الفصل الثاني

ها قد عاد...

بعد كل سنين الهرب... عاد إلى حيث بدأ كل شيء، حيث خسر كل شيء.

 

رفع سالم عينيه يتطلع إلى السراي الماثل بشموخ كأنّه يتحداه، تختلط في قلبه ذكرياته السعيدة والأليمة هنا. ما زال لا يستطيع النسيان وما حدث اليوم حطم كل السدود فانهمرت ذكرياته سيولًا تغرق روحه وقلبه،

سيولًا هدمت قواه فألجأته لآخر مكان يجب أن يعود إليه.

 تحرك بتعب نحو السلالم، يزداد اختناقًا مع كل خطوة ليتوقف مع الصوت الذي تردد ساخرًا

"انظروا من أتى أخيرًا، لا أصدق عينيّ"

رفع عينيه لتقابلا عينيها المتنمرتين 

"كيف حالكِ يا نيروز؟"

"جيد أنّك ما زلت تذكر اسمي"

تنهد بتعب وهو يصعد الدرجات التي تفصلهما

"هل يمكننا تأجيل العتاب لوقت آخر؟ وسأترككِ تتشاجرين معي حتى ترتاحي"

"ﻻ داعي للحديث أصلا. استغرب فقط وجودك هنا الآن، خيرًا إن شاء؟"

ارتفع صوت خلفها بلوم

"نيروز توقفي عن إزعاج شقيقكِ ، كيف تتحدثين معه هكذا؟"

رفع عينيه نحوها بشوق بينما تندفع لتحتضنه 

"أخيرًا أتيت، آه كم اشتقت إليك"

راقبتهما نيروز بتجهم 

"كأنّه يهتم لاشتياقكِ له. ﻻ تأملي كثيرًا، مؤكد سيغادر مجددًا دون أن ينظر خلفه"

"نيروز"

تدخل هو برفق

"دعيها يا أمي، أعرف أنّها غاضبة لكنني سأصالحها"

"لن أصالحك أبدًا"

ابتسم بأسى بينما تندفع إلى الداخل وقدماها تضربان الأرض فواسته أمه

"ﻻ تغضب منها، تعرف أنّها تحبك ولهذا هي غاضبة حتى الآن"

"أعلم ولست غاضبًا منها، أنا أخطأت في حقها وحق الجميع"

ونظر في عينيها بألم 

"وأنتِ قبلهم يا غالية، سامحيني"

"لست غاضبة منك يا بني ولن أفعل أبدًا"

رقت عيناه بدموع مكتومة بينما كفاها تحتضنان وجهه

"تعال إلى غرفتك، لم أغلقها قط. كنت أعرف أنّك ستعود حتمًا إليها"

استسلم لكفها تشده بحب أمومي اشتاقه بعد كل سنين الغربة والضياع.

دفعته ليجلس على سريره ووقفت تتأمله من بين دموعها

"دعني أنظر إليك وأتأكد أنّك أمامي، أنّك عدت أخيرًا"

غصة شديدة وقفت بحلقه ليقول بألم وهو يمسك كفها ويقبلها مكررًا اعتذاره لتمسح دموعها بكفها الحرة وتهمس له

"ارتح قليلًا وسنتحدث بعدها و"

نهض ليمسك كتفيها ويجلسها مكانه، جلس أرضًا ومال على ركبتيها يدفن رأسه في ثيابها، شعر بكفها تلامس شعره بحنان

"ما بك يا حبيبي؟ أخبرني"

استغرق ثوان حتى أجابها باختناق وذراعاه تشتدان حولها

"أنا متعب، أكاد أموت"

"بعد الشر عنك، ماذا أصابك؟"

تنهد بقوة وهمس

"وجدتها يا أمي، لقد عادت"

شهقت، وعرف أنها فهمت دون سؤال

"عادت كل هذه السنين، هل تصدقين هذا؟"

"عادت؟"

أومأ وصوته مختنق

"هل تحدثتما معًا؟"

ضحك بمرارة 

"فقدت وعيها ما أن رأتني. لم تحتمل رؤيتي، تخيلي! كانت صادقة حين قالت أنّها ستكرهني وستظل تلعنني لآخر عمرها"

"ولماذا ستفعل؟ لم يكن بيدك ما حدث، جدك هو من"

قاطع هتافها المعترض بشرود حزين

"أنا تخليت عنها، لم أستطع حمايتها من جدي بل كنت أسوأ منه ودمرتها"

"ماذا فعلت؟"

سؤالها المتوجس جعله يطرق بخجل، لم يجرؤ أن يرفع عينيه لها بينما يقص عليها ذنبه وخطيئته الكبرى، يتحشرج صوته والذكرى تشتعل حية أمام عينيه 

"ﻻ ألومها على كراهيتها، كنت أعرف أنّ القدر سيعاقبني لكنني لم أعرف أنّه سيعاقبني بها. المرأة التي أتنفس عشقها تكرهني بكل ذرة عشقتني بها سابقًا، هل تتخيلين عذابي؟"

"انسها يا بني، لم تعد لك"

رفع رأسه مرددًا بعذاب 

"ﻻ يا أمي، لطالما كانت لي. ذلك الرجل كان الدخيل بيننا، هي حرة الآن... حرة لأعشقها دون حدود ودون شعور بالذنب"

"ماذا تعني؟ هل"

"ليست متزوجة، لم تعد كذلك" 

"لكن هذا لا يحل الأمور، جدك لن"

قاطعها بحدة

"لا، لن يتدخل. لن ينتزعها مني مجددًا، لن أسمح له"

"آه يا بني، ماذا تقول؟ أنت لن تدخلها هذه الدوامة مرة أخرى"

وضغطت على كتفه برجاء

"أنت لن تعرضها هي وأسرتها لآذاه من جديد. لا تعتقد أنّ جدك كبر وضعف، ما زال كما هو. فعلها سابقًا وسيكررها إن لزم الأمر"

"لا، ليس هذه المرة. لن يقف أحد في طريقي ولا حتى هي نفسها"

"وجدك يا سالم؟"

مال ليدفن رأسه في حجرها مرددًا بوعد ويقين

"لن يمنعني عنها ولو عني هذا أن أقلب عائلة المنصوري رأسًا على عقب… حتى ولو أعادها القدر ليعاقبني، سأتقبل عذابي بصبر حتى أكفر عن ذنبي، وبعدها ستكون لي كما كان يجب أن يحدث منذ سنين"

************

 

لقد عاد…

سالم عاد؟!

كيف يجرؤ على الظهور مجددًا؟ 

بعد كل هذه السنين، يعود ليفتح جروحها ويلهب جلدات السياط فوق روحها.

لماذا عاد؟ والآن؟

في أكثر وقت تحتاج قوتها لتواجه عائلة أبيها، الآن وشقيقتها بين الحياة والموت،كيف تواجه هذا كله؟

أسئلة لم تتوقف عن تردديها منذ استيقظت لتجد نفسها في فراش بالمشفى وكم كرهت نفسها حين استعادت ما حدث.

كيف سمحت للحظة صدمة أن تخلع حصونها وتعصف بها فتنهار لدرجة أن تفقد الوعي؟

خادعت نفسها أن السبب ليس إلا تعبها وحرمانها من النوم وليس لأنها كانت أضعف من أن تواجه عودة الماضي الذي تمقته.

زفرة حارة ترددت من أعماقها بينما تنظر لشقيقتها الغارقة في غيبوبتها، كأنه لم يكف سالم وعائلته ما فعلوه في الماضي يأتي شقيقه ويكاد يقتل سمراء… كأنّها في حاجة لأسباب أكثر لتكرهه.

"يا رب لا اعتراض على حكمك"

همست بحرارة قبل أن تضغط كفيها حول يد سمراء الساكنة 

"عودي يا سمراء أرجوكِ… ﻻ تستسلمي"

ﻻ استجابة، تطرق بهم زاد ثقلًا قبل أن يتخلل سمعها صوت الأذان، فهمست تردد خلف المؤذن، ثم نهضت لتقبل جبين سمراء

"ﻻ تستسلمي"

تحركت خلال الجناح الخاص الذي انتقلت إليه سمراء بعد خروجها من العمليات، والذي ظنت في البداية أنّه هشام كالعادة تدخل لمساعدتها، لكنّها اكتشفت أنّ سالم من دفع تكاليف المشفى وأصر على نقلها إلى جناح خاص وبسببه أيضًا سمحوا لها بالمبيت معها، تكره أن تكون مدينة له، لا تريد هذا...

