الفصل الأول

خلعت روض إسدال صلاتها وعلقته، قبل أن تتجه إلى نافذة غرفتها وتفتحها .. وقفت بابتسامة واسعة وأغمضت عينيها تستقبل نسمات الفجر اللطيفة وتتنفس بعمق .. بضع مرات .. تحركت بعدها وهي تلملم خصلات شعرها القصيرة واتجهت إلى خارج غرفتها مباشرةً إلى إحدى الغرف ورفعت يدها لتطرقها

"جدتي .. هيا اسـ"

تعلقت يدها في الهواء واختفت بسمتها قبل أن تسقط يدها متنهدة .. نظرت للباب بشرود حزين سرعان ما طردته وابتعدت عن الباب متجهة للغرفة الأخرى .. لا بأس، ستأخذ وقتًا حتى تعتاد غيابها .. يكفي الآن .. لقد أوصتهما ألا تستسلما للحزن واليأس .. كلمات جدتها وصورتها الحانية أعادت لها ابتسامتها بينما تقف أمام الباب وتطرقه بمرح

"شذى .. استيقظي يا كسولة .. أوشكت الشمس أن تشرق"

وصلتها همهمات متذمرة فضحكت وهي تدفع الباب لتدخل

"شذى .. هيا انهضي ... ستفوتكِ الصلاة"

هتفت وهي تتخصر أمام الفراش لتفتح شذى عينيها مقطبة

"ما هذا الإزعاج على بكرة الصبح؟ .. ألن تكبري أبدًا يا روض؟"

ضحكت وهي تسرع إلى النافذة وتفتحها لتسمح للنسيم بالدخول

"لا، لن أكبر يا زوزو .. ارتحتِ؟ .. هيا أسرعي وانهضي"

اعتدلت بحنق واشتدت تقطيبتها وهي تراها تمارس طقوسها الصباحية أمام النافذة .. تأففت وهي تنزل قدميها على الأرض

"يا فتاح يا عليم"

التفتت روض بضحكة مرحة مكملةً

"يا رزاق يا كريم .. هيا هيا يا وردتي الشذية .. البركة في البكور كما تعرفين"

هزت رأسها بيأس

"لا فائدة فيكِ .. قنبلة النشاط اليومية"

اقتربت منها وشعثت خصلاتها الناعمة بمشاكسة دفعتها للزمجرة، فضحكت روض ومالت تقبل خدها بقوة

"صباح الورد والشذى يا أحلى العطور"

ابتسمت مرغمة وتمتمت بنعاس

"صباحكِ معطر يا ساحرة"

تحركت روض لتخرج وهي تردد

"سأعد لنا فطورًا لذيذًا حتى تنتهي من الصلاة"

أومأت مبتسمة وانتظرت حتى غادرت مغلقة الباب الذي رمقته بحذر قبل أن تعود لنومها وما كادت تغمض عينيها حتى انتفضت على طرقة عالية وهتاف روض

"إياكِ أن تنامي مجددًا"

زمجرت وهي تركل بساقيها في حنق

"استيقظت .. تمام .. استيقظت تمامًا"

وصلتها ضحكتها عالية فهزت رأسها يأسًا ونهضت متمتمة

"رحمكِ الله يا جدتي .. أنتِ من كنتِ تصبرينني على جنونها"

ولم تلبث أن ابتسمت بحنان

"ماذا أفعل؟ .. أنا مرغمة على احتمال جنونها ساحرة العطور"

*****************

قابلتها الرائحة العطرية المنعشة فور خروجها من غرفتها .. أغمضت عينيها تتنشقها بابتسامة رقيقة، قبل أن تفتحهما على صوت روض تناديها

"الفطور جاهز"

"أنا قادمة"

أسرعت إلى المطبخ حيث أعدت روض المائدة الصغيرة تتوسطها باقة ورد كالعادة، اتخذت مكانها بينما روض تحضر كوبين من العصير واقتربت لتضع أحدهما أمامها وجلست تسألها

"أخبريني .. متى ستصل الطلبية الجديدة؟"

مضغت لقمتها قبل أن تجيب

"اليوم"

لمعت عيناها وهتفت

"رائع .. أنا متشوقة كثيرًا لاستلام حصتي"

ضحكت بمرح وارتشفت من كوبها ثم رددت

"وأنا متشوقة أكثر لتجربة تعويذة عطركِ الجديدة .. واثقة أنّكِ ستفاجئيني كالعادة"

حمرة خفيفة لونت خديها ولمعت عيناها كعادتها عندما يُذكر شغفها، فابتسمت شذى مردفة

"قريبًا سنذهب سويًا للمشتل لتنتقي بنفسكِ أفضل الزهور التي تحتاجينها، عرفت أنّهم سيجلبون أنواعًا جديدة"

لمعت عيناها أكثر وقفزت لتلف ذراعيها حول عنقها وقبلتها بقوة

"حبيبتي أنتِ .. لو تعرفين كم اشتقت للذهاب إلى هناك"

ضحكت مربتة على ذراعها

"أعرف روضتي .. وبالمناسبة لم أنس مشوار الغد ومستعدة من الآن لأدور معكِ على العطارين كلهم ومحلات مستلزمات العطور حتى تتكسر قدمايّ من المشي"

شددت عناقها هاتفة بمرح

"أنتِ أفضل شذى في الدنيا"

"ليس أفضل من عطوركِ الساحرة عطارتي"

اتسعت بسمتها وقبلتها مرة أخرى قبل أن تعود لمقعدها وتتابعا تناول طعامهما في جو من المرح والسعادة لم يفارقهما سوى في تلك الأيام حين فقدا جدتهما قبل أشهر قليلة لتتركهما وحدهما في هذه الدنيا.

