الجزء الأول

نور هو اسمه. صبيٌ صغير وضيء الوجه، رقيقُ الجسد، طيّبُ المعشر، جميلُ الخلق.

ابن هذه الأرض هو، نعرفه مذ كان رضيعًا حين أتى به أبوه إلى المسجد وتجمع حوله الرفاق يباركون له ما وهبه الله، ثم مرت الأيام به طفلًا يصحبه في صلوات الجُمع ثم صار يأتي منفردًا أو مع أصحابه للصلاة في أوقاتها.

اعتاد بعد الصلاة أن يجلس في هذا الركن خارج المسجد واعتدنا جلسته المنعزلة هنا. له صوتٌ عذبٌ وشجي، وحين يبدأ في ترتيل القرآن تهدأ كل الموجودات وتصغي.

روحٌ شفافة هو، له عينان ذكيتان تنفذان إلى تلك الروح التي كأنما بها أدرك واستشعر أن كل ما حوله من حجر وشجر يحبُ سماعه. صارت تلك عادته، فما توقف يومًا عن مجلسه ولا بخل بترتيل ورده.

يميل مسندًا ظهره لجذع شجرة عتيقة تهتز أغصانها حبورًا لسماعه أو لجزءٍ من جدار المسجد تخفق حجارته خشوعًا للذكر من فمه الصغير الطاهر... يُرتل فيصمت كل الوجود مُصغيًا وأُصغي معه في روحانيةٍ سامية حتى أنتبه على الآية الكريمة

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ» 

أراه يصمت ثم ينظر إلى حيث تلك الثُلة المدججة بالسلاح. عيناه تعتمان بغضب مكبوت وبركانٌ يغلي داخله في صمتٍ بينما يراقب تجمعهم وضحكاتهم ومضايقاتهم التي لا تتوقف للمصلين، يضيقون عليهم في الغدو والرواح.

جندٌ مغتصبون، كلنا نعرف متى ومن أين أتوا. الأرضُ كلُها تعرف.

في ذاتِ نكبةٍ انحدروا كالموتِ الأسود على الأرضِ المباركة؛ فعاثوا فيها فسادًا وترويعًا. تناقلت الريحُ أخبارهم وتزلزلت الأرضُ رفضًا وكُرهًا. أنّت أنينًا موجعًا حتى كادت تتصدع، والدمُ يسري أنهارًا فوقها. أبناؤها يعودون إليها صرعى فتعانقهم أمًا ملتاعة وتضمهم داخلها ثكلى مكلومة، ومن نجا انتُزِع منها انتزاعًا فأُلقي إلى شتات الأرض والمخيمات.

نقلت الريحُ لنا رائحةَ الدم وصرخات المعذبين والثكالى، وأنين الجرحى والمحتضرين، نقلت رائحةَ الموت والحرائق والهدم.

لكن... كم مرة تكرر المشهد على هذه الأرض؟ كم مرة سال الدمُ ودارت رحى الحرب ثم عادت الأرضُ طاهرة ورحل الغاصبون؟

لهذا نهدأ رغم الألم، نراقبُ مليًا وننتظرُ الوعد، نكتفي بالشهادة ونحفظ ذاكرةَ هذه الأرض، نراقبُ تعاقبَ دورة التاريخ تعيدُ نفسها ونعجبُ أن لا مُدّكِر.

لهذا أنظر مثله إلى أولئك الجند الذين أتوا من بقاعِ الأرض التي قطعهم الله فيها أممًا، فأعجبُ لعلوهم وتجبرهم وظنهم أنهم غرسوا جذورهم عميقًا في أرضٍ اغتصبوها بهتانًا وزورًا.

هل يعتقدون أن جذورهم الهشة باقيةٌ ولن تُجتث؟ يظنون أنهم خالدون هنا؟

بل هي سنةُ الله في أرضه. تجبرَ الملوكُ والجبابرة وتعاظمت الممالكُ وتحكمتْ وخضعتْ لهم الأرضُ حتى ظنوا أنّهم قادرون عليها ثم انتهوا إلى حيث انتهى الأقدمون. لا بقاء لظالم ولا متجبر... الكل يذهب.

«ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ»

أعود منتبهًا لنور يكرر الآية كأنما يبعث لهم رسالتها، يُذكرهم ويؤكد لهم قسوة قلوبهم التي غلبها الران وانتُزِعت منها الرحمةُ بالعباد فطغوا وتجبروا.

مهلًا، فالحجارة ليست مثلهم. قلوبُ الحجارة تنخلع وتذوب كمدًا من قسوتهم وبغيهم، قلوب الحجارة أرق وأكثر رحمة منهم. قسوةُ الحجارة جزءٌ من طبيعتها وغاية وجودها على عكسهم.
أعود فأُصغي له يتلو مقررًا دفاعي

«وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ» سورة البقرة .. آية 74

وما الله بغافلٍ عما تعملون... يكررها بصوتٍ أكثر خشوعًا واطمئنانًا وعيناه تعودان إلى الجُند. يطمئنُ للوعد ويهدأ قلبُه من جديد. يواصلُ ترتيله في سكون متجاهلًا إياهم ومنغمسًا بتركيز لم يقطعه ويقطع إنصاتنا العميق إلا صوتُ خطواتٍ تتقدم في اتجاهه.

يرفع رأسه ويشرق وجهه لرؤية شيخه. ينهض مسرعًا إلى الرجل الذي يتقدم مستندًا لعصا تعوضه ساقه العليلة.

«شيخي .. كيف حالك؟»

يهتف بها سعيدًا ويميل ليقبل كف الشيخ ويده الأخرى تحتضن المصحف إلى صدره، يبتسم الشيخ ويداعب شعره الأسود بحنان

«بخير يا ولدي... كيف حالك أنت؟»

أُنصِتُ لحديثهما بترقب وأراقبهما والشيخُ يرافقه إلى ركنه ويتخذ مجلسه على صخرة مربعة قريبة بينما يسأله عن حفظه.

«كالعادة... تحبُ الجلوس وحدك هنا»

يقولها ضاحكًا ويبتسم نور بخجل ويرد

«لا أعرف لماذا لكني أحب هذا المكان»

ويدير عينيه حوله يتفقد محيطه ويعانق بعينيه الأحجار والأشجار مردفًا «أشعر بسكينة هنا كما دائمًا يراودني شعور أن المكان نفسه يحبني وينتظر قدومي كل يوم»

يضحك الشيخ ويميل مربتًا على كتفه وابتسمُ مستمعًا لهما. يراجع معه الشيخ حفظه لدقائق قبل أن يثني عليه ثم يتحرك لينهض. تحامل على ساقه وأسرع نور يساعده قبل أن يسأله بفضول امتزج بخجل

«هل صحيح يا شيخي أن إصابتك هذه من مذبحة الحرم الإبراهيمي؟»

غامت عيناه وشرد قليلًا إلى سنوات قليلة مضت ثم أومأ مؤكدًا

«صحيح يا بني... كنت هناك يومها»

أعرف عما يتحدث. وصلنا الخبرُ فور وقوعه قبل حتى أن تتناقله ألسنةُ الناس في اليوم التالي.

نقلته لنا الريحُ كما اعتادت أن تفعل منذ حل الغرباء. نقلت الخبرَ ذات فجرٍ من رمضان، محملًا بصوت الرصاصاتِ التي انطلقت في الحرم هناك في مدينة الخليل، ورائحةَ الدمِ الذي سال من أجسادِ الشهداء.

قال الناسُ في اليوم التالي أن متطرفًا من هؤلاء الغرباء دخل المسجد وأطلق الرصاص على المصلين وأنّ الجندَ خارجه أغلقوا الأبواب في وجوه من حاولوا النجاة ومنعوا من حاول الإنقاذ واعتدوا عليهم. قالوا أيضًا أن الغريب القادم من شتات الأرض كان طبيبًا!... كثيرًا ما يُطلق البشرُ على أنفسهم وبعضهم ألقابًا كاذبة لا يملكون الحق فيها.

بعد جريمتهم تلك أغلقوا الحرم لأشهرٍ وفي النهاية قسّموه واستولوا على الجزء الأكبر منه لصالحهم ومنعوا الأذان فيه مراتٍ عديدة. 

انتبِهُ على صوتِ الشيخ يقص عليه الخبر ويواصل حديثه

«كنا في رمضان وكنتُ في زيارة لبعض أقاربي... ذهبنا للصلاة فجرًا حين اقتحم الحرمَ ذلك المتطرف»

وتنهد بحرارة كأنما يستعيد ذكرى الألم وقسوة اللحظات ثم يردف

«كتب الله لي النجاة يومها لكنّ ساقي تضررت كما ترى»

يعلو الألم والغضب وجه نور قبل أن يتحمد له نجاته وأن مد الله بعمره.

«لماذا لا نستطيع أن نهزمهم ونطردهم من أرضنا؟... هل نحن ضعفاء لهذه الدرجة؟»
يتأمله مليًا ثم يقول نافيًا

«لسنا ضعفاء يا بني... نحنُ أصحابُ حق، وصاحبُ الحق يستمد قوته من الله أولًا ثم من تمسكه بحقه ومحاربته لاسترجاعه»

عادت عيناه لشرودهما الحزين قبل أن ينظر تجاه الجنود ليتابع بعد برهة

«انظر إليهم يا نور... رغم كل عُدتهم وعتادهم وكل من يدعمهم هم ضعفاء. يختبئون خلف أسلحتهم ويعلمون أنّ وجودهم هنا ليس أبديًا، يظهرون من الخارج أنهم لا يُقهرون لكنّهم في الحقيقة هم أضعف ناصرًا وأقل عددًا»

أطرق نور وغمغم بمرارة

«ورغم هذا ما زالوا يحتلوننا حتى اليوم»
ابتسم بحكمة ورد

«كل الأمم تمر بفترات وهن، ونحن وهنا لكننا لم نمت. ما زالت الجذوةُ تشتعلُ تحت الرماد وتكبر يومًا بعد يوم. ما دامت عزائمنا لم تفتر وعقيدتنا حية، وما دامت جذورنا تتشبث بأعماق هذه الأرض تبقى مسألة وقتٍ حتى يعود الحق لأصحابه ويرحل الغاصب».
لمعت عيناه بمزيج من أملٍ في مستقبلٍ قريب وألمٍ لواقعٍ يفرض نفسه بقسوة وردد

«متى يا شيخي؟ متى؟»

اقترب خطوة وربّت على كتفه يخبره بيقين

«ألا إن نصر الله قريب. بيدنا نحن أن نقربه أو نبعده يا نور. معركتُنا طويلة وصعبة ويلزمها تضحياتٌ ودماء. مقاومة العدو وجهاده لتحرير أرضنا ومقدساتنا فرضٌ ولو بأقل القليل، وهذه المقاومة مستمرة وقائمة ما دام فينا نفسٌ ونبضٌ وما دام الحقُ معنا»

ومسح على شعر الصبي برفق مردفًا

«هل وعيت كلامي يا نور؟»

أومأ بابتسامة ممتنة

«وعيتُه وحفظتُه يا شيخي»

رقت عينا الشيخ واتسعت ابتسامته الحانية وغمغم بحنان

«بارك الله فيك يا بني»

دعا له قبل أن يتحرك مغادرًا

«سأتركك لتكمل حفظك... لا تتأخر في العودة إلى البيت»

أومأ واعدًا وراقبه حتى انصرف ليعود بعدها إلى مجلسه مبتسمًا وألقى نحو الجنود نظرة واثقة ترى عبر حجب الغيب وعدَ الزوال القريب.
******************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف قصة كلماتُ القدر
كلماتُ القدر

من قبل مجيئنا إلى هذه الدنيا وأقدارُنا قد خُطت كلماتُها على أسطرِ اللوح المحفوظ، وبين جدلية التسيير والتخيير يعيش البشر أقدارهم. كلمات القدر لا تجبرنا...

اقرأ المزيد