الجزء الثاني

تناقلت الريحُ وتهامست الحجارةَ بعد أيامٍ قلائل ذلك الخبر. قالوا أنّ الأرضَ انتفضت مرة ثانية وتفجر بركان الغضب الذي ظل طويلًا يغلي في صمت. اقتحم الغرباءُ يقودهم أحد زعمائهم ساحة المسجد الأقصى المبارك. كان معروفًا أنه من أكثرهم دموية. سجلت ذاكرةُ الأيام مذابح مروعة ارتكبها قبل أن يأتي ذلك اليوم ويدخل المسجد مختالًا في جمعٍ من جُنده.

اشتعل الفتيلُ وسرى الغضب في النفوس كالنارِ في الهشيم، وعادت الحجارة لتكون في المواجهة من جديد تتناقلها أيدي الصغار والكبار.

عادت الحجارةُ لتشهد وتسجل للتاريخ؛ كيف يكون صاحب الحق أقوى ولو كان سلاحه حجارة ويكون الغاصبُ ضعيفًا مخذولًا ولو تحصن خلف مئاتِ الحصون والمتاريس واجتمعت من خلفه كل القوى البغيضة.

انتفض الشعب وثار واشتعل بركانهم من ساحة الأقصى لتنطلق حممه إلى باقي الأرض.

لم يكن مستغربًا أن تصل الانتفاضة إلينا ولم يكن غريبًا أن يغيب نور عنا للمرة الأولى، البلدةُ كلُها انتفضت وخرج أهلها ليواجهوا الجند بصدور عارية ويقين لا يهتز. أصواتُهم كانت تصل إلينا وحماسُ دمائهم المشتعلة حمية ومقاومة كان يتدفقُ من أسفلهم ليغمر ثرى الأرض المباركة ويصلُ عبرها إلينا. الحجارةُ في أيديهم تشتعل حماسة وقوة تكاد تصبح جمرًا مشتعلًا، يمطرونها حجارةً من سجيلٍ فوق عدوهم المتحصن خلف متاريسه ومدرعاته. تسري حمى القتال في النفوس ونراقبُ نحن إذ يعيدون كتابةَ التاريخِ ويسطرون على صفحاتِه ملحمة من الملاحم القديمة.

تلك معركةُ حقٍ وباطل تتكرر ونقفُ نحن لنشهد عليها من جديد.

وسط كل هذا أبحث عن نور وأتفقد أخباره فتطمئنني الريحُ أنّه بخير ثم تهمس لنا أنهم يقتربون. نشعرُ بدوي أقدامهم يقترب وأصوات الرصاص والآليات الحربية للغرباء تتقدم. لم يمض إلا قليل وانتقلت الانتفاضة إلى ساحة المسجد التي تحصن فيها المنتفضون.

أرى نور هناك وسط رفاقه بقلوبٍ رحل عنها الخوفُ وأقامت فيها الشجاعةُ وطنًا. أيديهم الصغيرة تمطر الغرباء بالحجارة، وأراه هو بجسده النحيل يتقدم ليسدد رمية أصابت وجه جُندي فشجت رأسه وأسالت دمه.

من أين تأتّى لهذا الجسد الرقيق كل هذه القوة؟ من أي مكان في قلوب هؤلاء الصغار يتدفق ذلك الحماس الذي تهتز له الأرض كما أشعر الآن؟

لا شيء سوى الإيمان وقوة الحق.

لا يتخاذلون حتى والموت يتقدم نحوهم. لا يردعهم ولا يُرهبهم. يعرفون أن الحياة إذا انتهت هنا فهي تبدأ للأبد في جنات الخلد.

لهذا لا يتوقفون. لهذا هم صامدون كالجبال، كلما ارتقى منهم شهيدٌ زاد الجبلُ رسوخًا وقوة.

يندفع الصغارُ نحونا، يتحصنون قليلًا ويجمعون الحجارة ثم يطلون ليقصفوا عدوهم بها دون توقف. حماسُهم يسري إلينا رغم الرصاص الذي يتجاوزهم ليرشقنا. نتمنى لو أنّهم لا يكتفون بالتحصن خلفنا، لو أنّهم يتخذون منا سلاحًا ومددًا.

أراه يندفع ليختبئ هو وصديق له خلفي ويشيران لرفاقهما، يلتقطون أنفاسهم لثوان ويميلون ليجمعوا الحجارة الصغيرة فيشق عليّ وقوفي هكذا... ليتهم يسمعون... ليتهم يصغون إليّ... ليتهم يحطمون أجسادنا كلها ويحملون قطعنا بأيديهم يتسلحون بها.

ينهض نور ويده الصغيرة تقبض على حجر جديد. أناديهم ولا يسمعون. أهتف خلفهم... لماذا لا يسمعون؟... أكررها وداخلي يحترق ويحترق

«سيفعلون».