**********************

تنهد حسن وهو ينظر تجاه أمه التي ما زالت لاوية بوزها باعتراض موجه له تحديدًا، ليميل أحمد عليه هامسًا بضحكة خافتة

"يبدو أنّ الحاجّة لا تزال على موقفها منك .. لن أقول أنني حذرتك مسبقًا"

زفر مشيحًا وجهه وارتشف من كوب الشاي متمتمًا

"يا رجل .. كان ناقصًا أن تخلع حذاءها وتضربني أمام الفتاة وأمها"

ضرب كتفه ضاحكًا

"حكت ليّ رباب كل شيء .. كان الله في عونك"

رمقه من طرف عينه

"حقًا؟ لن تفتح معي أنت أيضًا نفس الأسطوانة؟"

تراجع أحمد في مقعده مختلسًا النظر لزوجته الجالسة مع خالتها وبقربهما جلست عمته التي حلت ضيفًا مفاجئًا على جلستهم، قبل أن تنهض خالتها وتتركهما وحدهما .. ابتسم بحنان مرددًا

"إنّها حياتك الشخصية وأنا أكثر من يعرف كم هو مزعج أن يتدخل الآخرون في حياة المرء الشخصية ويفرضون عليه خططه وأحلامه"

مط شفتيه بأسى وتمتم

"معك حق .. لا أعرف كيف أرضيها، كما أنني أعذرها فأنا ابنها الوحيد في النهاية"

وزفر بحرارة مردفًا

"الأمر مرهق جدًا يا أحمد"

أومأ موافقًا قبل أن يقطب وهو ينظر لزوجته .. التفت حسن ليجد وجهها شاحبًا بينما نهض أحمد سريعًا

"لحظة يا حسن"

تابعه وهو يسرع إليها ليلتقط كفها ويشدها لتقف وأحاط خصرها بذراعه مواجهًا عمته بكلمات لم يسمعها من مكانه، لكنّه توقعها من وقفته المتحفزة، ومن ملامح العمة التي تجهمت لتنهض فجأة وتغادر بعد أن ألقت ببضع كلمات في وجه أحمد الذي مال يقبل جبين رباب هامسًا لها بشيء ثم أسرع خلف عمته التي خرجت من الشقة كالعاصفة.

تنهد بأسف وعيناه على رباب التي التفتت بشحوب لتتقابل أعينهما .. تحركت نحوه بابتسامتها الشاحبة وقالت بمرح مفتعل

"طبعًا تتسبب في الكارثة ثم تجلس مرتاحًا وتتركني أنا أواجه مدافع خالتي وحدي"

تقبل محاولتها البائسة وتمتم

"على أساس أنني لم آخذ نصيبي منها، وكما ترين بعينيكِ .. لاوية بوزها مني ولا تريد الحديث"

ردت ضاحكة

"يومين وتهدأ، وتنسى وبعدها تأتي لتخبرك عن العروس الجديدة"

اعتدل هاتفًا بفزع أضحكها

"لا تقولي أنّ هناك عروسًا غير تلك التي جعلتها تطفش"

ربتت على كتفه

"لا تقلق لا توجد واحدة الآن، لكن لن تمر أيام حتى تجد واحدة بالمواصفات التي وضعتها لعروس أحلامك"

أغمض متنهدًا بيأس

"لماذا لا تقتنع أنّ مواصفاتها لا تتوافق مع مواصفاتي أنا؟"

فتح عينيه عندما همهمت بتسل

"مممم .. هناك مواصفات خاصة إذن؟ .. هل أفهم من هذا أنّ هناك أمل وأنّك غيرت أفكارك المقدسة ويمكن أن تفكر يومًا في الارتباط الجاد"

رمقها شذرًا لتتسع ابتسامتها المتسلية

"إذن .. هل ستصبح قريبًا ممن يعشقون النظام ويقدسون الحياة الزوجية؟"

هز رأسه يأسًا منها واختلس النظر لوالدته ثم قال مشيرًا برأسه

"هل ضايقتكِ عمة زوجك مجددًا؟"

اختفت ابتسامتها ومطت شفتيها لترد بعد ثوان

"المعتاد .. مهما كلمها أحمد لا تتوقف عن تلميحاتها ومحاولاتها لإقناعه بالزواج من أخرى، كما لو أنّ حماتي رحمها الله سلمتها الراية وأوصتها بتحقيق ما لم تستطعه هي"

آلمه قلبه لأجلها فهو يعرف جيدًا كيف عانت لسنوات وما زالت تعاني مع أسرة زوجها بسبب عدم إنجابها رغم مرور أكثر من عشر سنوات على زواجهما، حتى أنّها نفسها توسلت أحمد مرارًا أن يتزوج لكنّه رفض بإصرار عنيف وواجه الجميع لأجلها ومنعهم من الإساءة لها بكلمة، لكن كما يبدو لن يتوقفوا عن التدخل في حياتهم وتعكيرها .. انتبه على صوتها تقول

"لقد اعتدت هذا وأحمد فقط من يجعلني أحتمل ما أسمعه"

ابتسم وهو يرى أحمد يدخل الشقة وأخبرها

"ها قد أتى الأمير النادر مع ذكره"

لمعت عيناها بعشق، وهي تلتفت ناظرة لزوجها الذي أمسكت به خالتها وفتحت معه حديثًا لا بد يخص حسن ... أخبرها مازحًا

"يجب أن تتمسكي به بأظافركِ وأسنانكِ .. الرجال أمثاله أوشكوا على الانقراض"

ضحكت قبل أن تغمغم بابتسامة عاشقة

"هل تعرف؟ .. حتى لو لم يكتب لي الله أن أصبح أمًا لن أشكو ولن أحزن من قدري لأنّه في النهاية كتب لي أحمد ورزقني حبه وقلبه الكبير .. أنا أكتفي به من كل نعم هذه الدنيا"

ابتسم بتأثر لكلماتها ودعا قلبه لهما بالسعادة وأن يتم الله نعمه عليهما ويقر أعينهما بطفل .. هما يستحقان.

يعترف أنّه قبل سنة واحدة فقط كان يتعامل مع حبهما كأمر مُسَلَّم عادي .. كان يشاكسهما كثيرًا، لكن .. كل هذا تغير قبل سنة .. رفرف قلبه كعادته كلما استعاد تلك الذكرى التي غيرت كل شيء، كأنّما قلبه قبل ذلك الصباح كان شيئًا وبعد تلك الدقائق صار شيئًا آخرًا .. أغمض عينيه متنفسًا بعمق ليتسلل شذى عطر من أعماق ذكرياته ممتزجًا برائحة البحر ونسيمه، يسرقه من واقعه ككل مرة ويسحبه لعالمها العطري الساحر .. ليته يعرف الطريق إليها .. ليته يعثر عليها يومًا .. الساحرة التي سرقت قلبه ذات صباح صيفي واختفت دون أثر.