طردته من عقلها بعنف وأسرعت لتتوضأ هامسة لنفسها بحزم

"انسي يا رواء، انسي ولا تسمحي له بإفساد كل ما تقدمتِه"

نزلت عيناها على رقبتها لتتوقفا عند أثر الجرح الذي سببته لنفسها ذات ليلة مجنونة. قاومت الذكرى ورفعت كفيها لتتوضأ وككل مرة واجهتها ندبتا رسغيها لتذكراها بجريمتها وذنبها الأعظم.

استندت للحوض بضعف لحظي وتنفست بصعوبة

"لن أسامحه أبدًا"

لن تسامحه ولن تسامح نفسها هي الأخرى أبدًا.

***************

 

يداه لا تتوقفان عن الارتعاش،

وكذلك جسده…

هل هي صدمة متأخرة؟

ظل يوسف ينظر لكفيه المترجفتين باختناق قبل أن يرفع عينيه ناظرًا عبر نافذة سيارة الأجرة التي استقلها بعد فشله في قيادة سيارته.

مؤكد هو أثر الصدمة.

خيالها وهي تطير لتسقط على الرصيف لا يريد أن يفارق عقله، حاول النوم لكن الذكرى منعته ليجد نفسه في هذه الساعة المتأخرة يغادر السراي متجهًا إلى شقته، 

ربما ليس من الجيد أن يذهب إلى هناك بعد شجارهما والمصيبة التي كادت تحدث بسببه، لكن رغم غضبه منها يحتاجها بشدة الآن.

لا يعرف حتى متى سيحاول إثبات صدق نواياه نحوها، حتى متى ستظل تتهمه وتلومه على قرار أخذه في لحظة خوف من خسارتها ووافقت هي عليه بإرادتها.

عقله أخبره ساخرًا، أنّ أي فتاة في وضعهما هذا ستفكر كما تفكر هي، ولن ترى نفسها إلا نزوة حتى وإن ضعفت في لحظة بسبب مشاعرها ولن ترى فيه إلا كاذب خدعها باسم الحب.

ترددت الكلمة الأخيرة في عقله أكثر من مرة لتسحبه رغمًا عنه من جايدا إلى ما حدث في المشفى أمام عينيه.

كيف تحول سالم حين رآها، رد فعله حين سقطت فاقدة الوعي.

شقيقه ما زال يعشق تلك التي حطمت أسرتهم وبسببها تركهم سالم لسنوات طويلة، 

ألم يكن كل ما حدث باسم الحب؟

لكن…

يكون كاذبًا إن أنكر أن جزء منه يتعاطف مع سالم ويشعر به والجزء الآخر ناقم عليه وعلى حبيبته السابقة.

ما رآه في وجه شقيقه يقول أنه لا ينوي ترك الأمور عند هذا الحد، سيحاول حتمًا استعادة رواء وهو لا يريد هذا، لا يريد أن يكرر شقيقه الماضي الذي ما زالوا يدفعون ثمنه.

لا، هو ليس منافقًا ولا أنانيًا.

لن ينكر على شقيقه ما يعيشه هو نفسه مع جايدا، لكن… ليس رواء،

جده لن يسمح بهذا وسيفتح أبواب الجحيم على سالم وربما عليهم جميعًا ولا يريد تخيل أي كارثة قد تحدث هذه المرة.

 

"وصلنا يا أستاذ"

 

صوت السائق انتزعه من أفكاره المتقافزة في كل اتجاه، فانتبه لتوقفهما أمام العمارة، نقده أجرته وغادر ليقف في الشارع شبه المظلم لبرهة، ناظرًا لأعلى حيث شقته.

خفق قلبه برهبة بينما يتذكر تهديدها، هل سيصعد ليجدها رحلت حقًا؟ هل تفعلها؟ 

ماذا سيفعل إن لم يجدها؟ إن كانت رحلت قبل ساعات وسافرت فهذا يعني أنّه لن يلحق بها ولن يعثر عليها أبدًا.

"لقد لحقتني هذه المرة، لذا تمسك بي جيدًا… لا تضمن المرة القادمة أن تعثر عليّ"

عبارتها التي أخبرته إياها ذات يوم عادت تدوي في عقله، ورهبته تحولت إلى خوف عميق، يعرف أنها لم تنطق تلك الكلمات من فراغ.

تحركت قدماه بسرعة ليدخل العمارة ويصعد مسرعًا إلى شقته، بأصابع مرتجفة أدار المفتاح وحين دفع الباب توقف قلبه مع السكون الذي قابله، الجزع الذي انتابه تحول إلى صدمة عندما أنار المكان ووقعت عيناه على الأرض.

اندفع إلى جسدها الساكن بخوف وركع جوارها
"جايدا، حبيبتي، ما بكِ؟"

هالته برودة جسدها وآثار الدموع على خديها، هل ظلت مكانها تبكي لساعات؟ 

عاد يناديها وإحدى كفيه تربت على خدها والأخرى ترفعها لتضمها إليه، ببطء انفتحت عيناها لتنظرا إليه بتعبير لم يفهمه لكنه اخترق أعماقه قبل أن تهمس بوجع
"لقد تركتني"

تأوه مع همسها اللائم واندفع يضمها بين ذراعيه
"آسف، أنا آسف… كنت غاضبًا، لم أقصد… لم أعن أي كلمة قلتها"

"رحلت ولم تهتم"

همساتها زادت خفوتًا بينما تخفي وجهها في صدره وتغمض عينيها، قبّل رأسها مواصلًا اعتذاراته قبل أن ينتبه لسكونها وأنفاسها المنتظمة فأدرك أنها غرقت في النوم.

ظل مكانه عاجزًا عن الحركة لبرهة، قلبه ما زال في سباق، يلومه ويخنقه لأجلها لكنه ارتاح قليلًا بعد أن اطمأن لوجودها.

مال يغمر وجهه في شعرها هامسًا
"شكرًا لأنّكِ لم بقيتِ"

رددت اسمه بنعاس فطبع قبلة أخرى على شعرها قبل أن ينهض حاملًا إياها برفق واتجه بها إلى غرفتهما وهو يواصل همسه واعدًا
"احتملي معي قليلًا، قليلًا فقط وسأفعل كل ما تريدين"

 

***************

 

ظمأ...

ظمأ رهيب، 

حلقه شديدُ الجفاف وأنفاسه اللاهثة تتردد بصدى، قدماه متهالكتان يجرهما بصعوبة ورمال الصحراء تقيده وتزيده بطءًا ليحترق أكثر تحت شمسها اللاهبة، والصحراء المقفرة لا تنتهي.

تهالك على ركبتيه بانهزام واستسلم لمصيره.

رفع عينيه ليرى من بعيد سرابًا،

لا، كانت هي… رواه.

همس اسمها بشفتين جافتين، نظراتها الحزينة اللائمة ازدادت حزنًا بينما يرفع يده نحوها فأشاحت عنه، ابتعدت فحاول اللحاق بها، تعثر وواصلت هي ابتعادها وعاد العطش مضاعفًا، 

صوته عاجز عن ندائها حتى تحرر في هتاف جعله ينتفض فجأة فاتحًا عينيه ليجد نفسه على فراشه بغرفته بالسراي، في لحظات عاد إلى الواقع متذكرًا كل شيء.

مد يده يفتح النور المجاور، يلهث بقوة وحلقه الجاف يؤلمه، كأنه كان في صحراء بالفعل، تناول كوب الماء من قربه وتجرعه بسرعة ليطفئ ظمأه ثم صب آخرًا وتجرعه ثم نهض.

فتح الشرفة ودلف إليها ناظرًا عبر الظلام الذي تخللته أنوار الحديقة الخافتة.

لقد عاد وما زال شعور الغربة يتملكه،

بيته لم يعد بيته وأسرته يعاملونه كغريب عدا أمه، غريبٌ عن نفسه وهي... رواه.

روا القلب التي يوقن أنّها ستضن بسقياها حتى يهلك عطشًا، تحسس قلبه بألم مدركًا أن في انتظاره أيامٌ طوال من العذاب. 

هو في حاجة لمعجزة إن أراد غفرانها.

حاول مقاومة يأسه ليفكر في خطواته القادمة، عليه أن يكون حذرًا إن أراد النجاح في هدفه.

ظل على شروده حتى انتزعه منه رنين هاتفه فقطب بقلق وعاد إلى الداخل ليجيب الاتصال وكما توقع كانت هي، لن يتصل سواها في هذه الساعة المتأخرة.

حين فتح الخط وصلته شهقة باكية جعلته يهتف

"رويدا، أنتِ بخير؟"

صوتها وصله غير طبيعي 

"لست بخير يا سالم، أرجوك عد"

"رويدا، ألم..."

"أنا خائفة، هناك أشياء غريبة تحدث هنا"

انقبض قلبه بتوجس

"ماذا هناك؟"

ران الصمت هُنيهة إلا من أنفاسها المرتجفة

"أشعر أنّ هناك من يتعقبني"

جلس على طرف الفراش وتقطيبته تزداد 

"لا أعرف حقًا، لم أعد متأكدة، أعصابي متعبة وأنا خائفة جدًا... لماذا لا تأتي؟"

ردد اسمها بتعب فتوسلته

"أنا لا أكذب عليك. أقسم لا أكذب، ولا أفعل كل هذا لأجبرك على العودة لي"

أشفق عليها وسب نفسه على ما وصلت إليه بسببه رغم كل ما كانا لبعضهما.

تنهد بقوة بينما همست بتهدج

"أنا أحتاجك بشدة، لم يعد لي غيرك وأنت تعرف هذا. لا أريد شيئًا منك، لم أعد أريد شيئًا، فقط عد حتى أطمئن"

اختنق بغصته وقلبه انقسم وجعًا بينها وبين حبيبته التي تركها قبل ساعات في المشفى بعد أن صفعه القدر بعودتها. 

"تمام يا رويدا، سأرى ما يمكنني فعله"

"حقًا؟ ستأتي؟"

زفر بتعب

"سأرتب أموري هنا أولًا، الوضع معقد عندي. تحملي قليلًا"

همست بضعف لم يعتده منها 

"تمام سأنتظرك"

لم يعجبه ما تتحول إليه وقلبه أخبره أنّها تسير لهاوية، إن كانت تتعرض للخطر الآن فهذا بسببه ووحده يمكنه إيقافه عند حده، لكن كلما فعل كلما أدرك شاهين قيمتها عنده، ربما مخاوفها لا علاقة لها بتهديد شاهين له لكن لا يمكن أن يثق كثيرًا.

أسرع يطرد مخاوفه يوصيها برفق

"اعتني بنفسكِ حتى آتي وأنا سأتصل بجون وأؤكد عليه زيادة الحماية حولكِ"

"تمام"

همست باقتضاب ثم ودعته ليقبض على الهاتف، وقست عيناه بتوعد

"لا تجبرني على شيء لا أحبه يا شاهين"

************************

 

نزلت نيروز السلالم متجهة إلى غرفة الطعام بينما تحاول ألا تطرف بتفكيرها إلى سالم والذي ظنت منذ عودته أنّه أخذ عهدًا على نفسه ألا يطأ السراي طوال عمره.

لكنه قرر العودة... 

لكن لماذا، وبعد ماذا؟

وما يعنيها هي؟! 

ستسمر في تجاهله كما قررت وإن كان الندم هو سبب عودته فهي لن تـ

"نيروو، لقد عدت"

ارتفع الهتاف من خلفها فالتفتت بابتسامة واسعة طاردة كل مشاعرها السلبية

"انتبهي يا لي لي، لا تقفزي هكذا"

"ذهبت لغرفتك أول ما وصلت لكنني لم أجدكِ"

استقبلت اندفاعها الحماسي وانحنت تقبلها

"حقًا؟ ربما كنت في الحديقة وقتها"

رفعت رأسها لترى زوجة أسامة تنزل برشاقة وفستان أنيق يعانق منحنياتها، وشعرها مجموع في تصفيفة راقية.

رباه... تكره أناقتها المبالغة، لكنّها تعترف مرغمة أنّها رائعة واختيارها في الملابس راق، تعترف رغم ملابسها الصبيانية التي لا تنوي تبديلها يومًا لكن لا مانع من الإعجاب كل حين بتلك الأشياء المبالغ في أنوثتها.

"مساء الخير يا نيروز"

"مساء الخير يا تارا، حمدًا لله على سلامتكما"

شكرتها بهمسة باهتة قبل أن يتجهنّ إلى غرفة الطعام. 

 

زفرت نيروز بحرارة إلى ساعة الحائط بينما تابع الخدم وضع الأطباق وأمها تشرف عليهم. دخل يوسف بعد قليل ملقيًا تحية خافتة... ابتسامتها له بهتت حين رأت سالم يدخل خلفه.

كتمت غيظها وهي ترى أمها تهرع إليه بينما شدتها لي لي من كمها 

"نيرو، هل هذا أخوك وأخو بابا فعلا؟"

"نعم يا لي لي هانم، إنّه أخي الكبير، يعني عمكِ"

ردت بحسرة طفولية

"أنا ليس لي أخ كبير... ماما، لماذا ليس لي أخ كبير؟"

نظرت نيروز إلى وجه تارا البارد وهي تجيبها

"لأنّكِ أتيتِ أولًا يا لي لي"

"لو كنت أعرف كنت سأنتظر داخلكِ قليلًا حتى يأتي هو قبلي"

ابتسمت نيروز مرغمة ولمحت ابتسامة باهتة على شفتيّ تارا سرعان ما اختفت. عادت هي تلتفت إلى حيث أمها تجذب سالم بسعادة

"اجلس هيا يا حبيبي، اشتقت لوجودك أمامي... ألم تشتق لتناول الطعام وسطنا؟"

استسلم لها قبل أن تلتقي نظراتهما فابتسم لها بحنان جعلها تشيح وجهها عنه بتجهم.

*********

ابتسم سالم بأسى مع إشاحة نيروز عنه ثم حاد بعينيه إلى زوجة أسامة التي التقاها مرة واحدة حين حضرت حفل خطبته على وتين.

التقت أعينهما فجأة ولوهلة شعر أنّه يرى عينيّ رواء، باردتين ثلجيتين. هزت رأسها بتحية فرد بالمثل وأشاح وجهه لتقع عيناه على الوجه الصغير الذي يرمقه بفضول، قبل أن تخفضه صاحبته في طبقها، تختلس النظرات إليه كل لحظة.

انتبه على خطوات عرف صاحبها قبل حتى أن يلتفت، يعرف جيدًا ذلك التوتر الذي يسري بالمكان مع دخول جده.

تقدم وعصاه بالكاد تمس الأرض، يعترف أنّه ما زال رغم سنواته التي تجاوزت الخامسة والسبعين قويًا كما عهده.

كم يكره هذا، يكره العودة لذلك الشعور أنّه تحت سيطرته كما الجميع.

وها هو ما زال محتفظًا بهالته وعنفوانه، والسنوات التي غابها لم تضعفه كما كان يتوقع بل زادته قوة وسيطرة.

حافظ على تعابيره بينما جده يأخذ مجلسه على صدر المائدة، تابع الجميع أكلهم في صمت بينما راقبهم هو وتساؤل مهموم يعتصره،

ماذا فعل؟ وماذا فعلت بهم السنين الماضية وأين كان هو؟

توقفت عيناه فجأة على كرسي بعينه، فارغ من صاحبته

"أين فلك؟ ألن تأكل معنا؟"

لم يفته توتر نظراتهم قبل أن تضحك نيروز بتهكم

"هل تذكرت أن تسأل عنها أخيرًا؟"

"نيروز"

نادت أمه محذرة فانقبض قلبه بتوجس  

"أمي، ماذا..."

 

"بوب"

التفت مع هتاف لي لي ليراها تندفع نحو إيهاب، التقت نظراتهما فلمعت عينا ابن عمه بسخرية اختفت سريعًا وهو يرفع لي لي

"عروستي، اشتقت لكِ"

قبّل خدها وداعبها بلحيته القصيرة فضحكت 

"توقف، ذقنك تشكني يا بوب"

تقدم وعيناه تتحركان على الجميع 

"ما هذا؟ تأكلون من دوني! فعلاً الغائب ليس له نائب"

ردد جده بصرامة

"أوقف هذا العبث يا إيهاب واجلس إن كنت تنوي تناول الغداء"

غمغم ساخرًا

"بالطبع يا جدي. تعرف، لا أحب طعام الطائرات، ولم أضع لقمة منه بفمي... أكاد أسقط من الجوع"

وضع لي لي في كُرسيها وقبّل رأسها بحنان قبل أن يعتدل رامقًا نيروز بتحد ورمقته هي بنظرات نارية جعلته ينقل بصره بينهما بحيرة وشك 

"اشتقت حقًا لهذا التجمع العائلي الجميل"

قالها بتهكم بينما يتجه إلى مقعده 

"صحيح، ينقصنا أسامة"

"وأين هو؟ كان من المفترض أن تصلا معًا"

"ما أدراني؟ قال أنّ عنده أمورًا أخرى مهمة، نزل في منتصف الطريق وتركني"

وتابع ملقيًا نظرة على تارا الصامتة 

"ربما يأتي في المساء"

ران صمت قطعه الجد في لحظات

"إلى متى يستمر هذا الحال يا تارا؟"

توقفت يداها فوق طبقها قبل أن ترفع عينيها نحوه 

"عفوًا؟"

"قلت إلى متى يستمر هذا الحال؟"

صمتت لثوان قالت بعدها وهي تضع شوكتها وسكينها

"عندما يعود أسامة يمكن لحضرتك أن تسأله وتستفهم منه"

نظراته القادرة على إثارة رعب أي شخص بدا أنها لم تهزها بينما تردف

"ولو أنّ هذا أمر خاص بنا كزوجين ولا يحق لأحد التدخل لكن... بالطبع أنت لست أي أحد"

مسحت شفتيها بفوطة المائدة، ونهضت بحركة أنيقة 

"الحمد لله... بالهناء والشفاء للجميع"

شعر أنّ كلماتها لا تخص الطعام وربما في ظرف آخر لضحك مدركًا قصدها، تابعها بنظراته ولي لي تنهض لتتبعها بعد أن رمقت جده بتقطيبة طفولية  

"الحمد لله، أنا أيضا شبعت"

"إذا حضرت الشياطين"

قالتها نيروز وهي ترمق إيهاب الذي واجهها بتحد ساخر،

ماذا حدث وقلب صداقتهما عداوة؟

تساءل وعيناه تعودان إلى كرسي فلك الخالي… ليسا وحدهما، الكل تغير والكثير حدث في غيابه، الكثير وربما المخيف أيضًا.

**********

 

"رواء، ابنتي .. استيقظي يا رواء"

تردد الصوت مخترقًا الغمام المحيط بها وتزايدت حدته فانتزعها من نومها فجأة، رفعت رأسها تنظر لوالدها  

"ما الأمر يا حبيبي؟ أنت بخير؟ هل أنادي الطبيب؟"

رد مبتسمًا بحنان وهو يمد يده يمسح شيئًا عن خدها  

"كنتِ تحلمين؟"

رفعت يدها بجزع لتلامس خدها، هل كانت تبكي وهي نائمة؟ لا تذكر أنّها كانت تحلم.

تذكر أنّها كانت جالسة جوار والدها تنتظر استيقاظه حين شردت رغمًا عنها مع ذكرياتها القديمة.

ابتسمت مخفية مشاعرها

"لا تهتم يا حبيبي...أخبرني، هل تشعر بأي ألم؟"

تأملها بحنان وتفهم، وحارت في فهم نظراته، شيء من الجزع انتابها أن تكون همست بشيء في نومها

احتضن خدها بكفه 

"هل تشعرين أنتِ؟"

خانتها رعدة  بشفتيها قبل أن تبتسم بمرح مفتعل وهي تدلك رقبتها

"نعم .. للأسف نمت بطريقة سيئة وتشنجت عضلات رقبتي"

هز رأسه ضاحكًا قبل أن يسألها

"كيف حال سمراء؟ أصبحت بخير؟"

"سمراء؟ ولماذا لن تكون بخير؟"

قاطع مراوغتها بابتسامة حزينة لائمة وحذرتها عيناه أن تواصل الكذب 

"هل لأنني مرضت قليلًا تظنين أنني لم أعد قادرًا على معرفة ما يدور حولي؟"

أسرعت ترفع كفه وتقبلها

"ما عاش ولا كان من يظن بك هذا يا بدر العزايزي... ستظل مهما حدث الرجل الأقوى والأفضل الذي عرفته في حياتي"

داعب رأسها ضاحكًا

"تعرفين كيف تأكلين بعقلي حلاوة مثل أمكِ  يا بنت جميلة"

ابتسمت وهي تمسح دمعة خائنة

"الآن أصبحت بنت جميلة؟"

"يا بنت .. أنا أمدحكِ عندما أقول بنت جميلة"

ابتسمت بحنان بينما ترى لمعة عينيه لمجرد ذكر أمها. 

"لم تخبريني... كيف حال سمراء؟"

ربتت على كفه مجيبة

"إنّها بخير، لا تقلق. هل كنت سأجلس هادئة هكذا لو لم تكن بخير؟"

أومأ متنهدًا وران الصمت بينهما لثوان حتى نادته بقلق

"أبي، ما الأمر؟ فيما شردت؟"

استعاد ابتسامته لكنها لم تطمئن لنظراته

"هل يمكن أن تتصلي بشهاب وتخبريه أنني أريد رؤيته؟"

"أتصل بمن؟ ماذا تقول يا أبي؟ ألم يكف ما"

لم يمنحها الفرصة لتواصل اعتراضها

"ﻻ تجادليني يا بنت بدر، اتصلي بابن عمكِ وأبلغيه رسالتي"

توسلته بنظراتها لكنّه ربت على رأسها برفق

"لا تقلقي وثقي بأبيك. لن أفعل أبدًا ما يؤذيكن"

أومأت تدرك جيدًا أنّه يقول ما يعنيه لكنّها رغم كل شيء تخشى، تخاف أن يدير رأسه بكلامه عن العائلة والدم وصلة الرحم.

ألم يكونوا هم أول من قطعوا تلك الصلة؟ هل يتحدثون عنها الآن؟

انتبهت على صوته الحان يسألها 

"ألا تثقين بأبيكِ يا رواء؟"

مالت تقبل كفه بحرارة تجيبه بيقين

"أثق بك أكثر من نفسي"

واستسلمت مقاومة مشاعرها النافرة من ذكر شهاب 

"حسنًا، سأتصل به وأخبره... أنا واثقة أنّني سأجده قافزًا عندك ما أن أنهي المكالمة"

ابتسم قلبها بسعادة مع ضحكته التي ترددت واستبشر خيرًا في أن تأتي الأيام القادمة بما يهدم مخاوفها.

***********

 

لا يصدق ما قالته أمه، لا يصدق. كيف يحدث كل هذا؟ وهو... الغبي الأناني، تخلى عنها وعنهم جميعًا وهرب. الآن صار متأكدًا أنّ ما يحدث له عقاب على جرائمه في حق الجميع.

توقف عند بابها بقلب ينزف وغصة مؤلمة. حسم تردده وخوفه ليطرق الباب مرتين فلم يأته رد، أدار المقبض ووقف ساكنًا بألم.

الباب مفتوح.

ولا فائدة لباب مفتوح إن كان سجن الإنسان داخله، وفلك مسجونة داخلها ولا تقاوم.

دارت عيناه في الغرفة، متأملا في رحلتهما، محتوياتها بأسى قبل أن تتوقف عيناه على فلك، تجلس ناظرة خارج نافذة ذات قضبان.

توقف مصعوقًا مع رؤية شعرها الأسود، قصة صبيانية أعادت لذهنه شعر رواء المقصوص.

كانت هي غائبة عن كل شيء، لم يبد أنّها شعرت بدخوله من الأساس. همس اسمها وهو يقترب ليجلس أمامها على ركبتيه، آلمه صدره وهو ينظر لوجهها، وعيناها تنظران للخارج بصمت قتله.

اقترب أكثر ومد كفه يلامس خدها 

"لوكا، هذا أنا. لقد عدت"

لم تلتفت نحوه فواصل برجاء

"حبيبتي، أنا سالم"

لامست كفه خدها الآخر فأدارها لتصعقه الندبة التي شوهت جمالها.

"فلك، هذا أنا يا وجه القمر"

تحركت عيناها بعد لحظات لتتوقفا على وجهه لبرهة طويلة  

"سامحيني. أنا آسف، سامحيني"

لم يعرف إن كانت دموع لمعت في عينيها أم أنّ دموعه هي ما شوشت رؤيته. انتفضت فجأة مبتعدة عنه 

"اهدأي يا لوكا. هذا أنا سالم، ألا تتذكرينني؟"

تراجعت مخفية وجهها بذراعها تحتمي من ضربة ظنت أنّها ستتلقاها. لم يحتمل كل هذا، مد ذراعيه يضم جسدها رغم مقاومتها التي ازدادت شراسة 

"انظري ليّ يا لوكا. انظري لي. هذا أنا، لقد عدت ولن أترككِ مرة أخرى. لن أفعل"

ضربته بكفيها مقاومة فشدد ضمها

"أقسم لكِ لن أغفر ما حدث، سأعيد لكِ حقكِ"

استكانت فجأة ورفعت عينيها الضائعتين له أخيرًا، ولوهلة خُيل إليه أنّه يرى فلك القديمة قبل أن تعاود ضربه بقبضتيها الضعيفتين، عاود شدها إليه فترددت صرخاتها مبتورة، بلا كلمات، فقط أصوات مختنقة بدت كعواء حيوان جريح.

صوتها الضائع المبحوح وصرخاتها وضرباتها، استسلم لها كلها يقتص لها من أنانيته وجبنه، مدركًا بعذاب أنّه كان محقًا عندما أدرك أنّه لا يستحق فرصة أخرى. 

هو الآن في مرحلة الحساب، هو الآن يتلقى عقابه وسيفعل بكل رضا ودون أي اعتراض.

************ 

 

تململ يوسف متوترًا في جلسته أمام جده بعد أن فشل في التنصل بأي حجة من مواجهته.

"خيرًا يا جدي؟ قلت أنك تريدني"

تأمله للحظات وترته أكثر، أسلوبه هذا وحده كفيلٌ بجعله يقر بأشياء لم يرتكبها من الأساس.

نطق جده أخيرًا بعد لحظات قاتلة

"ماذا يحدث معك هذه الفترة؟"

"ماذا يحدث؟ أنا بخير و.."

قاطعه بصرامة

"تعرف أنني لا أحتاج لسؤالك يا يوسف. يمكنني معرفة كل شيء دون أن تخبرني. أنا أسألك لأنني أحب أن أعرف منك شخصيًا"

أومأ وقبضة تمسك بقلبه

"تعرف ما يحدث عندما يصلني شيءٌ لا يعجبني ولا أحب حقًا أن يصلني بخصوصك ما لا يرضيني قبل أن تخبرني به من نفسك"

"بالطبع يا جدي أعرف"

هتف بسرعة 

"لكن لا شيء مقلق، صدقني لم يحدث ما يـ"

قاطعه انفتاح الباب واندفاع سالم بانفعال وغضب

"يوسف، غادر واتركنا وحدنا لو سمحت"

نهض مصدومًا بينما يهتف جدهما بصرامة

"ما هذه الوقاحة يا سالم؟ كيف تقتحم مكتبي هكذا؟"

تجاهل الرد والتفت نحوه آمرًا 

"ألم تسمع ما قلت؟ غادر هيا"

أومأ بتوتر وأسرع يغادر دون انتظار سماح جده، أغلق الباب وصوت جده يهتف من جديد.

"هل جننت؟"

لمح أمه واقفة تفرك كفيها بتوتر فأسرع إليها، قاطعت سؤاله الوشيك وهي تتمسك به بعينين دامعتين

"يوسف، شقيقك... جدك سيغضب جدًا، وسالم قد..."

أحاط كتفيها برفق

"اهدأي يا حبيبتي، وأخبريني ماذا حدث"

نظرت إلى المكتب بقلق فطمأنها 

"سالم سيكون بخير، لا تخافي"

كفكفت دموعها بصعوبة فصمها مترفقًا وتحرك بها ليجلسها على الأريكة قائلًا بهدوء

"أخبريني الآن، ماذا حدث لكل هذا؟"

"سالم عرف ما حدث لفلك وجن جنونه"

"عرف؟"

أومأت ودموعها تهزمها مجددًا

"أخرجها من محبسها وأصر على عودتها لغرفتها القديمة"

"لم تخبريه بأوامر جدي؟"

ردت بحرقة

"أخبرته، لكنه لم يهتم. حملها إلى غرفته وأمر بفتح غرفتها"

"وهي خرجت معه دون مشاكل؟"

أجابته والألم في صوتها ووجهها

"كانت مستسلمة للغاية، حبيبتي كانت تتشبث به كالطفلة"

فلك؟!

فلم التي كانت تصرخ بجنون كلما اقتربوا منها وحاولوا إخراجها من عزلتها؟

"هل هي هناك الآن؟"

أومأت قبل أن تهمس بصوت مرتجف

"أخشى أن ينفذ قسمه إن علم بخروجها"

أخفق في الرد لبرهة والعجز من الوضع بأكمله يخنقه أكثر وأكثر. 

ردد أخيرًا وهو يضرب على قلبه

"كم أكره هذا. أنا أختنق ولا أطيق نفسي. حتى متى سيقيدنا هكذا؟"

رمقته بألم قبل أن تخونها آهة حارة، فتهدل كتفاه واقترب بأسى ليضمها لصدره.

هي أكثر من عانت وتحملت بعد جدته. تحملت كل المصائب التي توالت على هذا البيت لسنين، وما زالت تتحمل كجبل صامد.

ليست عاجزة ولا ضعيفة، هي مقيدة بهم جميعًا. يعرف أن جده قيدها بهم وبخوفها عليهم، هذا سلاحه الذي يحكمهم به، خوفهم على من يحبون.

ارتجف قلبه بينما يشرد تفكيره إلى جايدا، ربما عرف جده بأمرها بالفعل وتجاهلها ظناً منه أنها نزوة وربما سيعرف خلال وقت قصير، لكن ما هو متأكد منه أنها ستصبح نقطة ضعفه القاتلة حين يعرف جده.

هز رأسه يطرد مخاوفه ضامًا إياها برفق

"كل شيء سيكون بخير، لا تقلقي"

همس يخبرها بكلمات هو نفسه لا يؤمن بصدقها.

*************

 

لم يعرف سالم كيف يستوعب النار المشتعلة بقلبه منذ أخبرته أمه ما حدث لفلك قبل خمس سنوات. كان يعرف أن جده قادر على فعل الأسوأ، سبق ورأى إلى أي مدى قد يصل جبروته لكن أن يصل هذا الجبروت إلى فلك بالذات؟!

فلك الرقيقة بريئة القلب، النقية كطفلة لم تلوثها الحياة، صغيرته التي خانها بهروبه ليصيبها كل هذا.

لو كان هنا... لو كان معها.

 

"كيف تفعل هذا بها؟ كيف هانت عليك؟"

رمقه بنظرات ضيقة ورد بصوت ثلجي محذر

"اخفض صوتك وإياك أن تنسى نفسك وأنت تتحدث معي"

اندفع يضرب سطح المكتب بكفيه

"سأتحدث كما أريد"

لم يأبه لضربة العصا بإنذار ألا يتمادى ومال نحوه مسندًا كفيه للمكتب

"كيف طاوعك قلبك؟ فلك؟  فلك من بين الجميع تفعل بها هذا؟ كيف؟"

"من الأفضل لك أن تهتم بشؤونك"

تراجع محدقاً فيه كمن ينظر لمجنون قبل أن يغرس أصابعه في شعره 

"اهتم بشؤوني؟ يقول لي اهتم بشؤونك"

وعاد يميل نحوه متابعًا

"لماذا ما زلت أندهش بعد كل ما رأيته منك؟ لماذا يصدمني ما فعلته؟ إن كنت فكرت سابقًا أنك لا تملك قلبًا فاليوم صرت متأكدًا مليون مرة أن ما يقبع في صدرك مجرد حجر صوان. كيف ألومك على ما تفعله بنا؟"

واختنق صوته وهو يتذكر حالتها 

"لكن هي على الأقل... تصورتك سترحمها قليلا... فلك؟ فلك يا جدي؟"

وعاد صوته يحتد صارخًا

"ما الجريمة التي ارتكبتها لتحطمها هكذا؟"

"اخفض صوتك يا ولد"

رمقه سالم بقهر شديد

"أنت لن تعلمني كيف أؤدب ابنتي"

اهتزت شفتاه وعشرات الكلمات والصرخات تحتشد بعجز في حلقه

"فلك أخطأت وكان يجب أن تعاقب"

"ليس بهذه القسوة، لقد حطمتها. هل يعجبك حالها؟"

لم تختلج عضلة واحدة في وجه جده فتراجع بمرارة

"وماذا يهمك؟ بالطبع لا يفرق معك"

وانفعل ملوحًا بكفه

"ألم تكتف؟ سبق وقتلت ثلاثا من أبنائك. هل تنوي الآن قتل الوحيدة التي بقيت منهم؟"

"سالم... ﻻ تتعد حدودك"

صرخ مقابله 

"سأتعداها كما أريد، سبق وتجاوزت عن كل ما تفعل لكن... إلا فلك ياجدي"

رمقه رافعًا أحد حاجبيه ثم قال بجمود

"إن كان يهمك أمرها لهذا الحد فالحل في يدك"

تراجع متوجسًا وجده يتابع وعيناه تلمعان بذلك المكر الذي يكرهه بشدة

"نفذ اتفاقنا وعندها تستطيع أن تفعل ما تريد بشأنهم جميعًا"

انقبض قلبه بشدة وجده يردف

"أخبرتك... سأتنازل لك عن كل شيء، بالمقابل ستنفذ رغبتي وتتزوج الفتاة التي سأختارها لك"

كان هذا اتفاقهما، العرض الذي لم يستطع مقاومته، لهذا عاد وقبِل خطبة وتين ولحسن حظه كانت مثله ووافقت على شروطه ورغبته في زواج صوري.

كانت خطته حتى يجد مخرجًا،حتى يسيطر على كل شيء ثم يتخلص من آخر قيود جده.

هل كان غبياً وسلّمه قياده دون أن يشعر؟ هل وثق في نفسه حتى دلّاه بغرور ليسقط في فخه؟

سمع جده يواصل بمكر

"لو كنت أتممت زواجك من حفيدة هاشمي لكان كل شيء أصبح طوع بنانك الآن لكن .."

مط شفتيه بأسف مفتعل بينما ينهض من كرسيه. قاوم سالم رغبته في الصراخ قهرًا وجده يقترب منه بنظراته المتحدية ليربت على كتفه 

"ما زالت الكرة في ملعبك... ابنة الوزير التي أخبرتك عنها عادت من سفرها، وأنا في انتظار تحديد الموعد لنذهب لخطبتها... أرجو ألا يكون قد حدث ما يجعلك تتراجع عن وعدك"

التفت له بقلب مقبوض، لا بد أنّه عرف بشأن رواء، ألهذا يتحداه أن يختار مجددًا بينها وبين عائلته؟

اتسعت ابتسامة جده كأنّما قرأ ما يدور داخله، ربت على كتفه مرة أخرى 

"فكر جيدًا قبل أن تقرر. في النهاية مصير عائلتك يتوقف على اختيارك ومن الواضح رغم كل السنين التي انقطعت فيها عنهم، ما زلت تهتم لهم"

قالها وغادر بهدوء تاركًا سالم متجمدًا لثوان طويلة... لقد سقط في فخه بالفعل دون أن يدرك.

قبل أيام فقط كان يمكنه الاختيار دون لحظة تردد، أما الآن... 

بعد أن عادت لحياته واكتشف أن عشقها لم يفارقه يومًا.

 كيف له أن يختار بين خيارين أحلاهما مر كالعلقم؟ كيف له أن يتركها تضيع منه مجددًا بينما في الكفة المقابلة مصير عائلته وأولهم فلك ؟

 

دارت عيناه حوله بألم، واستعاد عقله ذكريات آخر مواجهة بينهما في هذا المكتب حين انفجرت ثورته وغادر متمردًا على كل شيء.

لم يتغير شيء.

ما زال كما هو بعد أن ظنّ نفسه تحرر كل هذه السنين، يكتشف الآن أنّه كان مقيدًا بخيط رفيع سحبه جده ببراعة ليعيده إلى سجنه من جديد.

والآن... لم يعد خيطًا، تحول الخيط إلى حبل سميك يشعر به حوله عنقه يشتد في كل لحظة منذ عاد إلى هنا.

******************

وقفت تارا جامدة أمام المرآة ، تنظر لانعكاسها بنظرات باهتة مثله تمر عيناها على قميصها الحريري، رفعت أصابع مرتجفة تلامس خصلاتها تعيدها للخلف كاشفة عن جيدها. تضاعف شعورها بالاختناق وشعرت بترنح ساقيها فمالت تسند مرفقيها لطاولة المرآة.

حتى متى يستمر هذا العقاب؟

لقد تعبت... تعبت ولا تعرف إلى كم من الوقت ستصمد.

هل تجرؤ أصلًا على اتخاذ القرار الذي رمته في وجه أمها بتحد لتغضبها؟

كيف تفعل وما زال النصل مسلط على عنقها؟

 

"إن أردتِ الطلاق ستنسين ابنتكِ للأبد"

 

نصل تمثل في فرمانه المستبد الذي رماه بها حين طفح بها الكيل وواجهته لتطالب بحريتها، أوقف قلبها مهددًا إياها بخسارة ابنتها التي تخطت العامين بالكاد، صغيرتها التي كانت عوض الله عن خسارتها في هذه الزيجة.

**

انقطعت أفكارها فجأة مع انفتاح الباب واندفعت بوجل لتلتقط روبها من فوق الفراش لكنها تجمدت مع دخول أسامة.

اهتزت أعماقها بتوتر حين التقت أعينهما وجاهدت لتحافظ على جمود ملامحها بينما كل خلية منها ترتجف وهي تتذكر كلمات أمها، لكنّ نظرات أسامة الباهتة أوقفت ارتجاف قلبها، ودفعت الثلوج لتهبط فوقه فتزيد الجليد المحيط به طبقة أكثر سُمكًا.

نظراته عبرتها كأنّها هواء، لا شيء. وهي تعرف هذا، تعرف منذ سنوات أنّها لا شيء وأنّه لا يراها.

جمدت مكانها بينما تحرك هو يجر خطواته جرًا، ملقيًا تحية خافتة فهمست ردًا عليه

"حمداً لله على سلامتك"

أومأ بابتسامة بالكاد مست شفتيه قبل أن يختفي في الغرفة الأخرى لتتحرك بعدها بخطى ميتة تتناول روبها وترتديه، رقدت في فراشها وشدت الغطاء الرقيق عليها.

لم يكن الجو باردًا لكن البرد كان يتسلل من قلبها إلى كل خلية منها. أغلقت المصباح الجانبي لتغرق الغرفة في ظلام لم تفارقه عيناها لوقت لم تحسبه حتى سمعت أنينًا من غرفته.

قاومت حتى لا تنهض. لقد اعتادت هذيانه وكوابيسه، واعتادت تجاهلها. 

هذه المرة لم تستطع ادعاء أنّها لم تسمع. 

شعرت أنّ هذه المرة مختلفة، ربما تذكرها حالته حين دخل، لم يكن تعب السفر ما رأته على وجهه.

نهضت عندما زاد أنينه وأسرعت إليه، فتحت الباب ونادته بتردد قبل أن تتشجع وتخطو إلى الداخل في إحدى المرات النادرة.

فتحت النور ووقعت عيناها عليه يرتجف في نومه على الأريكة، أسرعت إليه وركعت هامسة بقلق

"أسامة، أنت بخير؟ أسامة"

لامست جبينه بتردد، لم يكن محمومًا لكنّه كان يرتجف ويهذي كواحد.

"أسامة، استيقظ يا أسامة... أنت تحلم"

هزته برفق حتى فتح عينيه، وتوقف قلبها مع نظرته، لم تكن نظراته الخاوية التي تعبرها كأنّها هواء، تلك النظرة لم ترها من قبل... لا، سبق ورأتها ولا تحب تذكر متى فعلت.

أسرعت تطرد الذكرى وتسأله

"أنت بخير؟ ماذا حدث؟"

استمر في نظراته التي زادتها اختناقًا وقد أدركت يقينًا أنّه لا ينظر لها. تحركت لتنهض لكنّه أمسك كفها هامسًا باختناق

"ﻻ تذهبي... أنا آسف"

ارتجفت شفتاها بينما عاد يغمض عينيه مكررًا همسته، لم تعد تعرف إن كان يقصدها أم يتحدث إلى خيالاته.

هبت واقفة حين لم تحتمل، تعلقت عيناها به للحظات طويلة ثم تحركت عائدة إلى غرفتها. ظلت تتقلب في فراشها كأنّها على جمر لتنتفض أخيرًا فتزيح عنها الغطاء بعنف. التقطت من دولابها معطفًا خفيفًا ارتدته وغادرت الجناح.

كانت في حاجة لهواء نقي قبل أن تختنق، في حاجة لتكون بعيدة عنه وعن خيالاته التي تقيده وتقيدها معه.

دارت عيناها على جدران السراي بمرارة، لا فائدة من ذهابها لأي مكان، هذه الجدران تضيق من حولها وتخنقها، تقربها يومًا بعد يوم من الموت... ربما هذا هو الحل الوحيد، أن تموت كالبقية، لكنّها لا تستطيع، ابنتها تحتاجها وهي صامدة لأجلها وحدها.

*************

 

شهقات متلاحقة تتردد في صدره، صوت الصراخ والرصاص المتلاحق يصم أذنيه، الألم في صدره والسائل المتدفق عليه دفعه ليخفض رأسه ينظر فزعًا للثقوب التي سال منها دمه غزيرًا.

عاد يرفع عينيه إلى العينين الباكيتين أمامه قبل أن يسقط مادًا يديه نحوه بتوسل مختنق.

رصاصة أخيرة ترددت وابتلعه الظلام وانتهى كل شيء.

شهق إيهاب منتفضًا من نومه ويده تتحسس صدره بفزع، لا شيء، لا دم ولا رصاصات.

أطرق دافنًا رأسه بين كفيه بأنفاس سريعة 

"توقف... ارحلوا عني .. توقفوا"

تحركت يده المرتجفة تلامس جرحًا قديمًا في صدره بينما عيناه غرقتا في ظلام بعيد، ماض ما زال يطارده. 

كيف ينسى وهذه الندبات باقية معه تذكره؟

ليته مات ليلتها، ألم يكن أرحم من الجحيم الذي يعيشه منذ سنوات؟

أغمض عينيه متنفسًا بصعوبة للحظات قبل أن يفتحهما هامسًا 

"أنت تستحق كل هذا، ﻻ تظن أنّك دفعت شيئًا بعد... ما زال أمامك الكثير"

عاد عقله يغرق في ذكرياته السوداء وكفه ما زالت بلا وعي تلامس ندوبه، ما زال ألمها حيًا كيوم أصابته، لم يقل يومًا.

"ولن يقل"

همس بصوت ميت

"لن يقل مهما فعلت... لن يقل"

صوت موسيقى تسلل من مكان قريب فابتسم بشحوب، في هذه الساعة المتأخرة من الليل؟

لا بد أنّها غاضبة وبشدة. لم تتغير ولن تتغير، ككل شيء في هذا السجن.

زفر وهو ينهض متجهًا إلى الحمام ليغسل وجهه طاردًا ما تبقى من آثار نوم يعرف أنّه لن يزوره مجددًا هذه الليلة.

لماذا لا يذهب إلى شقته أفضل؟ 

لا، لقد وعد لي لي أنّه لن يغادر الليلة وستجده عند استيقاظها.

تنهد وهو يتحرك مغادرًا غرفته ويتجه إلى أسفل،. تجمد في منتصف السلالم حين لمحها شبح تارا يعبر الردهة.

رغم النور الخافت عرفها، قلبه الذي انتفض كمجنون عرفها، ضرب فوق قلبه يتوسله التوقف بينما عيناه تابعتها بألم.

أدرك أنّها تتجه إلى الحديقة الخلفية، وما دامت تركت غرفتها في هذه الساعة فلا بد أنّها مهمومة مثله.

تراجعت خطواته بتردد ناويًا تركها وحدها لكنّه لم يكمل سوى خطوات ولم يستطع مقاومة قلبه الذي يكاد يموت قلقًا عليها، نظرة واحدة فقط... فقط ليطمئن.

***************

 

ضبطت نيروز كاميرا هاتفها وضغطت زر التسجيل ثم اتجهت إلى حاسوبها لتشغل قائمة الموسيقى التي اختارتها آنفًا. عدلت ملابسها قبل أن تحرك جسدها بحركات إحماء بسيط ثم أغمضت عينيها وبدأت الرقص.

ركزت مع النغمات وتحركت على أطراف أصابعها في حركات أقرب للباليه قبل أن تتسارع الموسيقى فتبدأ رقصتها الحقيقية.

استسلمت لأفكارها تمامًا فاندفعت تحرق نفسها أكثر في رقص محموم، مع كل حركة كانت صورة ترتسم، صورة فلك وهي مستكينة فوق صدر سالم، أمها تهرع خلفه ترجوه أن يعيدها قبل أن يغضب الجد.

تلاحقت خطواتها الراقصة، أطرافها تصارع الهواء والموسيقى تتسارع كأنّما تشعر بصراع أفكارها، تضرب الأرض بحركات سريعة، إحدى قبضتيها خلف ظهرها والأخرى تضرب بها على قلبها.

تدور حول نفسها، دوران ثم قفزة قصيرة ثم دوران فقفزة، أصوات أمها وسالم تتداخل مع صورة فلك، ظنتها ستنفر من سالم، ستفعل مثلها وتحمله ذنب ما أصابها لكن منذ متى تتصرف فلك كالبقية؟

الغضب تسارع في عروقها بينما تحرق آخر ما فيها في رقصها المجنون، خصلاتها المجعدة انحلت تشاركها جنونها. 

لن تسامحه، لن تغفر له، يأتي بعد كل هذه السنين متوقعًا أن يفتحوا قلوبهم له كأنّه لم يخطئ، كأنّه لم يهرب بجبن متخليًا عنهم.

عشر سنوات، عاد يمحو عشر سنوات كأنّها ما كانت!

"محال"

هتفت داخلها وهي تدور حول نفسها ثم تسقط على ركبتيها فاردة ذراعيها مع توقف الموسيقى، تتنفس بسرعة بينما تعود للواقع ببطء، بروية.

نهضت وكل عضلة منها تلهث واتجهت إلى هاتفها توقف التسجيل، خلعت بلوزتها من على وسطها ولملمت خصلاتها المجعد، قابلها انعكاسها في المرآة فتنهدت بحرارة، تحركت نحوها لتخرج من درجها سيجارة أشعلتها وهي تتجه إلى الشرفة لتقف فيها.

لامس الهواء البارد بشرتها لكنّه لم يخفف شيئًا من الحريق داخلها، تلك الثورة المكبوتة بصدرها تكاد تفلت... إلى متى تصمد؟

تعلقت عيناها بالأسوار المحيطة بالبيت، لا يمكنها أن تطلق عليه بيتًا.... أو حتى سراي كما هو مكتوب على بوابته الأمامية... سراي المنصوري.

أسوار عالية وحراس، ليس بيتًا، هذا سجن. سجن حكم عليهم أن يقضوا عمرهم فيه محكومين بالحديد والنار... وتلك الحراسات، ليست لحمايتهم. هذه من أجل سالم الكبير، يعزز بها قبضته عليهم وتحكمه بهم.

أغمضت نافثة الدخان بحرقة... تريد الموت، يومًا ما ستفعلها، ستفرد جناحيها وتغادر هذا السجن وتعلم أنّها عندها ستموت. 

لم يجرؤ أحد على الهرب إلا وكان الموت مصيره وهي لا تريد هذا الموت، لا تريد موتًا كموت أبيها والبقية ولا موتًا كموت فلك وجدتها.

فتحت عينيها وفردت ذراعيها عن آخرهما ومالت بجسدها للأمام 

"يوماً ما ستتحررين يا نيروز. هل تريدين حريتكِ اليوم؟"

همست وهي تميل أكثر للأمام قبل أن تتجمد لثوان، تراجعت معتدلة وعيناها لا تفارقان المشهد بالأسفل، في الحديقة التي تطل عليها شرفتها وعلى إحدى الآرائك بين الأشجار رأتهما.

عضت شفتها بكراهية وهي تركز نظراتها عليه

"وغد .. لن يتغير أبدًا"

رمته بنظرة حاقدة وتراجعت إلى غرفتها مغلقة باب شرفتها بعنف، والنار التي جاهدت لتطفئها عادت لتستعر بكل قوتها.

***********

آخر ما توقع رؤيته أنّه سيجدها تبكي،

متى آخر مرة رآها تبكي؟ بعد كل هذه السنين التي تبدلت فيها وبدا أنّها أخرى غير التي عرفها في الماضي، أخرى ذات قناع بارد لا يفارقها، لم يعد يذكر أنّه رآها تبكي في السابق.

كانت تجلس على أريكة منزوية في الحديقة، على النور الخافت رأى خيطان لامعان من الدموع على خديها بينما عيناها شاردتان إلى بعيد،

لا يعرف أي أفكار تؤرقها وليته يستطيع إبعاد الألم الذي يأكلها لهذه الدرجة، كيف وهو يدرك أنّه ليس من حقه؟

حتى وجوده معها في هذه الساعة المتأخرة من الليل ليس من حقه.

طرد إحساسه بالذنب بينما يقترب منها، داس على غصن جاف فتكسر وانتبهت هي بوجل، مسحت دموعها خُفية وتحركت لتنهض، رأى كيف أعادت قناعها البارد فور شعورها باقترابه لكنها سرعان ما فقدته وهي ترمقه بدهشة 

"إيهاب!"

سألها بمرح مفتعل

"ما الأمر؟ أنت أيضًا تشعرين بالأرق؟"

تحشرج صوتها بحثاً عن إجابة لم ينتظرها بينما يمد يده لها بكوب خزفي يتصاعد منه البخار 

"ربما يساعدكِ هذا"

نظرت للكوب مقطبة ثم خانتها شهقة سعيدة

"هوت شوكليت"

هتفت وعيناها تلمعان بسعادة، وابتسامتها التي ماتت منذ سنين أشرقت مصيبة قلبه بركلة سحبت أنفاسه من صدره. 

اهتزت يده بالكوب لكنّها لم تنتبه بينما تلتقطه بسرعة، لتتوقف فجأة بارتباك 

"آه آسفة... أخذته دون"

قاطعها بابتسامة شاحبة

"ﻻ بأس، صنعته لكِ"

"لي؟"

أومأ وهو يتحاشى النظر لوجهها

"رأيتكِ تتجهين إلى هنا وفكرت أنّكِ  ربما تشعرين بالضيق والأرق وتحتاجينه"

صمتت وغامت عيناها بتأثر، همست أخيرًا وهي ترتشف من مشروبها المفضل

"شكرًا لك، كنت أحتاجه حقًا"

خانته ابتسامته وذكرياته فقال

"أعرف، هذا مشروب السعادة الخاص بك"

التفتت له متمتمة بدهشة 

"ما زلت تذكر هذا؟"

كاد قلبه يخونه ويندفع ليخبرها أنّه لم ينس شيئًا يخصها، أنّه يتذكر كل شيء وكل لحظة مضت منذ أول يومٍ التقاها فيه.

 تنحنح وهو يمرر أصابعه في شعره

"هل عاد أسامة؟"

شتم نفسه عندما انطفأت عيناها مرة أخرى، صمتت هي قليلًا ثم أومأت

"نعم، كان متعبًا للغاية ونام قبل قليل"

ابتلع غصته بصعوبة

"آسف بشأن ما فعله جدي اليوم"

"ﻻ عليك، لقد اعتدت"

ردت بآلية فقال بمرح يواري خلفه آلام قلبه

"لكن أعجبني رد فعلك"

ابتسمت بشحوب وعادت ترتشف المشروب في صمت ران عليهما لبرهة قبل أن تسأله

"كيف حال العمل؟"

أطرق مقطبًا بضيق 

"يبدو أنّ عودة سالم أثرت عليكما أنت وأسامة، أشعر أنّه لم يعد يستسيغ العمل هناك"

ردد بعد لحظات 

"العمل بخير وحقيقةً عودة سالم فرقت كثيرًا"

نظر للبعيد وشرد في أفكاره برهة 

"ربما لهذا تنازل جدي وأعاده للعائلة... في النهاية، ما يهمه هو مصلحة العمل وثروته التي ربما لم يثق سوى بسالم لحمايتها من فشلنا المحتمل"

ردد آخر جملته ساخرًا

"أنت أيضاً تكره عودته؟"

التفت لها بدهشة فهزت كتفيها وقالت بأسف

"ﻻ يبدو سيئاً للدرجة، ولا أعرف ماذا تحملون عليه جميعكم لكن... حسنًا، لا أريد التدخل في أموركم الشخصية، أنتم أعلم بما يدور بينكم"

أطرق صامتًا دون رد قبل أن يلتفت لها وخانته عيناه فتأملتاها لثوان ملتقطًا الحزن الشفاف الذي تحاول حبسه 

"أخبرتني لي لي أنّكما عدتما اليوم من زيارة والديك، كيف حالهما؟"

"كما هما"

ردت بمرارة بينما ترفع عينيها للقمر، فهمس مشفقًا

"هل حدث هناك ما ضايقك أم"

أكمل باختناق ومقاومته تخونه

"أم أن أسامة من..."

"لا، ليست المشكلة مع أسامة... نحن بخير"

شعور الذنب والخيانة ذبحاه بينما واصلت بهمس مختنق 

"نحن بخير. لم يحدث شيء... إنها أمي، تشاجرنا قليلًا  وأبي... أبي أيضاً لم .. أنا"

اهتز صوتها بدموع فالتفت نحوها بجزع، تركت الكوب من يدها وحاولت مسح دموعها مرددة بضحكة مرتجفة

"آه... آسفة يبدو أن بعض التراب دخل عيني. أنا بخير و..."

لم تستطع الصمود فبكت بحرارة

"أنا بخير... لست"

تقطعت كلماتها بشهقات بكائها التي اهتز لها جسدها فأشاح وجهه، قلبه يبكي معها، يكاد يدفعه ليشدها إليه ويدفن دموعها في صدره، وعقله يحذره بعنف ويوصمه بالخيانة.

أطرق وكفاه بجانبه منقبضتان على خشب الأريكة أسفله، يمنع نفسه من الالتفات نحوها وإلا سيرتكب فضيحة... يجب أن يذهب في الحال.

لكن كيف يتركها وهي في هذه الحالة؟

"خائن .. أنت خائن"

عقله يهتف فيه بغضب ورغبته المعذبة رافقتها رغبة أخرى في أن يذهب ليقتل أسامة وجده ثم يقتل نفسه جزاء ما ارتكبوه في حقها.

"إيهاب!"

أجفل مع صوتها ولم ينتبه لتوقفها عن البكاء، نظرة واحدة لوجهها الباكي كادت تذهب بعزيمته، نظر لها بتشتت.

"أنت ترتعد، أنت بخير؟"

لمستها العفوية لذراعه كانت القشة التي قصمت ظهره فانتفض واقفًا وقفز مبتعدًا عنها، خفضت يدها بارتباك بينما وجد صوته بصعوبة

"أنا بخير. شعرت بالبرد فجأة"

وتراجع مرددًا بشحوب

"الوقت تأخر، سأذهب لأنام... تصبحين على خير"

وأعطاها ظهره بسرعة لتهتف من خلفه

"إيهاب"

انتفض قلبه مع ندائها وتوقف بعذاب، قاوم ليرسم ابتسامة على شفتيه والتفت لتقابله ابتسامتها بامتنان

"شكرًا لك"

ارتجفت ابتسامته بينما أكملت وهي تشير بالكوب في يدها

"لقد ساعدني بالفعل"

أومأ وهو ينتزع من أعماقه ابتسامة مرحة وارتدى قناعه التمثيلي ببراعة لينحني بانجليزية مسرحية

"على الرحب والسعة يا سيدتي الجميلة"

ضحكتها الرقيقة سببت ركلة مميتة هذه المرة لقلبه فبهتت ابتسامته، أومأ لها مودعًا ودار على عقبيه عائدًا للداخل. 

قفز السلالم بسرعة نحو غرفته وقلبه ينتفض بجنون... سيموت، يشعر أنه سيموت.

تباطأت خطواته حين لمح نيروز تقف بالقرب مستندة للحائط، استعاد قناعه الجامد سريعًا وتحرك ليتجاوزها 

"ستظل قذرًا ولن تتغير أبدًا"

أوقفته كلماتها لكنه لم يلتفت بينما تكمل باحتقار مضاعف

"على الأقل احترم كونك في بيت العائلة وأنّها زوجة ابن عمك"

التفت يرمقها بنظرات مستخفة يعرف كم تستفزها وابتسم مع تغير ملامحها ونظراتها التي ازدادت حقدًا ونارًا. تحرك نحوها فتوترت في وقفتها حتى مال نحوها وقال ساخرًا

"ما الأمر يا نيرو؟ هل تغارين عليّ؟"

هتفت بحقد

"أغار على من؟ على شخص قذر مثلك؟"

ابتلع إهانتها بابتسامة لم تهتز فتضاعف الحقد في همستها

"ﻻ تنس أنني أعرف كل أسرارك القذرة يا إيهاب، لا تجبرني على فضحك"

رد هازئًا وهو يقرص خدها مغيظًا

"ﻻ تنسي أنني أنا أيضًا أعرف كل أسرارك يا نيرو"

ضربت كفه فمال نحوها وأكمل مربتًا على خدها باستخفاف

"بالمناسبة، لا تنسي استخدام معطر الفم… رائحة سجائركِ تفضحكِ"

رمقته بقهر بينما ضحك مردفًا وهو يبتعد

"أحلاماً سعيدة يا نيرو"

تابع طريقه وشتائمها تلاحقه حتى دخل غرفته صافعًا بابها بقوة واندفع يلتقط وسادته ليلكمها بكل قوته قبل أن يدفن وجهه فيها كاتمًا صرخة مليئة بالقهر والغضب والعجز. 

لم يكن عليه العودة وهو يعرف كم سيتعذب، لكنّه لم يستطع.

يبتعد لأسابيع قبل أن يهزمه شوقه لها فيأتي به متوسلا نظرة واحدة، نظرة يعرف أنّه سيتجرع بعدها ليالٍ طوال من التمزق وعذاب الضمير.

*****************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف قصة أو أشد قسوة
أو أشدُ قسوة

في ذاتِ نكبةٍ انحدروا كالموتِ الأسود على الأرضِ المباركة؛ فعاثوا فيها فسادًا وترويعًا. تناقلت الريحُ أخبارهم وتزلزلت الأرضُ رفضًا وكُرهًا. أنّت أنينًا...

اقرأ المزيد