تجيبني الشجرة العتيقة قربي. تهتز أغصانها الممتدة في السماء، وتزداد جذورها العميقة تشبثًا بالأرض، ترد بيقين وسكون رغم رصاص الغرباء الذي ينغرس في جذعها الصامد

«ذات يومٍ قريب سيسمعوننا... وسيستجيبون»

أشاهد الصغار يواجهون رغم نزيف جراحاتهم، ويعود نور وصديقه يحتميان بي فينهمر الرصاص نحوهما كالمطر. لا أعبأ بالشرر الذي يولده احتكاك رصاصاتهم بجسدي ولا للشظايا الصغيرة التي تتطاير مني. أخشى على الصغار أن يغادروا مخبأهم خلفي فيقتنصهم عدوهم.

يتحرك نور ناويًا الخروج فأهتف به أن يتوقف بينما أعرف أنه لن يسمع، لكنه فعل. توقف فجأة ونظر إليّ وكأنه سمعني حقًا... كأنه شعر بي... سمع أمنيتي ورجائي.

ينظر للجزء المتخلخل من جسدي، يعود مقتربًا ويمسك صخرة ويهشم ذلك الجزء. لا أعترض... كيف أعترض وكنت لتوي أغبط حجارة الأرض المقدسة التي شاركتهم انتفاضتهم الأولى وعادت لتشاركهم هذه الانتفاضة الجديدة؟

ذاكرةُ الحجارة حفظت الكثير وكانت شاهدةً على مر القرون، وأنا لم أختلف. شهِدتُ تاريخَ هذه الأرض وأهلها، وحفظتُ ذاكرتها واليوم لا أكتفي بهذا. اليوم أصبح جزءًا مثل البقية. أصبح سلاحًا وأقاوم معهم.

«آسف يا صديقي»

اسمع صوته الخافت يردد ويسأله صديقه

«قلت شيئًا؟»

يبتسم ويهز رأسه نافيًا ثم ينظر إليّ فأعرف أنه يقصدني أنا بينما يواصل تهشيم جزء آخر مني ويناول حجارتي الصغيرة لرفاقه الباقين. يتناول هو في النهاية بعضَها وينهض ممسكًا واحدة في قبضته. تتدفق من يده حرارة الدم المشتعل حماسًا ومقاومة وتسري إلى الحجر الصغير ومنه إليّ. أشعر بتلك القوة العجيبة التي تسري من الجسد الصغير فتبث في الحجر سرعة وقوة فتصيب رميته من جديد وتُدمي. أباركُ رميته وأدعو له. أتابعُ معركته وأشاركُه بحجارتي الصغيرة بينما يتركُ مخبأه ويواجه بشجاعة جند الغرباء.

وكان يجب أن أعرف أن طيرًا أخضر من طيور الجنة مثله سيختار النهاية التي تليق به.

تفتت قلبي حين انتفض كطيرٍ ذبيح ثم هوى. سقط جسده النحيل وراقبت بجزع رفاقه يسحبونه خلفي. دمه الطاهر يسيل والجرح غائرٌ ومميت. اسمعهم ينادون عليه ويحاولون إسعافه لكنه يكتفي بابتسامة مرتجفة رغم دموع الألم التي تلألأت في عينيه. يده الرقيقة تقبض على قطعة صغيرة من جسدي، دمه دافئًا برائحة المسك يغمرُها وأشعرُ عبرها كلَ شيء يشعره هو داخله. الحياةُ الفانيةُ تتسرب من جسده وابتسامته المرتجفة ونظراته تشرد عابرة حجب الغيب التي انشقت أمامه بينما تتفتح أبواب الجنان لتستقبله.

«ربِح البيع... هنيئًا لك الشهادة»

أهمس له بها وقلبي الحجري يذوب ويحترق. عيناه الغائمتان تحيدان نحوي وكأنّ قربه من الموت وابتعاده عن العالم المادي أتاح له سماعي. أشعر بابتسامته الأخيرة موجهة لي قبل أن ينطفئ نور عينيه للأبد، وتبقى ابتسامته.

أودِع روحه الطاهرة وأعود فأنظر للعدو غاضبًا. لو أنّ لهم قلوبًا مثلنا لذابت وتفتت. لو فقط امتلكوا قلوبًا مثل قلوب الحجارة لامتلكوا بعض الرحمة، لتواروا خجلًا من فِعالهم ولقطّعوا أيديهم قبل أن تحصد بمناجلها أرواح الأبرياء؛ لكنّ قلوبهم ليست حجارة، بل هي أشدُ قسوة.

ونحن نشهد على هذا. أنا أشهدُ بينما دمه المسكيّ ما زال دافئًا على حجري الصغير. أشهدُ وبقية الحجارة والأرض المباركة كلها تشهد.

نشهد والانتفاضة تكبر يومًا بعد يوم، وأرواح الشهداء تتسابق نحو أعراس الشهادة والجنان، نشهد مع كل ميلادٍ جديد لابن من أبناء هذه الأرض يؤمن ويقاوم وينتصر، نشهدُ وكلُ يوم يمر يقربُنا من زوالِ أيامهم ورحيلهم، ونعرف يقينًا أن نصر الله قريب وأنّ وعده الحق.

***********

تمت بحمد الله




التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف قصة بين عالمين
بين عالمين

كان أول شخص يقتحم عزلتها وينتزعها من عالمها. كان الخيال بيتها الدائم وكيانها، والواقع كان محضَ محطات استراحة وسط رحلاتها المستمرة في مخيلتها، حتى أتى...

اقرأ المزيد