*****************

قبل عام

ركل بقدمه صخرة صغيرة متنهدًا بقوة، وعقله مشغولٌ بأفكاره التي دفعته للسهر طيلة الليل ثم المغادرة من الشاليه في هذه الساعة المبكرة .. نسمات الصباح الباردة القادمة من ناحية الشاطئ جعلت توتره يهدأ قليلًا .. وقف لحظات متطلعًا للشمس التي تشرق بخجل وعاد يتنهد متابعًا سيره على الشاطئ .. بداية يوم آخر ورسالة جديدة تخبره أنّه ما زال في عمره بقية وأنّه كان محظوظًا حين نجا من ذلك الحادث قبل بضعة أشهر .. كأنّما كان في حاجة لتلك الصفعة من القدر لينتبه للطريق الذي يسير فيه .. تفكيره أنّ حياته كان يمكن أن تنتهي في غمضة عين دون أن يستعد للموت، وأنّه فعل الكثير الذي شعر بالخجل لحظتها عندما تصور أنّه كان سيلقى الله به .. كان عليه أن يعيد حساباته في حياته كلها .. خروجه من المشفى بسلام كان بدايته الجديدة والحازمة مع نفسه.

رفع رأسه للأفق وأغمض متنفسًا هواء البحر المنعش .. كانت فكرة جيدة أن يأخذ عطلة قصيرة ويأتي إلى هنا، كان في حاجة لبعض الاسترخاء والعزلة ليقرر ما سيفعله .. أمه عادت تلح عليه في أمر الزواج وكأن فقدانه الوشيك جعلها تدرك أنّه كاد يرحل دون أن يترك لها قطعة منه تذكرها به .

زفر بيأس وهو يضع يديه في جيبيّ بنطاله معاودًا السير على الرمال، أغرته مياه البحر بالسباحة قليلًا فتوجه إليه وعيناه تجوبان الشاطئ قبل أن تتوقفا على تلة صخرية قريبة، لتتوقف خطواته فجأة.

هناك على التلة رآها، كانت تقف مواجهة الشمس والشاطئ والنسيم الرقيق يداعب شعرها القصير وفستانها الصيفي، لولا تلك الحركة البسيطة لظنها تمثالًا .

عاد يتحرك ببطء، شيء فيها يجذبه، ربما هو الفضول لا أكثر. لم يشعر بنفسه وهو يتحرك صاعدًا الصخور نحوها، ليتوقف على بعد خطوات. كانت مغمضةً العينين مبتسمة بعذوبة،تتنفس الهواء بعمق واستمتاع، قبل أن يأخذ خطوة نحوها فردت ذراعيها على امتدادهما كأنها تعانق الشمس والنسيم والبحر.

بقى مسمرًا للحظات بدت له دهرًا كاملًا ، مسحورًا بهيئتها وأشعة الشمس تحيلها شيئًا أثيريًا فاتنًا، صورة شفافة حركت شيئًا داخله، لامست روحه، وجذبته كمغناطيس عجائبي، فوجد نفسه يقترب دون إرادة.

خفق قلبه حين مال جسدها للأمام، وهي غارقة في عناقها المسحور مع الطبيعة، فاندفع نحوها وهتف لا شعوريًا

"انتبهي"

في اللحظة الأخيرة أمسك بها وشدها إليه، لكنّ قدمه ذلت ليسقط الاثنان من فوق التلة، تهاوى قلبه وهو يتخيل تهشم جسده غير منتبه لقصر المسافة التي تفصلهما عن الأرض التي ارتطم بها ليصرخ بألم ومضت لحظات قبل أن ينتبه أنّه لحسن حظه لم يصب، ثم بقلبٍ مرتجف أدرك أنّها بين ذراعيه، مستلقية فوق جسده تتنفس بسرعة.

اعتدل هاتفًا

"أنتِ بخير؟ يا آنسة أجيبيني"

مد يده المرتجفة محاولًا إبعادها بينما يشعر بكفيها متشبثتين به بقوة، تنفس بصعوبة وجسده الأحمق يتفاعل بطريقة غبية معها. ما الذي يفكر فيه؟ هل هي أول مرة يقترب من فتاة؟

جسدها الرقيق وعطرها وأنفاسها المتسارعة أربكته لكنّها زلزلت كيانه حين شعر بكفيها تشدانه من قميصه بينما ترفع وجهها مغمضة العينين، مقتربة منه أكثر لـ... تتشممه!

ما الذي تفعله؟ فكر باضطراب وهو ينظر لها، لم تفتح عينيها وهي تقترب من عنقه تتشممه بطريقة غريبة كأنّها... كأنّها تتعرف عليه من رائحته.

ما بها؟ أهي حيوان ما؟

أنفاسها الملامسة لعنقه زادت قلبه رجفةً بينما عقله يردد ساخرًا، ربما هي مصاصة دماء. فتح فمه ليهتف متذمرًا، ليس لقربها بالطبع فقلبه وجسده الأحمقان لم يبد أنّهما يمانعان

"يا آنسة، لو سمحتِ ما تفعـ"

اختنقت كلماته حين رفعت وجهها إليه وفتحت عينيها، ولو كان قلبه يرتجف قبل ثوان فقط، فقد صعقته بنظرة إلى عمق عينيها، كانتا تلمعان. هل هو بوعيه أم يحلم؟ هل هناك عينان تلمعان هكذا؟ كأنّ آلاف النجوم تلمع داخلهما، كانت تنظر إليه كما لو كانت وجدت كنزًا نادرًا.

شعر أنّها لا تراه هو شخصيًا بل تنظر لشيء آخر، عيناها تزدادن لمعانًا ولصدمته كادت تغمضهما من جديد وتأخذ نفسًا عميقًا من رائحته

"يا آنسة، ماذا تفعلين؟"

انتفض هاتفًا فانتفضت بدورها، رمقته للحظات بغباء وحيرة

"أنتِ بخير؟ هل أثرت السقطة على رأسكِ؟"

"سقطة؟"

تمتمت بحيرة قبل أن تنظر لأعلى حيث الصخرة التي كانت تقف عليها وبدا أنّها بدأت تستعيد وعيها، تراجعت شاهقة بجزع

"يا الله، أنا... ماذا حدث؟"

"كما ترين، سقطت من فوق الصخرة وأنا"

قاطعته وهي تنهض منفضة ثوبها من الرمال

"أنا آسفة. يا ربي، لا أعرف كيف أعتذر منك"

واختلست النظر إليه، ليمتقع وجهها ثم يحمر بشدة كأنما تذكرت ما فعلته، وفي ثانية واحدة أطلقت ساقيها للريح

"يا آنسة، انتظري"

لم تستجب لندائه بينما تتسلق الصخور برشاقة وسرعة، واندفع هو خلفها مدفوعًا بخوفٍ مفاجئ من أن تتسرب من بين يديه كخيال أو يكتشف أنّها كانت حلمًا، حين وصل لأعلى وجدها تلتقط سلة مليئة بالزهور، والتفتت إليه هاتفة

"شكرًا جزيلًا لمساعدتك"

قبل أن يوقفها أطلقت ساقيها للريح، وتجمد هو متابعًا هروبها قبل أن يهتف قلبه فيه مؤنبًا، ماذا يفعل بوقوفه هكذا كالأبله؟ ستختفي ولن يراها مرة أخرى.

أسرع ينزل وجرى بسرعة ليلحقها لكنّه توقف حين اكتشف خلو الشاطئ منها، اختفت.

هل كان يحلم فعلًا؟

تحسس رأسه مكان سقطته، لا، يشعر بالألم في رأسه وجسده من أثر الارتطام، لم يكن حلمًا. ما زال يشعر بدفء بشرتها وأنفاسها ونبضاتها السريعة.

توقفت عيناه على وردة حمراء سقطت منها أثناء هروبها، اتجه إليها وانحنى يلتقطها ورفعها إلى أنفه يتشمم عبيرها بقلب مرتجف وهو يغمض عينيه ليدرك أنّ صورتها انطبعت في عقله ووجدانه.

عليه البحث عنها، لن يرتاح قبل أن يجدها ويعرف من تكون، وبعد ذلك يمكنه مناقشة عقله بروية ليفهم حقيقة ما يحدث معه.

**********************

الحاضر

ترجلت شذى من سيارتها الصغيرة، وهي تتنهد بإرهاق قبل أن تُخرِج منها صندوقين كبيرين محملين بالزهور .. قطبت حين رأت مكان البواب خاليًا ونادته .. لم يأتها رد فزفرت بقوة وحملت أحد الصندوقين إلى مدخل العمارة وعادت لتحمل الثاني وتطلعت إلى السلالم بنزق قبل أن تغمغم وتحمل أول صندوق

"هل هذا وقت اختفائك يا عم صابر؟ .. هه .. ما البيد حيلة"

صعدت السلالم بقدر ما سمح إرهاقها وما تحمله، تعد الطوابق التي تفصلها عن شقتها. لم تكد تصل إلى الطابق الذي يسبق شقتها حتى أسرعت تتجاوزه بخفة تدعو ألا تتمسى بوجه جارتها السخيفة تلك، لكنّ الباب انفتح ما أن تجاوزته كأنّها كانت تنتظرها خلفه. همست بنزق ما أن أتاها نداء جارتها

"يا فتاح يا عليم، يا رب صبرك. هي مرارة واحدة أملكها ولن تحتمل أكثر"

استمرت في صعودها فهتفت الأخرى من خلفها

"بكم الورد هذه الأيام يا حضرة الدكتورة؟ سمعت أن أسعاره ارتفعت"

أغمضت وهي تكز على أسنانها مستدعية كامل طاقتها على الصبر ثم التفتت لها بابتسامة سمجة

"يمكنك سؤال زوجكِ فقد كان عندنا قبل أيام، ألم تعجبكِ الباقة التي اشتراها لكِ؟"

شحوب وجه جارتها التي تماثلها سنًا والتي كانت تكرهها لسببٍ ما، ولم يمر يوم بعد زواجها وسكنها هي وزوجها في شقة أسرتها، لم تسمعها فيه كلمة غبية عن تأخر زواجها. السخيفة البلهاء تظن الجميع مثلها، ترضى بشبه رجل لتهرب فقط من لقب "عانس" الأحمق.

انتبهت على تخصر جارتها هاتفة

"ولم يجد زوجي سوى محلكِ التافه ليشتري منه؟"

منحتها ابتسامة أكثر سماجة

"يمكنكِ أيضًا أن تسأليه هذا السؤال عندما يعود"

للحظة اقشعر جسد شذى من النظرة السوداء التي تفحصتها بها ووجدت نفسها تقرأ المعوذتين داخلها قبل أن تسمعها تردد بحقد وغيرة

"ستظلين طيلة عمركِ عانسًا طالما تمتلكين لسانًا كالمبرد"

كادت تستحضر روح امرأة سوقية وتخبرها بهتاف ممطوط "اسم الله على لسانكِ الذي ينقط عسلًا يا حيلتها"، لكنّها ترفعت عن الانحطاط بمستواها وزادت ابتسامتها الباردة اتساعًا وهي تنزل الدرجات التي تفصلها عنها مرددة

"لا أمانع البقاء عانسًا أبدًا"

وحركت عينيها عليها من أعلاها لأسفلها بنظرة ساخرة

"بالنظر لما أراه أمامي فيبدو أنّ المتزوجات يعشن حياة مزرية للغاية"

وعادت لتصعد درجة ثم توقفت والتفتت باستعراض

"آه بالمناسبة، لقد أوشكت على الإفلاس من كثرة القطن الذي أشتريه لأسد به أذنيّ حتى لا أسمع شجاراتكِ مع المحروس زوجكِ وصراخكِ العالي وهو يضربكِ"

اسود وجهها وتوحشت عيناها لتواصل شذى بخبث

"ما العمل؟ ضريبة الجيرة وعليّ تحملها، لكن ربما أتحدث مع زوجكِ المحترم وأطلب منه المال الذي أخسره بسببكما، لا أعتقد أنّ سيمانع أبدًا، ما رأيكِ؟"

اندفعت تنوي مهاجمتها لكنّ صوت زوجها أوقفها

"ماذا تفعلين يا امرأة خارج الشقة؟"

شحب وجهها وتراجعت بينما انقبض قلب شذى، ما الذي أحضره الآن؟ ما صدقت أنّها لم تصطبح بوجهه هذا الصباح.

انتبه هو لوجودها فاستبشر وجهه

"دكتورة شذى! أشرقت الأنوار. وأنا أقول لماذا المكان منير ورائحته عطرة هكذا؟"

قاومت غثيانها بينما حدجته زوجته بقهر وهتفت اسمه بغيظ فالتفت لها قائلًا بخشونة

"ماذا تريدين يا امرأة؟ لماذا أنتِ واقفة هنا؟"

والتفت إليها مردفًا باستنكار

"هل ضايقتكِ بشيء يا ست البنات؟"

لوهلة أشفقت عليها شذى لكنّها تذكرت كل الإهانات المبطنة والظاهرة التي تنالها يوميًا منها فمنحته أجمل ابتسامتها ورددت

"بالعكس يا أبا عمر، كانت تمتدح فيك وتخبرني كم أنت زوج رائع ومحب"

فغرت الجارة فمها بينما رمقها زوجها بشك، لتردف شذى بتسل

"كانت تخبرني كم هي محظوظة بك وأن المرأة التي ستشاركها فيك أمها داعية لها"

"هي قالت هذا؟"

قال بغير تصديق وزوجتها تحدجها بغل حتى شحب وجهها وشذى تردف

"صدقني، حتى أنّها كانت تعرض عليّ أنا شخصيًا أن أوافق على الزواج منك وأشاركها السعادة التي تغرق فيها"

ومطت شفتيها بأسف مفتعل

"أنت رجل تتمناه الكثيرات يا أبا عمر، ونعم الرجل فعلًا، لكنني بصراحة لا أرضى أبدًا بخراب البيوت العامرة، ربنا لا يرضى الظلم"

هرش مؤخرة عنقه بحرج وقال بارتباك

"يسلم أصلكِ يا ست البنات، كلامكِ على رأسي والله ولو أردتِ أي شيء نحن في الخدمة"

وهتف فجأة منتبهًا

"يا خبر، يا لقلة ذوقي. هاتي عنكِ أوصله لكِ حتى باب شقتكِ"

ابتسمت له متراجعة قليلًا، تشعر بنظرات زوجته تكاد تقتلها

"شكرًا لك، لا أريد أن أتعبك"

"تعبكِ راحة يا ست الهوانم"

منحته ابتسامة عذبة

"لو كنت مصرًا فهناك في المدخل صندوق مثله، سأكون ممتنة لك لو أحضرته"

هتف وهو يتحرك بسرعة

"في الحال يا دكتورة سيكون عندكِ ، لا تحملي همًا"

واختفى في لحظة لتبتسم هي في شماتة لجارتها وعادت تصعد إلى شقتها لكن ليس قبل أن تسمع صوت الشقة المقابلة بالأسفل تُفتح ويأتيها صوت جارتها الأخرى تمصمص شفتيها

"عشنا وشفنا، بنات آخر زمن. رأيتِ مقصوفة الرقبة يا أم عمر؟ كيف تسكتين لها؟"

تابعت صعودها والأولى تهتف

"حسبي الله ونعم الوكيل فيها خطافة الرجال"

مصمصت الأخرى شفتيها مجددًا

"صحيح، اقلب القدرة على فمها تطلع البنت لأمها"

توقفت بقلب منقبض، كادت تنزل إليهما وتسمعهما من الشتائم حتى تكتفي

"حرّصي على زوجكِ وبيتكِ يا أم عمر يا أختي، أمها سرقت رجلًا من زوجته قديمًا، خذي حرصكِ يا حبيبتي ربنا يزيح عنا"

"أمي كانت تقول أنّها، كفانا الشر... كانت ساحرة يا خالتي"

"صحيح يا حبيبتي، حتى أختها نفسها غير طبيعية، بالتأكيد ورثت من أمها"

خنقتها غصتها لكنّها تابعت طريقها متجاهلة تجريحهما، فتحت الباب وهي تتنفس بعمق ودلفت هاتفة

"السلام عليكم يا أهل الديار، لقد عدنا"

ثوان وسمعت خطوات روض قبل أن تظهر مندفعة من ناحية مختبرها الصغير، ابتسمت لها بحب ونسيت كل ما سمعته وروض تندفع لتحتضنها

"وردتي الجميلة، اشتقت لكِ"

قرصت خدها وقالت مشيرة بعينيها للصندوق الذي وضعته جانبًا

"اشتقتِ لي أم لزهوركِ يا مكارة؟"

تراجعت هاتفة بمرح

"لكما معًا حبيبتي"

تأملتها بحنان وهي تندفع نحوها الصندوق فالتقطته روض بعينين لامعتين

"حبيباتي، مرحبًا بِكُنّ في بيتنا المتواضع، لنتعاون معًا من أجل رائحة أجمل للعالم"

ضحكت شذى لتختفي ضحكتها سريعًا حين سمعت طرق الباب

"يا ربي، الرحمة"

"ما الأمر؟"

سألتها بقلق وهي تتحرك فأسرعت تمسك ذراعها

"انتظري .. إنّه جارنا ذاك"

فغرت فاهها ثم أومأت بتفهم وشذى تخبرها

"خذي منه الصندوق واصرفيه بسرعة"

"تمام"

أسرعت إلى غرفتها بينما اتجهت روض لتفتح الباب وابتسمت بسماجة لجارها الذي اختفت ابتسامته الواسعة فور أن رآها

"مرحبًا يا أبا عمر"

كان يحاول اختلاس النظر عبر الفتحة الصغيرة بينما يغمغم بتشتت

"أحضرت .. الدكتورة كانت قد"

قاطعته وهي تفتح الباب قليلًا وتشد الصندوق بكل قوتها

"نعم .. قالت لي أستلمه منك .. للأسف كانت متعبة كثيرًا وغرقت في النوم فور أن دخلت"

ردد بإحباط

"ألف لا بأس عليها .. نوم العافية .. لو احتجتما شيئًا أخبراني .. من هذه العين قبل هذه"

قالت بابتسامة سخيفة

"تُشكر يا عمو .. هذا من كرم أخلاقك"

كادت تنفجر ضاحكة عندما رمقها شذرًا

"عمو؟! .. تقول لي أنا يا عـ"

شهقت بافتعال تقاطعه

"يا ربي .. نسيت القارورة في المعمل .. سألحقها قبل أن تنفجر وتهدم العمارة"

وتراجعت بسرعة

"تُشكر مرة أخرى عمو أبو عمر .. نردها لك في الأفراح"

وأسرعت تغلق الباب زافرة بارتياح

"هل انصرف؟"

التفتت بابتسامة شقية، وضحكت فور رؤيتها

"يا ربي انظري لنفسكِ يا شذى"

ابتسمت بشحوب وهي تجلس على الأريكة مُطرِقة بِهَم، جعل ابتسامة روض تتراجع

"ما الأمر حبيبتي؟ .. هل ضايقوكِ كالعادة؟"

تنهدت بحرارة

"تعبت يا روض"

"بعد الشر عنكِ حبيبتي .. أنتِ أقوى من تفاهتهم هذه"

هزت رأسها وتحشرج صوتها

"أعرف لكن .. سئمت حقًا .. لقد زادت مضايقاتهم منذ وفاة جدتي، أنا لا أهتم لرأيهم فيّ"

وصمتت قليلًا وروض ترمقها بشفقة ثم تابعت

"تعبت من نظرات الرجال ومحاولاتهم معي .. يعتقدون أنني مباحة وأن ظروفي ستلجأني للرضا بأي علاقة لعينة معهم"

حاولت التخفيف عنها فقالت بمرح

"أي ظروف يا قمر؟ .. ألا ترين نفسكِ في المرآة؟ .. لو كنت رجلًا للاحقتكِ بالتأكيد"

ابتسمت بقلة حيلة وضربتها على كتفها فضحكت روض مردفة

"وهؤلاء النسوة ذوات الألسنة الطويلة يغرن من فتنتكِ وتفوقكِ وردتي .. لست أنا من سأخبركِ أن تترفعي عن مضايقاتهم فأنتِ أكبر منها"

وأحاطت كتفيها بذراعها

"ألستِ أنتِ من كانت تعلمني الثقة بالنفس ومواجهة التنمر وألسنة الناس بقوة"

أومأت متنهدة بحرارة

"وأنا ما زلت عندي كلامي .. أنا فقط سئمت المكان هنا .. لم يعد له طعم بعد رحيل أمي وجدتي"

وابتعدت معتدلة لتواجهها بعد لحظة تردد

"في الواقع يا روض هناك ما أفكر فيه منذ فترة وترددت في مفاتحتكِ به لكن .. حقيقةً ما عاد يمكنني الاحتمال أكثر"

"ما الأمر؟"

سألتها بتوجس فأدارت شذى عينيها في المكان بألم

"أعرف كم تحبين بيتنا وذكرياتنا فيه"

انقبض قلب روض بشدة بينما تابعت أختها

"أنا أيضًا أحبه وسأحزن كثيرًا إن فارقناه"

ابتلعت غصة مؤلمة وسألتها

"هل تريدين ترك البيت لمكان آخر؟"

نظرت لها برجاء ثم حسمت أمرها

"لقد تحدثت مع صديقة لي وهي تعرف شخصًا يعمل في السمسرة .. سيبحث عن شقة جيدة في مكان راق .. يمكننا الانتقال إليها و"

قاطعتها بتوتر

"ومن أدراكِ أننا لن نجد نفس المضايقات هناك؟"

أجابتها بخفوت

"ألا يقولون اختر الجار قبل الدار؟ .. هذا ما سأتأكد منه قبل الموافقة على المكان ولن ننتقل إليه إلا عندما أطمئن .. كما أنّه"

صمت مطرقة بألم جعل روض تقلق عليها لتتابع بهم

"كما أنّ الناس هناك لن تعرف بماضينا ولن"

قاطعتها هاتفة

"قطع لسان أي شخص يتحدث عنا بسوء .. نحن لم نفعل شيئًا نخشى من مواجهة الناس بسببه"

تمتمت بشحوب

"أعرف يا روض لكن قلت لكِ .. سئمت من اتهاماتهم ونظراتهم لي أنني أشبه أمي وسأفعل مثلها .. كل امرأة تقابلني في شارعنا وفي العمارة ترمقني بنفس النظرات .. وأنا متأكدة أنّ الحال معكِ هكذا أيضًا"

توترت نظراتها مؤكدة كلامها فابتسمت شذى بقلة حيلة

"ومضايقاتهم ستزداد مع الوقت .. ما عدت آمن علينا هنا حبيبتي"

دمعت عيناها وهي تنظر لجدران البيت الذي عاشت فيه عمرها كله

"سأفتقد هذا المكان كثيرًا لكن ما يصبرني أن ذكرياتنا تعيش في قلوبنا وسنحملها معنا حيث نذهب .. سنبني حياتنا في مكان نظيف، وسط جيرة جيدة"

"وإن لم تعجبنا تلك الجيرة؟"

سألتها مقطبة، فردت

"أخبرتكِ أنني سأتأكد من كل شيء .. كما أنّ المنطقة التي اقترحتها صديقتي أكثر قربًا للمحل"

صمتت روض قليلًا تفكر

"روض .. أرجوكِ ساعديني .. أعرف أن القرار صعب لكن ما باليد حيلة .. ومن يدري ربما هذه الخطوة فاتحة خير لنا"

تنهدت متمتمة

"يفعل الله ما فيه الخير يا شذى .. أنا فقط أتألم كلما تخيلت رحيلنا من هنا"

والتفتت لها بعينين دامعتين

"لماذا علينا ترك بيت طفولتنا من أجل أشخاص سيئين؟ .. نحن لم نرتكب ذنبًا يا شذى، لماذا نهرب؟"

أحاطت كتفها بذراعها بحنان

"نحن لا نهرب حبيبتي .. نحن نبحث عن مكان أفضل .. مكان نعيش فيه بأمان ولا تجرحنا فيه كلمة أو نظرة"

ودارت عيناها في الشقة بحزن

"وأنا لم أعد آمن علينا هنا من كل شيء"

زفرت روض بحرارة ثم همست

"تمام .. لا بأس .. ربما كما تقولين تكون هذه خطوة جيدة في حياتنا"

أومأت مبتسمة

"سترين .. إن شاء الله سنجد السعادة والأمن هناك أنا متأكدة"

ردت بابتسامة باهتة ولم تلبث أن طردت حزنها وقلقها حتى لا تحزنها وقامت هاتفة

"حسنًا دعينا من كل هذا"

وأمسكت كفها وشدتها لتنهض

"تعالي معي .. سأريكِ آخر تجاربي العظيمة"

ضحكت وهي تصحبها إلى المختبر، وأسرعت روض نحو الطاولة التي تراصت عليها أدواتها والتقطت زجاجة صغيرة وعادت إليها تأمرها بمرح

"أغمضي عينيكِ"

أطاعتها ضاحكة بينما فتحت روض الزجاجة وأخرجت أنبوبة رفيعة منها قربتها من أنفها مردفة بهيام

"والآن .. تنشقي عبق الطبيعة الساحر وأخبريني ماذا تشعرين؟"

أخذت شذى نفسًا محملًا بالعطر، وابتسمت متابعة تجربة الشم لبرهة فتحت بعدها عينيها لتهمس بإعجاب

"مبهر يا روض .. إنّه .. لا أعرف كيف أصفه"

وابتسمت للحبور في وجهها واللمعان في عينيها بينما تسألها

"وكيف تشعرين؟"

أغمضت مجددًا وهي تأخذ نفسًا آخرًا

"بسلام .. سكون شديد"

وأردفت بابتسامة رقيقة

"أنا في بستان مليء بأشجار الفاكهة الفواحة .. أشعر بنسيم يداعب شعري، وهناك شاطئ بحر ..أشم رائحته .. تذكرت .. ذلك الشاطئ الذي ذهينا إليه الصيف الماضي .. ذكرني به"

صفقت روض باستحسان

"رائع .. اقتربتِ كثيرًا"

فتحت عينيها وقد استعادت سلامها النفسي وإشراقها ورمقتها بحب وامتنان

"شكرًا حبيبتي .. لقد نقلتِني لأكثر مكان كنت أحتاجه في هذه اللحظة"

اتسعت ابتسامتها

"كنت أعرف أنّها ستفيدكِ .. سعيدة جدًا إنّكِ أحببتِها"

أعادت الزجاجة مكانها وشذى تتمتم بحنان

"تعرفين أنني أحب كل عطوركِ روضتي .. لم تفشل مرة في إخراجي من حزني ولا في إبهاجي ومنحي أفضل شعور دومًا"

وابتسمت وهي ترى احمرار وجهها ثم أردفت وهي تنظر حولها

"بالمناسبة .. الطلب على مستحضراتكِ زاد وستتعبين كثيرًا لتلبية العدد المتزايد"

أخبرتها بحماس

"لا بأس .. عملت حسابي"

وأشارت إلى ركن الغرفة

"أعتقد هذه الكمية ستكون كافية حتى أجهز الباقي"

نظرت لصناديق الزجاجات ورددت

"تمام .. لكن هذا سيجعلني ألح عليكِ .. تحتاجين لمساعدة"

غمغمت بخفوت

"ربنا يسهل يا شذى .. تعرفين أنني أحب عمل كل شيء بنفسي"

ربتت على كتفها

"وأنا أحب عملي مثلكِ روض لكن .. لم أكن لأستطيع العمل وحدي في محل الزهور، كان يجب أن أوظف أشخاصًا لمساعدتي"

تنهدت مرددة

"تمام لكن سأؤجل الأمر حتى ننهي انتقالنا من هنا وبعدها سأرى"

"تمام حبيبتي .. كما تريدين"

وتحركت لتغادر

"هيا لنتعشى فأنا واقعة من الجوع"

هتفت وهي تلحقها

"ثواني وسيكون العشاء جاهزًا"

"لا .. سأعد أنا الطعام هذه المرة .. مكافأة مني لتجربة عطركِ الساحر"

ضحكت روض وهي تغلق مختبرها

"حسنًا، ومن يرفض التدليل الملكي سموكِ؟ .. لكن استعدي بعدها لجلسة مساج لطيفة بزيت معطر ستدللكِ وتزيح عنكِ عناء اليوم كله"

ولحقت بها للمطبخ لتخبرها شذى

"يا للدلال .. زبائنكِ سيحسدونني على كل هذا .. ينتظرون بفارغ الصبر الحصول على منتجاتكِ السحرية بينما أنا أتلقى الدلال مجانًا"

احتضنتها من الخلف وقبلت خدها

"إن لم يكن دلالي لملكة الزهور الجميلة فلمن يكون؟"

ابتسمت لها بحب ثم تحركت لتصنع الطعام بينما تدعو الله أن يبعد الشقاء عنهما ويجدا طريقهما بعيدًا عن شرور الناس.

*********************

ضاقت عينا شذى وهي تنظر لإطارات سيارتها المثقوبة بغيظ، قبل أن تنظر لأعلى نحو العمارة .. تبًا .. يمكنها أن تقسم من فعلها .. تنفست بعمق لتهدئ نفسها

"لا بأس يا شذى .. اصبري .. هانت وستنتقلين من هذه الجيرة الموبوءة"

تمتمت وهي تستدير لتشهق متفاجئة حين وجدته أمامها .. ابتسم بسخافة كأنما لم يفزعها بظهوره المفاجئ وقال

"يبدو أنّ الأولاد الأشقياء ثقبوا إطارات السيارة .. لا حول ولا قوة إلا بالله"

وأشار نحو سيارته القديمة

"تفضلي يا دكتورة .. سيارتي في الخدمة"

ابتسمت له ببرود وتراجعت مغمغمة

"شكرًا يا أبا عمر .. كلك ذوق .. تذكرت أنني نسيت شيئًا هامًا"

فتح فمه ليعترض لكنّها هتفت وهي تسرع نحو العمارة

"اذهب أنت .. سكة السلامة"

واختفت في الداخل سريعًا وهي تدعو الله أن يخلصها من كل هذا .. الرجال، كم تكرههم .. كائنات بغيضة .. تمتمت داخلها بحنق .. كل من قابلتهم يؤكدون لها هذا .. إنّهم أوغاد.

انتظرت حتى سمعت صوت سيارته تبتعد فزفرت بقوة وغادرت بعد ثوان .. تحركت بسرعة تقطع المسافة التي تفصلها عن الشارع الرئيسي حيث وقفت في انتظار سيارة أجرة تقلها .. وقفت لدقائق دون أن تجد واحدة ولم يلبث أن أطل أتوبيس نقل مقتربًا

"رائع .. يبدو أنّه لا مفر .. بماذا أدعو عليكم وبكم كل العبر؟"

تمتمت حانقة تدعو على من اضطرها لاستقلال المواصلات العامة .. توقفت الحافلة فأسرعت تقفز فيها واصطدمت بالزحام داخلها .. كادت تنزل لولا أن نهض أحد الركاب مفسحًا لها المكان فابتسمت شاكرة دون أن تنظر نحوه .. حسنًا فلتعترف .. بعض الرجال ما زالوا يتمتعون بالذوق .. قاومت حتى لا تنظر له بينما شيطانها يهمس بخبث أنّه يفعل هذا لنية أخرى .. هزت رأسها تطرد وسواساتها وعدلت بأصابع رشيقة الوشاح الحريري حول عنقها لتتسلل إليها رائحة عطر .. كيف لم تنتبه وهي ترتديه؟ .. لأنّها كانت متلهفة على المغادرة بسرعة بعد أن اتصلت مساعدتها وأخبرتها أنّها ستتأخر على المحل لظرف عائلي طارئ .. رائحة العطر الذي عطرت به روض الوشاح جعلها تهدأ فاسترخت في مقعدها متناسية كراهيتها لركوب هذه النوع من المواصلات.

***************

كان ضياء يشتم حظه حانقًا بينما يقف أمام سيارته المعطلة والتي أوقفها بمعجزة على جانب الطريق، حظه سيء هذا الصباح، بدايةً من إغلاقه المنبه واستغراقه في النوم ليستيقظ فزعًا على تأخر الوقت، مرورًا بمكالمة شقيقه الأكبر التي لامه فيها للمرة الألف على رفضه العودة إلى البلدة والرضوخ لقرار والده الصارم.

هل كونه الأصغر في هذه العائلة يبيح لهم معاملته كأنّه طفل لا يعرف مصلحته؟ لقد سئم حقًا. والده يصر على رسم مخطط حياته ويتوقع منه طاعته خطوة بخطوة، تخصص دراسته، عمله، والآن زواجه.

لا، لن يرجع وليضربوا رؤوسهم في أصلب حائط.

وها قد اكتمل يومه اللطيف بتعطل سيارته

"هذا ما كان ينقصني"

نظر في ساعته بنزق، يبدو أنّه سيتأخر مهما فعل. باءت محاولات إيقاف سيارة أجرة بالفشل، بينما بدأت الشمس تلسعه بحرارتها تذكره بمعاناته.

آه كم يكره الصيف.

تنهد حين لاحت حافلة ركاب وأسرع يشير إليها وقفز فيها، قطب وهو ينحشر وسط الركاب. هل يمكن أن يسوء يومه أكثر؟ علّق ذراعه ممسكًا بالحاجز الحديدي المعلق بمنتصف الحافلة محاولًا كتم أنفاسه

"تبًا، ما زلنا في الصباح يا بشر، الرحمة"

هذا سبب رئيسي من أسباب كراهيته للصيف، رائحة العرق. أنفه شديد الحساسية لأضعف الروائح وها هو سيقضي الدقائق الطويلة التي تفصله عن عمله يتعذب برائحة العرق والزحام وحر الصيف الذي تضاعف داخل الحافلة المزدحمة التي ما زال سائقها مصرًا على إضافة الركاب إليها، غير مقتنعٍ أنّها قد نالت كفايتها، يتوقف كل دقيقتين ليأخذ المزيد، الرحمة بحق الله.

كاد يصرخ فيه متوسلًا أن يتوقف بينما عقله يلومه، كان يجب أن يبقى في البيت، هل كان سيموت لو غاب يومًا؟ ألن ينتهي هذا الطريق؟

لم يعرف كم مضى عليه هكذا، يحاول قدر الإمكان كتم أنفه. كان يسند رأسه لذراعه المعلق مغمضًا حين تنبهت كل حواسه مع النسمة العطرة التي اخترقت أسوار الروائح المنفرة لتداعب أنفه بنعومة وتمحو كل دقائق المعاناة الماضية. اختفت كل الروائح وبقيت هي، أخذ نفسًا عميقًا وهو يفتح عينيه بحثًا عن مصدرها وعندها رآها.

خفق قلبه بقوة وعيناه تقعان عليها، ووجد نفسه يهمس بانبهار

"كيف يمكن أن يصبح اليوم فجأة أجمل ما يكون؟"

******************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف نوفيلا لو أنّها تغفر
لو أنّها تغفر

«أنا لم أخنكِ، لم أفعل» هتفها بألم يوازى ألمها الذي استشرى في روحه لترد بعينين اتسعتا ألمًا وجنونًا وهي تعاود هزه بقوة «لم تفعل؟ ماذا تسمي ما فعلته؟...

اقرأ المزيد