقد شفيت تماماً... سأذهب إلى الداخل، خذا راحتيكما. لن أقاطعكما مجدداً"
وتوقفت عند الباب لتخبرهما غامزة
"انتبها، الممرضة بالداخل، لا أريدها أن تخرج على مشهد فاضح، اتفقنا؟"
رددت جميلة بحنق
"قليلة الحياء، لسانها بطول المترين هذا يحتاج قصه"
ابتسم مغمغاً
"كان الله في عونه"
رمقته بتساؤل فوضح سريعاً
"زوج المستقبل الذي دعت عليه أمه"
عاد القلق إلى عينيها وابتعدت تسأله بتوجس
"هل وافقت على .."
"لم أوافق على شيء يا جميلة. هل تظنين أنني سأظلم بناتي أو أجبرهن على الزواج فقط لأرضي أبي؟"
غامت عيناها بالدموع وتركته لتجلس على الأريكة
"ﻻ يا حاج ليس أنت من يفعلها لكن..."
ورفعت عينيها إليه بدموعها
"أنا خائفة.... خائفة والذنب يقتلني أيضاً"
قطب واقترب ليجلس جوارها
"أي ذنب يا جميلة؟"
"ذنب القطيعة بينك أنت وأهلك. كيف آتي الآن وأمنع بناتي من"
"ليس ذنبكِ ، أخبرتكِ بهذا مراراً"
سالت دموعها وهي تسند رأسها لقلبه
"ماذا سنفعل من دونك يا حاج؟ ماذا لو؟"
ضمها هامسًا بصوت متحشرج
"استغفري الله يا جميلة ولا تفكري في هذه الوساوس"
استغفرت بحرارة وتنهد وهو يضمها أكثر وصمت للحظات قبل أن يهمس لها
"قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا. تذكري هذا دائماً ولا تفكري في شيء آخر"
أومأت وهي تحاول السيطرة على دموعها وعاد يضمها في صمت قطعه خروج طيف هاتفة بفرح
"سمراء استيقظت يا أبي"
اندفعا إلى الغرفة، ليجدا رواء تساعدها على الجلوس برفق وابتسمت لهما قائلة وهي تضع الوسادة خلفها، ابتعدت الممرضة التي كانت تفحصها وأخبرتهما بابتسامة
"حمدا لله على سلامتها، سأبلغ الطبيب أنها استيقظت"
اندفعت جميلة لتحتضن ابنتهما بلهفة
"سمراء... ابنتي. آه يا نور عيني... الحمد لله"
مسح بدر دمعة خائنة وتحشرج صوته فلم يستطع النطق بكلمة بينما يتحمد الله في قلبه دون توقف.
******
دفء سرى في عروقها وطرد عنها بردًا غريبًا تشعر أنّه رافقها لزمن طويل بينما تدفن وجهها في حضن أمها الباكية، عقلها يحاول باستماتة استجماع ذاكرتها. آخر ما تذكره أنها كانت مع راندا تتمشيان على الكورنيش، قبل أن تندفع هي لتشتري غزل البنات. كانت تعبر الشارع ضاحكة وهي تعود لراندا بصيدها الثمين عندما...
رأت نفسها تطير لتصطدم بالرصيف، شعرت بالصدمة مجدداً فتأوهت بألم وهي تمسك بجبينها، فابتعدت أمها بخوف
"ما الأمر؟ هل يؤلمكِ الضوء؟"
تجمدت سمراء لحظة قبل أن تحرك يدها أمام عينيها ولامستهما لتنتبه أنّهما غير مضمدتين كما توهمت، تردد صوت أمها بصدى مرعب داخلها، وهي تنهض من جانبها
"ساعديني في غلق هذه النوافذ يا رواء. لماذا تأخر الطبيب هكذا؟"
خفق قلبها بعنف قبل أن تسمع صوت والدها المتهدج
"حمداً لله على سلامتكِ يا حبيبتي، أوقفتِ قلوبنا خوفاً عليكِ"
ضيقت عينيها حتى آلمتاها وهي تنظر تجاهه
"أبي؟"
اقترب صوته أكثر، فلمحت حركة باهتة جداً خلف ستارة مظلمة. شعرت به يجلس جوراها
"أنا هنا يا حبيبة أبيكِ"
تنفست بصعوبة
"هل النوافذ مغلقة يا أبي؟"
وصلها صوته باهتمام قلق
"لقد واربتها أمكِ، هل ما زال الضوء يزعجكِ؟"
تسارعت نبضاتها وأنفاسها بفزع، رفعت يدها أمام وجهها مثيرة قلق والدها أكثر، وقبل أن ينطق تشبثت بذراعه بفزع وحركت كفها تتلمس الطريق إلى وجهه
"أبي. أنت هنا؟ أنا..."
صوته هذه المرة كان أشد قلقًا وحيرة
"أنا هنا، لا تخافي"
تمسكت به بلهفة وسالت دموعها وهي تردد بجزع
"أبي، أنا لا أراك. أنا لا أرى يا أبي"
سمعت صوت رواء يقترب هاتفًا
"اهدأي يا سمراء، الطبيب سيفحصكِ حالاً ويطمئنكِ ، لا تخافي"
رفعت عينيها نحو مصدر الصوت وضيقتهما تحاول اختراق العتمة إلى شقيقتها لتتخبط في خوفها أكثر وتمسكت بأبيها باكية
"أنا لا أرى، هناك سحابة معتمة أمامي. أنا لا أراكم"
سمعت صوت بكاء مفاجئ من طيف وأمها، وصوت رواء يخبرهم أنّها ستنادي الطبيب بينما ضمها والدها بقوة وجسدها يرتجف بقوة
"أنا لا أرى يا أبي... أبي، لا تتركني. أنا لا أراك"
احتضنها أكثر وصوته ارتعش بوضوح
"ﻻ تخافي، ستكونين بخير"
وردد بلوعة مشاركا إياها دموعها
"قولي الحمد لله... الحمد لله على كل حال.. الحمد لله"
شهقت باكية وهي تردد خلفه
"الحمد لله... الحمد لله"
واصلت ترديدها معه وهي تبكي بحرقة وتدفن نفسها فيه أكثر تختبئ من الظلام الذي ظنت أنّها غادرته أخيراً لتستيقظ وقد رافقها في صحوها.
*******************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا