الفصل الأول
ألقى سالم نظرة ناقدة على شكله بالمرآة ومرر أصابعه في شعره معدلا خصلاته، تحرك بعدها يلتقط هاتفه ومفاتيح سيارته وغادر غرفته... نزل السلالم بقفزات سريعة واتجه إلى غرفة الطعام حيث اجتمعت عائلته للفطور.
"صباح شريف يا عائلة المنصوري... كيف أحوالكم؟"
هتف بمرح وقد أدرك من أصواتهم العالية أن جده لم يحضر بعد.
"صباح شريف"
رد أسامة ساخرًا وضحكت أمهما فيما توقفت نيروز عن مشاكسة جانبية مع فلك تحاول استفزازها من هدوئها بعد فشلها مع يوسف... هبت مندفعة إليه، وارتمت عليه محيطة خصره بذراعيها النحيفتين فداعب خصلاتها المجعدة مدللا كعادته
"نيروزي... كيف تزدادين جمالا كل يوم هكذا يا بنت؟"
"أخي"
رددت بدلال وهي ترفع وجهها الضاحك إليه قبل أن تسمع أسامة
"قل كيف تزداد دلالا وميوعة كل يوم... كله بسببك أنت وإيهاب"
التفتت ترد بنزق
"أنت تغار فقط لأنهما يحباني أكثر منك"
تبادل نظرة ضاحكة مع ابن عمهما الجالس جواره، ليقول إيهاب
"آه... لقد فضحت سرك، لا تنكر أنك تغار بالفعل يا أُس"
رسم تعبيرًا غاضبًا قبل أن يشاركهم الضحك فيما مال سالم مقبلا وجنتها وتحرك معها نحو المائدة... أجلسها مكانها ولم ينس أن يميل ليقبل خد فلك
"لوكا... صباح الخير يا فلقة القمر"
ابتسمت ووجهها الصغير يحمر خجلا، وهزت رأسها متمتمة بهمس رقيق
"صباح الخير"
اقترب يقبل أمه قائلا بحب
"سمية هانم المنصوري... تبدين فاتنة كالعادة"
هزت رأسها ضاحكة
"وأنت تبدو رائق المزاج هذا الصباح... خيرًا؟"
تحرك ليأخذ مقعده قائلا بابتسامة مشرقة
"ﻻ أعرف... استيقظت وأنا متفائل اليوم... ربما راودني حلم جميل لكنني نسيته"
قال أسامة بخبث
"أو ربما أنت في طريقك لموعد غرامي لا تريد إخبارنا عنه"
"آه نعم، موعد غرامي في الشركة... هل أجد وقتًا لأتنفس حتى؟"
انتبه لأمه ترمقه بانتباه وترقب
"أمي، لا تنظري لي هكذا... معقول تصدقين هذا المشاغب"
تدخل أسامة محركًا أحد حاجبيه
"ﻻ تحاول الإنكار"
"سالم"
نادته أمه فرمق أخاه بحنق ليخبرها أسامة
"أنا أمزح يا أمي... ﻻ تقلقي على ابنكِ، هو من الشركة للسراي ومن السراي للشركة... محترم للغاية"
"أحمق"
شتمه بنزق بينما ابتسمت أمهما بعد ثوان وأمرت أسامة
"توقف عن مشاكسة أخيك"
أرسل لها أسامة قبلة في الهواء ثم غمز لسالم فتنهد مبتسمًا لثوان معدودة توتر بعدها الجو مع سماعهم صوت خطوات مميزة. اعتدل الجميع في مقاعدهم بانتباه، وحل الصمت مع دخول جدهم وكبير عائلة المنصوري... سالم الكبير.
***************
"رواء، ألم تنتهي بعد؟ ستتأخرين على كليتكِ؟"
تردد النداء من خارج غرفتها بينما تقف أمام مرآتها، أزالت رابطة شعرها من فمها لتهتف
"انتهيت يا أمي... ثوان"
جمعت شعرها بسرعة وتركته منسدلا في ذيل حصان، ألقت نظرة ناقدة على هيئتها ثم ابتسمت لنفسها
"رائعة كالعادة يا رواء عزايزي"
"من يراك سيظنكِ مغرورة يا رواء عزايزي"
التفتت على الصوت لترى شقيقتها سمراء واقفة عند بابها، شاركتها ضحكتها وقالت وهي تلتقط حقيبتها
"هذه اسمها ثقة بالنفس يا سمارا"
رفعت سمراء يدها تعدل طرف حجابها المحيط بوجهها الأسمر الرقيق
"زادك الله ثقة يا رواء هانم"
اتجهت نحوها غامزة وضربت كتفها بمزاح فهزت سمراء رأسها مبتسمة قبل أن تهتف
"طيف... هيا أنتِ الأخرى، سنتأخر على المدرسة"
"قادمة"
هتفت شقيقتهما الصغرى من غرفتها المشتركة مع سمراء بينما اتجهت رواء إلى أمها الواقفة عند المائدة تعد لكل واحدة شطائرها
"جميلة الجميلات... سأشتاق لك حتى أعود من الكلية"
قالت وهي تميل لتقبل خدها بشقاوة فضحكت أمها بينما تناول سمراء شطائرها هي وطيف، التفتت بعدها تناول رواء طعامها
"أمي... أخبرتكِ، لا داعي لتحضير شطائر لي، لم أعد طفلة... سآكل في الـ..."
قاطعتها بصرامة
"ﻻ أكل من الخارج، الله أعلم مما يُصنع"
تبادلت نظرة ضاحكة مع سمراء وتنهدت
"أمرك يا جميلة هانم... أي أوامر أخرى؟... آه، بالمناسبة، هل ترك بدوري النقود التي طلبتها؟"
ضربت أمها كتفها
"تأدبي يا بنت"
"ماذا؟ ألا يحق لي تدليل أبي؟"
هزت رأسها مقاومة ابتسامتها
"هل أخبرتِه أصلا أنك تريدين نقودًا... لم يخبرني بشيء"
ضربت رواء جبينها بيدها
"يا ربي، لقد نسيت تمامًا... ماذا أفعل؟ اليوم آخر يوم لحجز الكُتب"
"لماذا لا تمرين على أبي في العمل؟"
أخبرتها سمراء وهي تميل لتقبل خد أمها وبعدها طيف قبل أن تتجها إلى باب الشقة
"صحيح... لما لا؟"
هتفت هي بحبور لتقول أمهن معترضة
"رواء، تعرفين أن والدك لا يحبذ ذهابكِ إليه في عمله ووسط زملائه"
"لن تحدث مشكلة من مرة يا أمي... ثم إنه لن يعترض إن أخبرته بضرورة الأمر"
مطت شفتيها باستسلام، فقبلتها رواء مرة أخرى
"دعواتكِ يا جميلتي"
حدجتها بيأس ثم لوحت لهن مبتسمة بحنان، أرسلت لها رواء قبلة في الهواء ثم أغلقت الباب خلفها لتلحق بشقيقتيها ترافقهما حتى ركبتا السيارة إلى مدرستهما وغيرت هي طريقها لتأخذ سيارة أجرة إلى مقر عمل والدها... في شركة المنصوري.
********
أطلق صفيرًا منغومًا وهو يغادر سيارته متجهًا إلى مبنى شركة عائلته، أشار بتحية مرحة لموظفة الاستقبال التي ابتسمت بخجل، ومالت تهمس لرفيقتها بينما تتابعانه وهو في طريقه نحو المصعد.
توقف فجأة حين لمح خيالًا رشيقًا يتجاوزه بسرعة وصاحبته تتجه إلى السلالم... لم يكن جسدها ما لفت نظره ولم يكن ليمانع الاعتراف برشاقتها في ذلك البنطال الجينز الذي توقف قبل كاحلها سامحًا لخلخال فضي أنيق باللمعان على بشرتها.
أسرع يرفع عينيه إلى ما لفت نظره في المقام الأول، شلال من الشعر الأسود مقيد في ذيل فرس طويل... انحبست أنفاسه وهو يتتبع طوله الواصل إلى منتصف ساقيها.
كيف تتركه حرًا هكذا؟ ألا تخشى العيون؟ ألا تملك رأفة بالقلوب حولها؟
لم يشعر بنفسه وهو يسرع ليقفز السلالم لاحقًا بها، يفكر بتسلية... حورية في شركة المنصوري؟ منذ متى؟
توقف فجأة مع توقفها وراقبها تتلفت حولها حائرة بحثًا عن شيء... أو ربما شخص.
قطب للفكرة وأسرع يطردها بعيدًا ويستعيد واجهته العابثة ويتحرك نحوها، عيناه على يدها التي تحركها مشيرة بسبابتها نحو المكاتب كأنما تحسب اتجاهها أو خطواتها، شفتاها تتحركان بهمسات لا تصله.
خفقات قلبه المترقبة تضطرب بطريقة غريبة، ما أن توقف خلفها حتى وجد نفسه يردد بعبث
"مرحبًا، هل تبحثين عن أحد يا..."
انقطع سؤاله مع التفاتتها المتفاجئة، دورانها السريع على كعبيها جعلها تتعثر وبتلقائية كان يندفع ليمنع سقوطها، عندها توقف قلبه وعيناه تلتقيان بعينيها.
عسليتان مكحلتان برقة ورموش طويلة ساحرة، تركهما بصعوبة لينزل إلى أنفها ثم شفتيها تتحركان بكلمات لم يسمعها بينما قبضتاها تضربان صدره.
أخيرًا وصله صوتها ناعمًا
"لو سمحت، دعني... ماذا تفعل؟"
بشرتها البيضاء فضحت احمرار خديها فتعلقت نظراته بهما بافتتان
"يا أستاذ، لو سمحت"
أسرع يفك ذراعيه عن خصرها وابتعد لتقفز هي للخلف هامسة بتمتمات حانقة، وجهها يحتقن أكثر، لم يستطع مقاومة تلك الرغبة في مشاكستها
"هل أنتِ تائهة في شركتنا يا حورية؟"
وهديته لم تتأخر...
نظرة عابسة وحمرة أكثر دُكنة قبل أن تتركه وتبتعد بسرعة وشلالها الأسود يتقافز خلفها.
نظر لكفيه بافتنان يستعيد ملمس خصلاتها الناعمة وهمس
"حورية"
************
توقفت رواء أمام مكتب أبيها لتأخذ نفسًا عميقًا بينما تتحسس نبضاتها المتسارعة... ماذا دهاها؟
اختلست نظرة خلفها تتأكد من أن ذلك الشاب الغريب ليس خلفها... من يكون؟ ليست أول مرة تأتي إلى الشركة لكنها أول مرة تراه.
هزت رأسها طاردة خياله قبل أن تقرر الدخول ومفاجأة أبيها.
وكعادته تخلص من مفاجأته سريعًا واستقبلها بابتسامته الحانية التي لم تتغير بينما يرد على مجاملات زملائه التي تمتدحها.
كانت تعرف أنّه يتضايق وحذرها مرارًا من القدوم ولفت الأنظار، وتعرف أنّه لن يرضى حتى ترتدي الحجاب كما وعدته لكنّها ما زالت تماطل وتعلم أنّ هذا يحزنه لكنّها ممتنة لأنّه لم يجبرها.
ابتسامتها تجمدت حين رأت نفس الشاب يدخل مُلقيًا التحية على والدها وزملائه. غادرتها سريعًا الدهشة التي انتابتها حين رأتهم يردون تحيته باحترام، وسمعت والدها يرحب به
"أهلًا يا سالم بك، أنرت مكتبنا"
زمت شفتيها لا إراديًا... سالم! اسمه سالم؟! أليس قديمًا بعض الشيء؟
احمر وجهها حين انتبهت لنظراته، تململت في وقفتها بينما أشاح هو بوجهه سريعًا محدثًا والدها
"من الآنسة؟ موظفة جديدة معنا؟"
ضحك والدها وهو يشدها جانبه
"ﻻ، إنّها ابنتي"
حرك شفتيه بكلمات لم تلتقطها قبل أن يبتسم
"ابنتك؟ اعتذر إذن عن الخطأ"
ومد يده نحوها مسببًا ارتباكًا أكبر لقلبها وهو يضيف
"الشركة أنارت، تشرفنا يا آنسة..."
اختلست النظر بتردد لوجه والدها المقطب بغير رض لكنها مدت يدها بارتباك
"رواء"
سحبت يدها بسرعة بينما اتسعت ابتسامته
"روا"
طريقة نطقه أرعدت قلبها بنذير خطر، بينما التفت هو إلى أبيها
"سأمر في وقت لاحق لأناقش معك بعض الأمور المتعلقة بالعمل"
أومأ والدها مقطبًا بحيرة والتفت هو إلى البقية مبتسمًا
"عملًا موفقًا"
ثم التفت نحوها بابتسامته تلك التي تربك نبضها
"تشرفنا مرة أخرى يا آنسة رواء... يومًا سعيدًا"
هزت رأسها بارتباك وتحرك هو مغادرًا ولم تدرك أنّها كانت تحبس أنفاسها حتى غادر وسمعت والدها يقول بضيق
"ستتأخرين على محاضرتكِ يا رواء"
التفتت له بوجه محمر
"آه، لا تقلق... ما زال هناك بعض الوقت"
ومدت يدها نحوه بمرح
"والآن يدك على كل ما في محفظتك. نسيت أنني طلبت منك النقود لشراء كتاب؟ اليوم آخر يوم للدفع"
مال نحوها خفية عن زملائه وقرص أذنها
"أنت من نسيت أن تخبريني يا نصابة"
"حقًا؟ أتساءل من أين أتيت بهذه الذهن الشارد دوما"
هز رأسه ضاحكًا بيأس بينما يفتح محفظته ويعطيها المبلغ الذي طلبته، لم تقاوم نفسها واقتربت بحماس تقبل خده
"شكرًا يا أحلى بدر في الدنيا"
تراجعت بخجل مع ضحكات رفاقه بينما مط شفتيه يرمقها بنظرة لائمة
"سأذهب إذن، يومًا سعيدًا أيها المحترمون"
سمعت ضحكاتهم تلحقها فابتسمت وهي تسرع إلى السلالم، تعرف أنّ في انتظارها محاضرة شديدة اللهجة من أبيها بعد أن تعود للبيت، لكن الآن لتنس ما حدث وتسرع قبل أن...
دورانها في الزاوية التي تسبق السلالم توقف بشهقة حين وجدته أمامها
"مرحبًا مرة أخرى يا حورية"
تراجعت وهي تمسك بقلبها
"سامحك الله، أفزعتني"
كان يقف مستندًا للحائط وعلى شفتيه تلك الابتسامة المربكة
"هذه أحلى (سامحك الله) سمعتها في حياتي"
انفرجت شفتاها بصدمة واندفع الدم إلى وجنتيها لتنتبه أنّ نظراته توجهت إليهما بافتتان. تحركت متمتمة بهمسات نزقة، فأسرع يقطع طريقها
"لو سمحت... ابتعد عن طريقي"
كتّف ذراعيه قائلًا برقة وترتها
"أنا أرغب في المساعدة لا أكثر يا حورية"
"أنا لست حورية، لو سـ"
"أعرف، أنت روا"
فقد قلبها نبضة مع نطقه للاسم لكنّها تماسكت هاتفة بصرامة
"أنا رواء بدر العزايزي، إن كنت لا تعرف من هو بدر العزايزي فدعني أناديه لتتعرف عليه"
ضحكته سببت لها شعورين متناقضين، قلبها الأحمق رفرف بغباء بينما الجزء العاقل منها اشتعل بغيظ
"بالطبع أعرفه... وأعرفه جيدًا"
"ما دمت تعرفه فابتعد عن طريقي قبل أن تسبب لنفسك مشاكل أنت في غنى عنها"
لحق بها على السلالم التي قفزتها بسرعة
"لماذا أشعر أنني وقعت في المشاكل وانتهى الأمر؟"
توقفت خطواتها فتوقف بدوره والتفتت له بنظرات حائرة، تشعر أنّه يعني شيئًا أكبر بكلماته تلك. قابلتها ابتسامته الواسعة فأشاحت عينيها
"سأوصلك للخارج فقد لاحظت أنّك تتوهين بسرعة"
رمقته شذرًا ثم استكملت النزول
"احتفظ بمساعدتك لنفسك يا هذا"
هتف وهو يلحقها بقفزات سريعة
"لماذا يا حورية؟ نحن في الخدمة، ربما تتوهين أو تتعثرين و"
التفتت بغضب دون أن تنتبه لخطواتها، اختل توازنها واتسعت عيناها وهي تسقط للخلف لولا يده التي أسرعت تقبض على رسغها.
شدها إليه فاصطدمت به، وحدقت بصدمة في عينيه العابثتين بينما يخبرها غامزًا
"أخبرتك، تتوهين وتتعثرين بسرعة. لكن لا بأس، أنا موجود"
دفعته في صدره وابتعدت بوجه شديد الاحتقان
"أيها الوقح، إياك أن تلمسني مرة أخرى"
ابتسم بتسامح ورفع كفيه باستسلام بينما نظراته العابثة قالت العكس، رمته بنظرة محرقة واندفعت تنزل متمتمة بنزق
"أحمق، يظن نفسه وسيمًا بابتسامته الغبية"
سمعت صوته من خلفها
"بالمناسبة يا رواء بدر العزايزي"
توقفت مرغمة والتفتت له مقطبة لتجده ما زال واقفًا حيث تركته وابتسامته لم تختف
"أنا سالم يحيى المنصوري. لا تنسي هذا الاسم أبدًا"
وارت ارتباكها بابتسامة لزجة، وانتصر جانبها العنيد فرفعت قبضتها المضمومة موجِهة إبهامها للأسفل بإشارة مغيظة جعلته ينفجر ضحكًا، حدجته بغل وعادت تعطيه ظهرها وصوته يلاحقها مرحًا
"أنا واثق أنّك لن تنسيه يا حورية، وواثق أيضًا أنّنا سنلتقي مرة أخرى"
قاومت حتى لا تلتفت وتلقي عليه نظرة أخيرة أو لترميه بعبارة تحطم غروره، وكان آخر ما سمعته منه قبل أن ترحل
"أراك قريبًا يا رواء بدر العزايزي"
*************
لم تفارق الابتسامة شفتيّ سالم منذ غادر الشركة وطوال طريقه إلى السراي كما لم يفارقه خيالها... ﻻ يعرف كيف تحكم في ملامحه طيلة ساعات العمل حتى لا يثير شكوك جده، صحيح أنّه ركز على عمله جيدًا لكن خيالها كان معه طيلة الوقت.
ويشك مع كل هذا أنّه جده شعر بتغيره اليوم فنظرته إليه في مكتبه حين كانا يناقشان المشروع الجديد لخصت كل أفكاره قبل أن يرددها هو على مسامعه
"تبدو على غير عادتك اليوم يا سالم... هل حدث جديد؟"
قاوم لحظتها ليجعل ابتسامته هادئة كعادتها بينما يجيبه
"ﻻ شيء يا جدي... أنا كعادتي، هل رأيتني قصرت في العمل اليوم؟"
تأمله للحظات بطريقته التي تشعر أنّها تخترق أعماقه وتكاد تجبره على الاعتراف حتى بما لم يفعل
"لا، بل العكس... أنت اليوم فوق الممتاز"
وهو كان أكثر من فوق الممتاز بكثير حقيقة... لكن هذا يخصه ولا داعي ليعرف جده عن سبب تغيره.
لن يعجبه أن يعرف أن كبير أحفاده والوريث الذي يعده ليخلفه من بعده في حكم العائلة وقع أسير فتاة من نظرة واحدة وأنه يشعر كما لو كان عالمه الثابت قد انقلب ولن يعود إلى طبيعته مرة أخرى.
"روا"
تنغم الاسم وابتسامته تتسع، قلبه يتبعثر من جديد مع استعادة ابتسامتها الفاتنة وهي تغادر مكتب أبيها قبل أن يصدمها هو بظهوره.
لامس قلبه هامسًا لنفسه
"إذن هكذا يكون هذا الشعور"
زاد سرعته مقتربًا من السراي وحين أطلت أسواره العالية تذكر ما كان يتردد بين الأسوار لسنين ولا يجرؤ أحد على الاعتراف به أو تصديقه.
حتى هو... رغم معرفته بكل القصص التي دارت خلال أسوار السراي ونهاياتها المأساوية ظنها مبالغات.
"هل تصدق هذا يا سالم؟"
سأله أسامة ذات يوم، إن كان يصدق أن في قدر أبناء المنصوري عشقًا حتميًا وأن كل واحد منهم سيلتقي يومًا المقدرة له، سيعرفها فور أن يراها.
يومها سخر من الفكرة... طيلة سنواته الثلاثة والعشرين لم يهتز قلبه لفتاة، لم يلتفت لواحدة، تركيزه كله كان في دراسته واستعداده لتولي عمله ومنصبه القادم ككبير العائلة بعد جده.
وإن كان للعشق مكان فهو للجميع وليس لحاكم السراي القادم.
"القلب ضعف"
هذا كان شعار جده وأساس تربيته له... لكن هذا لا يعني أنّه كان يؤمن بهذا إيمانًا تامًا... كان مزيجًا وسطًا... بين تربية جده الصرامة وأفكار جدته المعارضة نشأ هو.
لم يشعر بالحاجة لذلك النوع من المشاعر ولم يهتم أن يبحث إن كان موجودًا حقًا لكن الآن...
كل عالمه انقلب وكل أفكاره تغيرت.
تمتم لنفسه بينما يدخل بسيارته عبر بوابة السراي
"ما زال الوقت باكرًا لتصدق"
لكنه في أعماقه كان يعلم أنّه كاذب، وأن حياته لن تعود كما كانت وأن هذه النبضات في قلبه لن تتوقف وخيال رواء لن يكف عن مطاردته وأنه ربما في النهاية لعنة السراي كانت حقيقية.
فهو اليوم التقى بقدره.
قلبه عرفها من اللحظة الأولى... ما بقي فقط محاولة التأكد ثم يرى إلى أين سيأخذه هذا القدر.
**********
نقلت سمراء بصرها بين والدها وشقيقتها بتساؤل قبل أن تميل وتهمس لها
"رواء، أشعر أن محاضرة هامة في انتظاركِ.... ماذا فعلتِ بالضبط؟"
مطت شفتيها دون رد وتحاشت النظر نحو والدها الذي يتابع تناول غداءه بهدوء، نظرت نحو أمها برجاء صامت فهزت رأسها نفيًا تخبرها بإيماءتها ونظراتها أنّه لا فائدة من محاولة استعطافها.
كان يجب أن تعرف أنّها لن تفلت اليوم.
بعد انتهاء الغداء حاولت التسلل إلى غرفتها لكن صوت والدها أوقفها
"رواء، تعالي قليلًا"
بادلتها سمراء نظرة مشجعة وتنهدت هي باستسلام واتجهت إلى غرفة الجلوس لتلحقه، خطت بهدوء يخفي توترها.
رغم علمها أنه لا يلجأ أبدًا إلى تعنيف إحداهن ولا ينصحهن إلا بهدوء وحب، كانت متوترة... لديها شعور شبه مؤكد انّه لن يلومها على ذهابها للشركة بقدر ما حدث في المكتب وبالتحديد مصافحتها لذلك الـ…
أسرعت تطرد صورته من عقلها، فيكفي أنّه بسببه لم تستطع التركيز على أي محاضرة اليوم وكاد يتسبب في حرجها أمام أستاذها حين ضبطها شاردة أثناء الشرح.
"اجلسي يا رواء"
زفرت بتوتر وأطاعت والدها، جلست قربه مطرقة وتأملها لحظات ثم قال
"تعرفين بالتأكيد ما أريد قوله، أليس كذلك؟"
احمر وجهها وأومأت بلا صوت
"هل يصح ما حدث؟"
زاد احتقان وجهها وتمتمت
"آسفة يا أبي... أعرف أنّك لا تحب ذهابي لك في عملك لكن كان الأمر عاجلا و..."
قاطعها بنبرة ذات مغزى
"تعرفين أنني لا أتحدث عن قدومك للشركة تحديدًا يا رواء"
عضت شفتها بخجل وأسرعت تقاطعه
"لو تقصد ما حدث في المكتب فأنا... الحقيقة كنت محرجة والأمر حدث بسرعة... لم أقصد أبدًا أن أفعل ما..."
تحشرج صوتها فصمتت بارتباك
"لم أحب ما حدث"
"أعلم... آسفة يا أبي"
ورفعت عينيها لتقابلها نظراته، قررت اللجوء لسلاحها الفعال وقفزت لتجلس قربه... مالت تسند رأسها إلى كتفه مرددة بدلال
"سماح يا أبي... كانت غلطة، لن تتكرر"
صمت لثوان فتابعت وهي تحتضنه
"هه، قلت سماح يا بدورتي... لن تسامحني؟"
تنهد مطولا ثم أبعدها، رمقها رافعًا أحد حاجبيه بلوم
"هل تعتقدين أنك ستفلتين بهذه الطريقة؟"
ابتسمت بمشاكسة
"دعني أنال شرف المحاولة على الأقل يا أبا رواء"
غلبته ابتسامته لكنه قال بحزم
"معترفة بخطأكِ؟"
أومأت بهزات رأس سريعة وعادت تحتضنه
"سماح إذن؟"
ضربها على يدها ثم قال بعد لحظات برفق
"هل ربيتك أنت وشقيقتيك على الخوف من العقاب يا رواء؟"
هزت رأسها نفيًا فتابع
"أنا أريد أن تكون كل واحدة منكن رقيبة على نفسها... لن أكون موجودًا طيلة الوقت لحمايتكن ونصحكن"
"أعلم يا أبي... ولا تخف أنا أضع ديني وكل ما غرسته فيّ أمام عينيّ، ألا تثق بي؟"
رمقها مطولا بحنان ثم ضمها
"أنا أثق بك دائمًا لكن هذا لا يمنع استمراري في نصحك وتوجيهك، وتذكيرك إن أخطأتِ، صحيح؟"
أومأت مبتسمة واستكانت على صدره لثوان قبل أن تبتعد وتخبره بحب
"وأنا لن أخذلك أبدًا، سأكون دائمًا عند حسن ظنك بي"
مسح خدها بكفه قبل أن تلتقطها هي وتقبلها بحب
"أنت أفضل وأجمل أب في هذه الدنيا... أدامك الله لنا يا حبيبي"
ضحك وقرص خدها قائلا
"وأنت أيتها الخبيثة تعرفين كيف تأكلين بعقلي حلاوة"
بادلته ضحكته وغمزت قبل أن تسمع صوت سمراء خلفها
"ألم أقل لكم؟ تمثل دائمًا أنها خائفة من العقاب لكنها بكلمتين تأكل عقل أبي"
التفتت لترى أمها وشقيقتيها عند الباب، حركت حاجبها لسمراء مغيظة وتقدمت أمهن حاملة صينية الشاي
"ليست وحدها من تفعل، صحيح؟"
رددت وهي تمط شفتيها بينما نهض هو مسرعًا ليأخذ منها الصينية ويضعها على الطاولة القريبة
"سلمت يداك يا أم البنات"
تبادلت ثلاثتهن نظرات ضاحكة وهتفت رواء
"أنت أولنا يا جميلة الجميلات، أليس كذلك يا أبي؟"
التفت لها ضاحكًا وأكد
"تمامًا، لا أحد يأكل عقلي مثلها... لقد أورثتكن السحر الذي أوقعتني به"
"أووووه"
رددها ثلاثتهن بنغمة مميزة واحمر وجه أمهن، رمتهن بنظرة متوعدة أذابها والدهن حين أمسك كفها ليقبلها فتكرر الهتاف بمرح أكبر... حاولت شد كفها منه بخجل لكنه شدها معه ليجلسا على الأريكة وأحاط كتفها بذراعه.
اتسعت ابتسامة رواء وهي تتأملهما بحب وسعادة... السبب الوحيد الذي يجعلها تصدق أن الحب موجود وحقيقي هما الاثنان.
إن كان للحب تجسيد في هذا العالم فسيكون هما.
وبسبب والدها بالذات لديها سقف مرتفع وعال للغاية لن تتنازل عنه... الرجل الذي ستقع في حبه سيكون مثل بدر العزايزي ولن تقبل بأقل من هذا.
ولا إراديًا عاد عقلها يتذكر ذلك الغريب ووجدت نفسها تتساءل... هل يملك قلبًا ذهبيًا مثل قلب والدها؟ هل يمكن أن...
كتمت شهقة داخلها وأسرعت تطرده لتركز على جلستهم العائلية الدافئة.
وحين اختلت في غرفتها أخيرًا واتجهت إلى مكتبها لتذاكر دروسها وجدت نفسها تشرد فيه من جديد ولما فشلت في التركيز نهضت تحاول شغل نفسها في أنشطة أخرى أثبتت فشلها أيضًا.
تنهدت باستسلام وتحركت نحو المرآة، جلست أمامها والتقطت فرشاة شعرها بشرود وهذه المرة لم تقاوم، تركت نفسها تسرح في الذكرى.
ابتسمت وهي تنظر لانعكاسها، ويدها تداعب خصلاتها الطويلة برقة بينما تستعيد كل تفصيلة،كلامه وصوته وابتسامته... خاصة تلك الابتسامة الأخيرة بينما يخبرها
"أنا سالم يحيى المنصوري. لا تنسي هذا الاسم أبدًا"
انتبهت على ابتسامتها السخيفة في المرآة فضربت جبينها ضاحكة
"حمقاء، أنتِ تثبتين صحة كلامه"
وزمت شفتيها وخشّنت صوتها تقلده
"أنا واثق أنّكِ لن تنسيه أبدًا"
ضحكت وهي تعاود تحريك الفرشاة خلال خصلاتها، تنهدت بعد ثوان بنعومة وشفتاها ترددان اسمه كترنيمة رقيقة
"سالم يحيى المنصوري... سالم يحيى المنصوري"
واتسعت ابتسامتها وهي تنظر لعينيها الهائمتين
"المغرور... كان محقًا"
أخبرها قلبها مؤكدًا أنّ قدميها توغلتا في أرض ليس لها قِبَلٌ بها وأنها توشك أن تغرق، لكنّها مع هذا تشعر أنّ هذا الغرق ليس سيئًا أبدًا
************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا