الفصل الثاني

حدق ضياء فيها مأخوذًا وهي تشق طريقها مقطبة، لاحظ ترددها عندما وجدت الزحام وشعر برغبتها اللحظية في النزول لولا أن أسرع أحدهم يترك لها مقعده. جلست بسرعة موجهة له ابتسامة شكر صغيرة، فرفرف قلبه بغباء لحركة شفتيها. ماذا دهاه؟ ألم ير فتيات في حياته؟ رأى الكثيرات وأجمل، في بلدته فتيات يفقنها جمالًا حتى مع خصلاتها البنية المائلة للشقرة وبشرتها البيضاء وعينيها بخضرتهما الداكنة. لم يلمحهما إلا لثوان قبل أن تخفضهما لكنّهما ساحرتان وفيهما شيء يجعله يشعر كما لو...

رائع، هل يتغزل في فتاة قابلها لتوه؟ ماذا دهاه؟ ربما هو تأثير الشمس الحامية التي تعرض لها قبل قليل.

قاوم النظر إليها وأشاح عينيه ليدرك بضيق أنّها لفتت نظر غيره، ماذا بهم؟ ألم يروا نساءً من قبل؟ ألم يسمعوا عن غض البصر في حياتهم؟

"يا لك من منافق"

همس لنفسه بينما قلبه يبرر له ويتوسله لو يلقي نظرة أخرى ودون أن يشعر رفع عينيه إليها، كانت تعدل الوشاح الوردي المحيط بعنقها، لمحها تقطب بدهشة وتميل لتتشممه قبل أن ترتسم على شفتيها ابتسامة لم ير مثلها.

شعر بركلة في معدته وانسحاب في أنفاسه وقلبه تراقص كالأبله قبل أن ينتحب معترضًا حين أسرعت تمحو ابتسامتها كأنما تنبهت لوجودها بين الناس فسارعت تحرمهم من ابتسامتها الملائكية. يحق لها، همس داخله بينما من أعماقه تصاعدت رغبة غير مفهومة في منع الآخرين من رؤيتها، في أن تكون ابتسامتها هذه له وحده.

تمام، لقد بات واثقًا أنّ شمس الصيف قد أثرت عليه.

أغمض عينيه لتنقله رائحة العطر إلى مكان آخر وارتسمت في مخيلته صورتها، تسير على شاطئ تهب نسماته لتداعب خصلاتها التي تفوح منها رائحة الفواكة ومزيج آخر مدهش من زيوت عطرية أخرى حار في تصنيفها، ترفع أصابعها الرشيقة لتزيح خصلاتها عن وجهها فيسرع هو ويزيحها بنفسه فتمنحه ابتسامتها النورانية ويدها الأخرى تحتضن كفه.

فتح عينيه مصدومًا من أفكاره

"رائع يا ضياء، استمر على هذا المنوال وستحصل على لقب أبله حتمًا"

عاد بنظره إليها وانقبض قلبه حين لمح تقطيبة انزعاج على وجهها بينما تتحرك بغير راحة في مقعدها ... تنبه بغضب أنّها ربما تتعرض للتحرش من أحدهم، فتحرك بتلقائية وحمائية ليخترق الأجساد التي تفصله عنها حين انقلب الوضع في ثانية وتوقف مكانه مصدومًا لا يفهم ماذا حدث.

صرخة ألم عالية اخترقت أذنيه وقلبت الحافلة رأسًا على عقب .. نظر للرجل الصارخ المتألم ليدرك أنّه لم يتوهم ما رآه.

في اللحظة التي اندفع إليها كانت هي قد فاض بها فنهضت في لحظة وقبل أن ينتبه أحد غرست مشرطًا تحمله في يد المتحرش بها.

"أنتِ مجنونة يا امرأة؟ .. اللعنة عليكِ"

صرخ الرجل وهو يمسك يده النازفة وتدخل أحدهم مستنكرًا

"لا حول ولا قوة إلا بالله ... كيف تتهجمين على خلق الله يا هذه؟"

أخرجت منديلًا من حقيبتها مسحت به الدم بقرف وردت ببرود

"وماذا كانت يدك تفعل في مقعدي يا محترم؟"

سرت الهمهمات المستنكرة وسط الركاب الذين رمق بعضهم الرجل بازدراء بينما وجه البعض الآخر نحوها نظرات تكذيب واتهام وهي تتابع

"لو كنت احتفظت بيدك لنفسك ما كنت اضطررت لتلويث مشرطي بدمك القذر"

اندفع نحوها صارخًا

"هل تتبلين عليّ يا امرأة؟ .. لم أر أوقح منكِ"

رفعت مشرطها في وجهه تمنعه الاقتراب

"إياك والاقتراب مني أيها القذر وإلا أقسم سأمزق وجهك إربًا"

التفت إليهم صائحًا

"إنّها كاذبة .. انظروا إليها .. إنّها تتبلى عليّ وتريد فقط لفت النظر لها"

هتف أحدهم مؤيدًا بوقاحة

"بالتأكيد .. انظروا لملابسها وشكلها .. مؤكد لبست هكذا دعوة منها لـ.."

لم يحتمل أكثر واندفع والغضب يهدر في دمه ليلكمه على فكه ويخرسه في اللحظة التي كانت على وشك الدفاع عن نفسها .. أمسك في خناق الشاب يهزه بعنف

"أيها الحقير .. هل تدعو نفسك رجلًا؟ .. ترى فتاة تتعرض لهذه السفالة وبدل أن تدافع عنها تقف مع الحقير الآخر؟"

قاومه الشاب هاتفًا

"وما شأنك أنت؟ .. هل اشتكت لك؟ .. هل كانت من بقية أهلك؟"

رفع قبضته ليعيد ضربه لولا أن اندفع الركاب يحولون بينهما وصرخ السائق من الأمام يأمرهم بالتوقف وإلا سيذهب بهم لقسم الشرطة بينما ضياء فقد أعصابه

"وهل يجب أن تكون من أهلي يا عديم الشرف والنخوة لأدافع عنها؟"

"يكفي يا أستاذ .. اتركه"

بحث بعينيه عن المتحرش ليكتشف أنّه استغل الفرصة وقفز من الحافلة قبل أن يتطور الوضع.

"إنّها السبب .. هي من دفعته لـ"

صرخ فيهم هادرًا

"اللعنة على تبريراتكم الوسخة .. لقد سمحتم للقذر بالهرب وتبررون له وساخته أيضًا"

بدأ الوضع يتصاعد بينما أوقف السائق الحافلة جانبًا وهو يواصل تهديداته وبدأ آخرون يوجهون اتهاماتهم لها لتدفعهم بقوة محاولة المغادرة وهي تهتف بغضب

"ستبقون جبناءً للأبد .. عندما تتعرض إحدى بناتكم أو نسائكم للتحرش ستعرفون جيداً أنّكم لستم رجالًا من الأساس"

اندفع أحدهم نحوها شاتمًا لكنّ ضياء أسرع يوقفه وشده من ياقته ليسقط فوق أحد الركاب واقترب الأمر من الشجار، وأسرعت هي نحو الباب .. لمحها من طرف عينه وقلبه انقبض بشعور سيء يشبه الفقد، فدفع أحد الممسكين به واندفع نحو الباب الذي قفزت منه دون أن تنتبه لاشتباك وشاحها به وانزلاقه من عنقها .. أسرع يمسك به قبل أن يطير وقفز خلفها هاتفًا

"انتظري يا آنسة"

سمع أحدهم من داخل الحافلة التي بدأت التحرك

"قل يا عم أنّك كنت تقوم بنمرة أمامها لكي تـ.."

المصطلح السوقي كان آخر ما سمعه وهو يعبر الطريق محاولًا اللحاق بها .. رأيهم كان آخر ما يهمه .. كل تركيزه كان على اللحاق بها قبل أن تختفي .. شيء يدفعه ألا يضيعها وقلبه المرتجف بقلق من تخيل الأمر أنبأه أنّ كل ما حدث معه هذا الصباح لم يكن صدفة .. كله كان مقدرًا ليراها .. لا يعرف السبب لكن فليؤجل التفكير في الأسباب إلى وقتٍ آخر .. حين يتأكد من معرفة من تكون وكيف يصل إليها.

لحق بها إلى الشارع الذي دخلته لتوها وتوقف لاهثًا ينظر وسطه وعيناه تمران على تقاطعاته مع الشوارع الأخرى .. اختفت .. لقد أضاعها.

عادت أشعة الشمس تلفحه بحرها لتؤكد له أنّ النسمة العطرة التي كان محظوظًا لتمنحه قليلًا من نفحتها الفردوسية تبخرت تاركة إياه يتلظى بِحر الصيف الذي يكرهه .. من جديد.

*******************

نفخت شذى بغيظ وهي تترجل من سيارة الأجرة التي وجدتها بعد عناء، لتصل أخيرًا إلى محل الزهور الذي يقع وسط منطقة راقية هادئة .. توقفت أمامه وهي تخرج مفاتيحها متمتمة

"اللعنة عليهم جميعًا .. الأوغاد"

لاحظت ارتجاف يدها فتوقفت لبرهة تتنفس بعمق لتنظم أنفاسها .. ما الذي يحدث معها من بداية اليوم؟ .. بدءًا من مقابلة جارها المستفز وحتى ما حدث في تلك الحافلة اللعينة.

"آخر مرة .. آخرة مرة يا شذى تركبين حافلة .. لا .. بل أي نوع من المواصلات العامة"

أخذت نفسًا أكثر عمقًا وأجبرت نفسها على الابتسام لتسرع بعدها وتفتح الواجهة الحديدية للمحل وترفعها لأعلى كاشفةً عن واجهته الزجاجية المزدانة بمختلف الزهور .. نظرة واحدة لزهورها الحبيبة وعاد الهدوء يتغلغل في روحها.

رفعت يدها بتلقائية لتلامس عنقها ليخفق قلبها بجزع حين لم تلامس الوشاح .. لا .. هذا وشاحها المفضل وهدية أختها في عيد ميلادها الأخير .. كيف فقدته؟ .. فكرت باختناق .. لا بد أنّه سقط منها أثناء نزولها من الحافلة ... عادت تشتمهم بينما تفتح الباب وتدلف للداخل .. بصعوبة حاولت أن تنسى ما حدث، ممتنة لتأخر رفيقتيها الذي جعل عبء المهام عليها .. هكذا ستغرق نفسها في العمل وتنسى كل السوء الذي حدث منذ الصباح.

الهواء البارد بفعل المكيف لطف من الحر الذي تشعر به، فيما أسرعت ترتدي مريولها وترفع شعرها في كعكة عملية وتباشر العمل .. لم تكد تنتهي من رص أواني الزهور أمام المحل ورشها ببخاخ الماء حتى توقفت سيارة توريد المشتل الذي تتعامل معها وابتسمت بترحيب للرجل الأربعيني الذي نزل منها

"مرحبًا يا سيد أمين"

ابتسم وهو يشير لعماله بتنزيل طلبية الزهور ونباتات الزينة وردد

"صباح الورد يا آنسة شذى .. كيف حالكِ اليوم؟"

"بخير شكرًا لك"

جاهدت حتى لا تتذكر مجددًا بينما تابع محركًا كفه أمام وجهه

"الجو حار جدًا رغم أننا ما زلنا في الصباح الباكر .. يبدو أنّ هذا الصيف سيكون أكثر حرًا من الفائت"

"يبدو هذا"

أجابته وهي تدعوه للدخول للمحل المكيف وانتبهت إلى نظراته المتفحصة وهو يدلف قبل أن يسألها

"أنتِ وحدكِ اليوم؟"

"آه .. حدث ظرف طارئ مع الفتاتين و"

قاطعها بلهفة صدمتها

"ماذا حدث؟ .. أرجو ألا يكون هناك مشكلة"

ضمت شفتيها المفتوحتين ثم أجابته بابتسامة هادئة

"إن شاء الله خير .. عامةً هما لن تتأخرا … آه ها هي روان"

دلفت الفتاة العشرينية وهي تلهث

"آسفة يا شذى .. لن تصدقي ما حدث معـ .."

قطعت جملتها حين انتبهت له وقالت بحرج

"سيد أمين .. مرحبًا .. اعذرني لم أنتبه لحضرتك"

"لا عليكِ آنسة روان .. إن شاء الله لا يكون قد حدثت معكما مشكلة .. و .. كيف حال مدام كريمة؟ .. لن تأتي اليوم؟"

رمقته شذى بحاجبين مرفوعين لرؤيتها لتعابيره المحرجة واللون الأحمر الذي تسلل لبشرته ومنعت لحيته القصيرة فضحه كليًا، بينما قاومت روان ابتسامة متسلية وهي تجيب

"إنّها بخير الحمد لله .. طفلتها توعكت قليلًا صباح اليوم واضطررنا لأخذها للمشفى"

هز رأسه بأسف

"شفاها الله .. أمر مؤسف .. وكيف هي الآن؟"

أومأت بامتنان

"هي بخير حمدًا لله، وقد عادت للبيت، وكريمة ستعتني بها"

ردد بعد لحظات

"أبلغيها تحياتي وتمنياتي للصغيرة بالشفاء"

"شكرًا لك سيد أمين"

قاطعه أحد العمال بعد أن انتهوا من تنزيل الصناديق

"كل شيء تمام يا ريس"

ردد مشيرًا له

"تمام اسبقني أنت"

والتفت إلى شذى ليتأكد معها على تمام الطلبية ويتفقان على الطلبية التالية، بينما أسرعت روان إلى الزهور تتفحصها وتبدأ تجهيزها للعرض، لتنتبه بعد قليل على صوته

"لا تنسي أن ترسلي سلامي لمدام كريمة وطفلتها يا آنسة روان"

ابتسمت له وهي ترفع رأسها عن الزهور التي تنسقها

"بالتأكيد، شكرًا لك يا أستاذ أمين"

وتابعتا معًا انصرافه لتضحك روان وقالت وهي ترفع وردة حمراء لأنفها بهيام

"محظوظة شقيقتي، كم أحسدها"

رفعت شذى أحد حاجبيها مرددة بحدة

"محظوظة؟ أين الحظ؟ المسكينة ارتبطت بأسوأ رجل في العالم وعانت الأمريّن لتحصل على الطلاق وفي النهاية رمى لها ابنتهما وتنصل من دفع مستحقاتها وحتى نفقة الصغيرة لا يدفعها"

زفرت بحرارة وقالت

"فليحترق طليقها الوغد في الجحيم"

وعادت تبتسم بهيام مشيرة بنظراتها للخارج

"كنت أقصد أن يقع في حبها رجل لطيف ومحترم مثل هذا"

وتنهدت وهي تحرك الوردة على خدها

"آه، متى سيرزقني الله حبًا مثله؟"

مطت شفتيها بنزق

"أنتِ تفوقين روض في خيالاتها الوردية وأحلامها الحمقاء"

ضحكت روان وهزت رأسها

"وأنتِ ستجلطينني يومًا بكل هذه السوداوية والواقعية داخلكِ"

رمقتها شذى بحنق وهي تغرس الزهور في الاسفنج المبتل وتنسقها معًا بأناقة، وروان تتابع

"أتعجب أنّكِ تعشقين الزهور رغم أفكاركِ المتطرفة هذه"

ابتعدت قليلًا تتأمل عملها المتقن وتناسق الألوان الذي أعاد سلامها النفسي وأخذت نفسًا محملًا بالشذى

"وهل يستلزم عشق الزهور أن أكون حمقاء رومانسية مثلكِ أنتِ وأختي الحالمة"

أجابت ضاحكة

"الأزهار دائمًا ترتبط بالعاطفة والسعادة"

تحركت نحو أوراق التغليف وضربت كتفها قائلة

"وهل أخبركِ أحدهم أنني مصنوعة من حجر صوان يا آنسة روان؟"

"حجر صوان يا آنسة روان .. تصلح مطلع قصيدة شعرية"

قالت ضاحكة تغيظها فهزت شذى رأسها

"لا فائدة منكِ"

وران الصمت قليلاً وهما تتابعان عملهما ولم تلبث شذى أن قالت وهي تنتهي من تغليف باقة الزهور

"لا تنسي أن تعدي باقة كبيرة من زهور البنفسج وتأخذيها معكِ لكريمة"

التفتت لها بدهشة فتنهدت مردفة بقلة حيلة

"إنّه طلب السيد أمين"

ابتسمت بتسلٍ

"ويعرف زهورها المفضلة أيضًا؟"

وعادت تتنهد بحالمية

"آه .. أخبرتكِ أنّها محظوظة .. اوعدنا يا رب"

لم تقاوم شذى ابتسامتها هذه المرة وهزت رأسها استسلامًا وهي تتناول مجموعة أزهار أخرى وتبدأ في قص أطرافها وتنسيقها، ودون أن تشعر عادت صورة عينين بلون الخضرة الفاتحة تقتحم مخيلتها، لتسرع بطردهما وتطرد معهما وجه صاحبهما الذي لا تعرف كيف بنظرة واحدة ارتسم بهذه الدقة في مخيلتها .. يا الله .. ماذا يحدث معها هذا الصباح؟

*****************

بعد شهرين

رتبت روض زجاجات زيوتها العطرية بحرص في الصناديق التي أعدتها لنقل محتويات مختبرها، استعدادًا لانتقالها وشذى إلى الشقة الجديدة التي كانت قد أخبرتها ببداية الشهر أنّها قد وجدتها وأكدت كثيرًا أنّها ستحب المنطقة فور رؤيتها.

تنهدت بحرارة وهي تنقل عينيها في غرفة مختبرها التي شهدت لسنوات محاولاتها وخطواتها المتخبطة في عالم العطور .. هذه الجدران شهدت سهرها ودراستها وتحسسها طريقها وسط آلاف الروائح تتعرف عليها وتسكن إليها .. تجعلها صديقتها.

مطت شفتيها بأسى .. من المؤسف أن تضطر للتخلي عن ذكرياتها وبيتها الحبيب بسبب بضع أناس أغبياء لكنّها ستفعل هذا من أجل أختها الحبيبة .. لا تحب رؤيتها تتأذى أكثر .. ومن يدري ربما كما قالت تكون هذه خطوة جيدة في حياتهما

يراودها هذا الإحساس مؤخرًا وقلما كذبتها أحاسيسها .. عندما تكون على وشك خوض تجربة مثيرة .. عندما يوشك أن يحدث شيء مهم تشعر به .. ذلك الإحساس الغامض .. تمامًا مثل ذلك اليوم .. تنهدت وعيناها تشردان بحنين .. ذلك الصباح عندما رأته على الشاطئ .. ظل ذلك الشعور يطاردها خلال الأيام التي قضتها في المدينة الساحلية مع جدتها وأختها .. وحين خرجت في ذلك الصباح الباكر وتوقفت على التلة الصخرية لتعانق الشمس والطبيعة ونسيم البحر كان شعورها ذاك يصبح أقوى وأقوى .. كانت تحاول التركيز على التقاط الروائح حولها .. تختزنها .. تَشِمُ بها روحها .. تحفظها كاسمها .. حينها وجدته هو .. أو هو وجدها.

لامست برقة زيوتها الحبيبة وهمست

"هل تُرانا نلتقي؟"

ما زالت تلوم نفسها كل يوم لأنّها هربت منه .. لم تحتمل حرجها وصدمتها بما فعلت.

شعرت بالحرارة تسري في خديها وهي تتذكر تصرفها المجنون ... ماذا ظنها؟ .. مؤكد اعتقدها مجنونة أو فتاة بلا أخلاق لكنّ الأمر كان خارجًا عن إراداتها .. كانت قبل قليل فقط تعانق روائح الطبيعة تبحث بينها عن نغمة جديدة لعطورها، حين وجدت نفسها تهوى فاقدة الزمان والمكان .. في غيمة وردية ورائحة لم تحلم يومًا بالحصول عليها … رائحته لم تكن كأي شيء عرفته .. آلاف الروائح الموشومة في روحها .. أصدقاؤها .. كلهم تراجعوا في ركنٍ منزوٍ من أعماقها مفسحين المجال لرائحته هو.

لم تشعر بنفسها وهي تلتصق به لتنهل من رائحته المميزة .. شعرت لحظتها أنّ هذه الرائحة بالذات هي ما كانت تبحث عنها خلال رحلة تبحرها في عوالم الروائح الساحرة .. عطره المميز الموحي بالقوة والأصالة ممتزجًا برائحة جسده الخاصة كان إكسيرًا خالصًا وعالمًا كاملًا قائمًا بذاته من العطر .. تعويذة عطرها التي بحثت عنها طويلًا .. أسطورتها .. نغمة عطرها الخاصة .. لم تستطع سوى الاقتراب أكثر .. حتى هتافه بها لم يجعلها تفق .. نظرت في عينيه السوداوين لتغرق أكثر ونغمات عطره جذبت روحها لتغرق فيه راضية .. كانت مسحورة وهي تميل إليه مجددًا وعيناها تتثاقلان وروحها تتفتح أكثر لتنهل بجشع .. كان جنونًا أفاقها منه حين هزها بقوة لتنتفض بصدمة على فعلتها عديمة الحياء مع رجل غريب تراه لأول مرة في حياتها.

كادت تموت خجلًا ولم تستطع سوى الهرب من أمامه مطلقة ساقيها للريح .. لم تظن نفسها قادرة على الجري بهذه السرعة لكنّها فعلتها يومها .. حملت سلة زهورها وهربت منه لكنّ وجهه وعينيه والأهم من هذا كله .. رائحته .. رافقوها في هربها وظلوا حتى اليوم في داخلها يلومونها ألف مرة على هربها .. لطالما تخيلت ورسمت عشرات الخيالات لما كان يمكن أن يحدث لو أنّها توقفت مع ندائه .. لو أنّها لم تجبن .. لو أنّها أطلت من خلف الصخرة التي اختبأت خلفها وتابعته وهو يبحث عنها قبل أن يلتقط الوردة التي سقطت منها .. آلاف الكلمات لا بل ربما ملايين .. تبادلتها معه في خيالها.

عادت تتنهد وهي تمسك قلادتها المميزة وتنسمت العبير عبر قنينيتها الصغيرة .. أخذت منها مئات المحاولات لتصنعها .. لتقترب منها قليلًا ... تصبر نفسها بها حتى تجده ذات يوم لكنّها لا تقارن به .. لقد فقدت عقلها حتمًا .. صار هوسًا لديها .. هل يسمح القدر لها بلقائه مجددًا؟ أم كانت مجرد صدفة ولن تتكرر؟ .. كانت فرصة من القدر لتجد تلك النغمة الساحرة وحسب؟ .. ربما .. قد تكون بالفعل مجرد خطوة مميزة في طريقها لتصبح العطارة التي تحلم أن تكونها يومًا .. لكن هو ... كم تتمنى رؤيته ولو مرة واحدة فقط.

"روض، هيه يا روضة. أين ذهبتِ يا فتاة؟"

انتفضت على صوت شذى وضمت القنينة لقلبها الذي تسارعت نبضاته والتفتت لأختها بارتباك

"شذى، نعم...أردتِ شيئًا؟"

ابتسمت شذى بتسلية وهي تلمح احمرار خديها

"أنعم الله عليكِ يا حبيبتي، أحدثكِ منذ دقيقة وأنتِ هائمة في عطركِ"

ونظرت ليدها الممسكة بالقنينة وأردفت

"لا أظن هيامكِ بالعطور وصل لهذه الدرجة، أعرف أنّكِ مجنونة بها لكن حقيقةً من يراكِ الآن سيقول شيئًا آخرًا"

اشتد احمرارها وقالت بتوتر

"شيئًا آخرًا؟ لا أفهم ماذا تقولين"

أخبرتها ضاحكة

"كنتِ تبدين كعاشقة مفتونة تنال قبلتها الأولى"

تراجعت شاهقة وخداها يشتعلان أكثر

"ماذا تقولين؟ رباه، لا أصدقكِ حقًا"

التسلية في عينيّ شذى جعلت قلبها يتخبط أكثر فهتفت بدفاع واه

"لا أصدق أنّكِ من تقول هذه الوقاحات. ماذا حدث لشذى آكلة الرجال؟"

مدت يدها تشعث شعرها بمرح

"مزاجي اليوم في أعلى حالته تفاؤلًا وسعادة، لذا أجد تصالحًا نفسيًا مع بعض الحقائق"

وتأملتها مليًا مثيرة ارتباكها أكثر ولوهلة شعرت روض أنّها مفضوحة وأنّ شذى تستطيع رؤية صورته في عينيها، وسمعتها تكمل بخبث

"مثلًا .. حقيقة أن أختي الصغيرة الحالمة واقعة في عشق أحدهم"

غمغمت بتحشرج ويداها تلملمان معداتها بتخبط

"لا أصدق حقًا أنّكِ من تتحدث، أنتِ تمزحين لإغاظتي"

ضربتها على ظهرها مرددة

"طبعًا أمزح، من هذا الوغد الذي سأسمح له بالاقتراب من صغيرتي؟"

اختلست النظر لها وهمست

"وهذا سبب أدعى لأخشى لقائه مرة أخرى"

سألتها مقطبة

"ماذا قلتِ؟"

"لا شيء"

أجابتها بتذمر لتردد شذى بإصرار

"كنتِ تهمسين بشيء، ماذا قلتِ؟"

التفت لها هاتفة بطفولية

"كنت أقول أنني أخشى العثور على فتى أحلامي لأنني أعرف من الآن ماذا سيكون مصيره بسببكِ"

رمقتها مطولًا فانقبض قلب روض خشيةً أن تكون جرحتها بطريقة ما لكنّها تنهدت براحة حين انفجرت شذى ضحكًا وغمزت لها

"لننتظر ونرى، لو عثرتِ عليه يومًا وأثبت لي أنّه جدير بكِ سأصرف نظرًا عن التخلص منه"

رمقتها بعينين متسعتين فعلت ضحكتها أكثر

"ولأنّ الرجال أوغاد والحقيقيون منهم أصبحوا عملة نادرة فيجب عليه أن يثبت أنّه يستحقكِ يا كنزي الصغير"

تمتمت من بين أسنانها

"هذا يعني أنني سأظل دون زواج طيلة عمري"

رمقتها بحنان واقتربت تضمها هامسة

"تعرفين أنني أحبكِ يا روض"

أومأت دون رد فتابعت شذى

"أعرف أنّكِ مختلفة عني .. أنتِ عاطفية وحالمة وأنا أخشى على قلبكِ هذا من أن ينكسر"

وشردت عيناها لسنوات بعيدة بأسى لتردف

"أنتِ تشبهينها كثيرًا يا روض .. كانت مثلكِ .. تملك قلبكِ وعاطفتكِ .. وقلبها لم يحتمل قسوة البشر .. أخشى عليكِ كثيرًا أن ينالكِ ما نالها .. أخشى أن يخدعكِ قلبكِ مثلها وتنكسرين .. أنتِ كل من بقى لي في هذه الدنيا"

واحتضنت وجهها بكفها متابعة بألم

"لا أريد أن أخسركِ مثلها .. سامحيني .. أعرف أنني أظلمكِ بما"

قاطعتها وهي تحتضنها بقوة

"شذى .. أنا أفهم ما تقولين جيدًا .. ربما أشبه أمي كما تقولين لكن أنا قوية وأنتِ من ربيتِني .. لذا لن أضعف يومًا مثلها ليس وأنا أعلم أنّكِ موجودة وفي ظهري دائمًا"

بادلتها عناقها بحب وهي تمسح على ظهرها قبل أن تتبعد روض هاتفة بمرح

"ثم لماذا نستبق الأحداث أساسًا؟ .. هل رأيتِ فتى أحلامي واقفًا على الباب يحاول سرقتي منكِ؟"

ابتسمت بشحوب فغمزت لها روض

"أعدكِ عندما يظهر أنا بنفسي سأقدمه لكِ لتفعلي به ما تريدين وتعرضينه لاختباراتكِ المستحيلة حتى تطمئني"

لم تقاوم ضحكتها ثم قالت

"تعالي يا بكاشة .. العشاء جاهز .. هيا لنأكل وبعدها عودي لتكملي لم أغراضكِ"

وتحركت خطوة وعادت تلتفت غامزة لها

"أو لتختلي مع عشقكِ الذي كنتِ هائمة معه قبل دخولي"

هتفت اسمها واندفعت لتضربها فتفادتها شذى وخرجت .. لحقتها هي بعد أن ألقت نظرة هائمة على قلادتها العطرية وهمست

"أعرف أنني سألقاك حتمًا .. أشعر بهذا"

وهمس قلبها مؤكدًا وداعيًا أن يكون هذا قريبًا.

************************

"انتبه .. هذه الصناديق بها أشياء حساسة قابلة للكسر"

هتفت روض وهي تراقب بقلب مرتجف عملية إنزال أثاثهما، وحاجياتهما .. كانت قد حرصت على نقل معدات مختبرها الثمينة بنفسها بكل حذر

"لا تقلقي يا روض .. لن ينكسر شيء"

أخبرتها شذى بهدوء بينما تتقدم نحو مدخل العمارة .. رفعت هي رأسها تنظر لأعلى ثم تطلعت للشارع الهادئ .. حسنًا .. المكان لطيف ومريح للأعصاب .. هي تشعر براحة نفسية من الآن .. دارت عيناها على الأشجار المزروعة على جانبي الشارع .. يبدو أنّها ستحب المكان كثيرًا .. أسرعت تحمل حقيبتيّ ملابسها وتلحق بأختها .. وصلت للطابق المنشود وهي تلهث وضحكت شذى ما أن رأتها

"أخبرتكِ أن تتركي كل شيء للعمال"

هتفت بحنق

"يكفي أنني تركتهم يحملون صغاري والله أعلم ماذا حل بهم"

انتبهت شذى للنظرات التي تبادلها بعض العمال وهم يسمعون كلماتها وقاومت ضحكتها بصعوبة ومالت تهمس في أذنها

"انتبهي لكلامكِ حبيبتي … لا أريدهم أن يظنوا أنّكِ مجنونة ويهربوا بجلودهم"

زفرت بقوة ونظرت للشقة التي أشرفت شذى معظم الوقت على نقل الأثاث إليها وترتيبها مع صديقتها بينما انشغلت هي في ترتيب أشيائهما الخاصة التي ينتهون من نقلها اليوم.

"إذن أين غرفة مختبري؟"

سألت شذى بترقب، فابتسمت بحنان وأشارت تجاه إحدى الغرف

"رأيت أن هذه الأنسب .. اذهبي إليها وإن لم تعجبكِ انتقي واحدة من الأخريتين"

أسرعت إليها وتفحصتها لتبتسم وهي تتخيل شكلها بعد رص الأرفف وترتيبها

"هه ما رأيكِ؟ .. أعجبتكِ؟"

التفتت هاتفة بسعادة

"بالتأكيد .. إنّها رائعة وأكبر حتى من السابقة"

ربتت على خدها وقالت

"بالتوفيق حبيبتي"

وتحركت لتشرف على العمال مردفة

"عندما نرتاح ونتناول الغداء نبدأ في تجهيزها سويًا، تمام؟"

"تمام يا أفندم"

قالت بمرح وهي ترفع يدها بتحية عسكرية، فابتسمت شذى بقلة حيلة ثم تركتها .. عادت روض تدور حول نفسها وأسرعت تفتح النافذة تسمح للهواء النقي بالدخول وابتسمت بسعادة وهي تجدها مطلة على حديقة امتلأت بالزهور والشجيرات الخضراء المشذبة بعناية .. همست بحبور

"رائع .. لقد أحببت هذه الشقة بالفعل"

تحركت بسرعة وقد انتابها الحماس وقررت ألا تنتظر أن ترتاح أو تأكل .. ستبدأ من الآن في تنظيف الغرفة وإعداد المختبر .. تشتاق لعطورها ومستحضراتها الحبيبة ومن الآن عقلها متحمس لعشرات الأفكار التي تتقافز في مخيلتها وستكون أكثر من سعيدة لتضعها محل التنفيذ.

************************

ارتمت شذى على الفراش متنهدة بقوة وكل خلية من جسدها تصرخ

"أخيرًا .. ظننت أننا لن ننتهي"

"وأنا أيضًا .. آه … جسدي كله يؤلمني"

ضحكت روض وهي ترتمي جانبها وحانت منها نظرة لوجهها فارتفعت ضحكتها أكثر ومدت يدها تمسح أثر غبار عن بشرتها

"نحتاج لننقع أنفسنا في الماء والصابون لفترة طويلة لنتأكد من إزالة كل هذه الأوساخ"

رفعت شذى يدها تمسح خدها ضاحكة ونظرتا لبعضهما مطولاً بعبث، قبل أن تنهضا فجأة وصرخت روض وهي تجري إلى الحمام

"أنا سأسبقكِ"

تسابقتا إليه وهما تتدافعان وهتفت روض وهي تغلق الباب خلفها

"لقد فزت"

ضربت شذى الباب هاتفة بغيظ مفتعل

"ابحثي عن أحد يحضر لكِ ثيابكِ إذن"

أتاها صوتها ممتزجًا بصوت الماء يملأ حوض الاستحمام

"هكذا إذن .. سأخرج عارية ولن أهتم"

"أتحداكِ أن تفعليها"

هتفت روض بعد ثوان

"رائع .. أنتِ لم تنسي وضع غسول الاستحمام والشامبو .. أحبكِ وردتي"

ولان صوتها بنعومة واستعطاف

"أكملي جميلك، وكوني أختًا عطوفة وأحضري ثيابي وأعدكِ لن أتأخر"

تنهدت مرددة بقلة حيلة

"حاضر يا شقية .. سأحضرها لكِ .. لكن هذا فقط لأنني طيبة"

"أنتِ أطيب وأحلى أخت في العالم"

هزت رأسها مبتسمة وأسرعت تحضر لها ثيابها ووضعتها على مقعد قرب الباب

"الثياب أمام الباب يا روض"

هتفت بمرح

"شكرًا يا زوزو .. نردها لكِ في الأفراح"

ضحكت بيأس منها وتحركت لتجهز ثيابها هي الأخرى وقد بدأ العرق يشعرها بالحكة .. رمقت باب الحمام بنزق .. لماذا لم تصبر حتى تجد شقة بحمامين؟ .. اتجهت لغرفتها وما كادت تنتهي من تحضير ملابسها حتى ارتفع رنين جرس الباب .. قطبت وهي تنظر لساعة الحائط التي أشارت للتاسعة مساءً.

من سيأتيهما الآن؟ .. لقد انتقلتا لتوهما ولا أحد يعرفهما .. زفرت بقوة .. هل ستبدأ المضايقات هنا أيضًا؟ .. ألقت نظرة على وجهها وأسرعت للمطبخ تغسله بالماء سريعًا تزيل بقايا الأتربة بينما الجرس يرن.

تحركت بهدوء شديد تجفف وجهها على أمل أن يمل الطارق ويرحل، لكنه بدا مصرًا فتأففت بحنق واندفعت إلى الباب .. ألقت نظرة عبر العين السحرية ليرتفع حاجباها حين رأت امرأة كبير في السن وبجوارها شابة أصغر سنًا، كانت تميل عليها تهمس لها بشيء وتحاول جذبها ففهمت أنها تحاول إقناعها بالانصراف، لكن المرأة أصرت ونهرتها بحدة .. تراجعت شذى خطوة وأخذت نفسًا عميقًا قبل أن تفتح الباب .. قاومت لترسم ابتسامة مرحبة وهي تنقل بصرها بينهما بينما هتفت المرأة التي قدرتها في الخمسينيات من عمرها

"بسم الله تبارك الخلاق"

بهتت ابتسامتها ولمحت الشابة تضع يدها على فمها بحرج بينما المرأة أسرعت تتقدم نحوها

"أهلًا وسهلًا يا بنتي .. أهلًا وسهلًا .. عمارتنا أنارت اليوم"

وقبل أن تفهم شذى ما يحدث وجدت نفسها في حضن المرأة الغريبة التي قبلت خدها أربع قبلات متتالية قبل أن تهاجم الآخر بنفس العدد مواصلة

"بسم الله ما شاء الله"

تقدمت الشابة ومالت عليها هامسة بتوسل

"خالتي .. أرجوك توقفي عما"

قاطعتها بتلويحة من كفها

"اصمتي لحظة يا رباب"

وعادت تلتفت إلى شذى المصدومة من الهجوم الذي تلقته

"أنرتِ منطقتنا حبيبتي .. أنا خالتكِ أم حسن"

وأشارت لباب الشقة المقابلة

"جارتكم في هذه الشقة"

هزت رأسها بغباء، لتنتبه على صوت المدعوة رباب تخبرها

"أعتذر كثيرًا منكِ، لكن خالتي أصرت بشدة أن تأتي لترحب بكم في أول يوم"

هتفت أم حسن بابتسامة واسعة

"طبعًا طبعًا .. كان يجب أن نزوركم ونطمئن إن كنتم تريدون أي مساعدة"

هزت رأسها متمتة

"شكرًا لذوقكِ خالتي"

انتبهت على نظراتها المختلسة للباب فتراجعت مستدركة

"آه يا خبر .. آسفة لم أدعوكما للدخول"

فتحت رباب فمها لتعتذر وهي تمد يدها لتسحب خالتها التي أسرعت دون انتظار إعادة تفكير وتجاوزت شذى المندهشة لتدخل.. تقدمت رباب بوجه محمر وغمغمت بحرج

"أعتذر بشدة"

ابتسمت لها بدبلوماسية وأشارت لها بالدخول .. لحقت بهما لتتقدمهما نحو غرفة الجلوس وأم حسن تدير عينيها في المكان بتقييم

"جميل جدًا .. ما شاء الله قمتم بعمل رائع خلال وقت قصير"

تنحنحت شذى وهي تعدل ثيابها بارتباك

"في الواقع انتهينا للتو من ترتيب الشقة"

ابتسمت لها ولم تفتها نظراتها المقيمة فأسرعت تغمغم

"سأذهب لأعد لكما بعض الـ"

قاطعتها برفق

"شكرًا يا ابنتي .. لا داعي"

اختلست شذى النظر للخارج تدعو أن تنتهي روض وتأتي بسرعة لتخلصها .. سمعت أم حسن تخبرها

"كان بودي لو استطعت القدوم لمساعدتكِ في الفرش لكن مفاصلي لا تساعدني في الحركة ورباب وصلت قبل قليل"

أسرعت تخبرها شاكرة

"شكرًا يا خالتي أم حسن .. كلكِ ذوق"

اتسعت ابتسامتها وهي ترد

"خالتي أم حسن طالعة من فمكِ مثل العسل .. يسلم لسانكِ الذي ينقط شهدًا مثلكِ"

لمحت رباب تغطي عينيها بيدها في حرج فابتسمت مرغمة .. بهتت ابتسامتها عندما سألتها أم حسن بغتةً

"لم أر والدتكِ للأسف أثناء نقل الأثاث .. هل هي"

قاطعتها بجمود

"أمي متوفية"

عضت شفتها بأسف بينما شحب وجه رباب ورمقت خالتها بلوم لتهتف الأخيرة

"رحمها الله .. العمر الطويل لكِ يا حبيبتي"

"شكرًا يا خالة"

تمتمت بخفوت قبل أن تسألها أم حسن بفضول

"إذن لا بد أن الفتاة الحلوة التي كانت برفقتكِ هي .."

ابتسمت مكملة جملتها المبتورة

"إنّها أختي الصغيرة وهي .."

انقطعت كلماتها عندما دوى صوت روض عاليًا واحمر وجهها وهي تسمعها تغني بشقاوة

"يا خارجة من باب الحمام، وكل خد عليه خوخة"

واقترب صوتها من مجلسهم مواصلًا بتمايع

"خوخة .. خوخة .. خوخـ …"

مشهد الاثنتين كان مثيرًا للضحك لكنّها قاومت ضحكتها والتفتت لأختها التي ابتعلت لسانها، ووجهها بالكاد يظهر من خلف المنشفة التي كانت تجفف بها شعرها .. رمقتها روض بنظرة قاتلة فأسرعت إليها تشدها من ذراعها

"لدينا ضيوف .. لماذا لم تنبهيني يا حمقاء؟"

تمتمت من بين أسنانها، ثم التفتت بابتسامة واسعة جعلتها تبدو كالمهرجين، وتحني رأسها بتحية يابانية

"أهلًا .. أهلًا .. آنستمونا والله"

وعادت تهمس في أذن أختها بنزق

"هل هذه طريقة تنتقمين بها مني شذى؟ .. لن أنسى لكِ هذا الموقف"

التفتت شذى لهما بابتسامة محرجة

"أعتذر منكما .. سنعود حالًا"

وأسرعت تشد روض التي منحتهما ابتسامتها البلهاء مواصلة انحناءتها الغريبة، لتضحك رباب ما أن اختفتا وقالت

"دمها خفيف"

مطت أم حسن شفتيها، قبل أن تبتسم بإعجاب ومالت عليها تهمس

"لكن أختها الكبيرة ما شاء الله .. جمالها لا يعلى عليه .. تقول للقمر قم لأقعد مكانك"

زفرت رباب بحنق ثم همست

"خالتي .. اقبل يديكِ يكفي إحراجًا مع الناس .. ستجعلينهما تهربان من الغد"

قرصت ذراعها متمتمة

"اصمتي أنتِ .. أنتِ لا تفهمين شيئًا .. لقد وجدت من أبحث عنها ولن أدعها تفلت"

ضربت رباب بكفها على فمها تغطيه بنفاذ صبر

"رحمتك يا رب .. خالتي والله أنا أشفق على من سيوقعها سوء حظها مع ابنكِ"

رمقتها شذرًا ثم قالت بحبور

"أنا متأكدة أنّها ستنال إعجابه .. لقد وعدني وهذه المرة لن يستطيع أن يرفض .. سيحبها"

لوت رباب فمها وغمغمت تحدث نفسها

"كان الله في عونك يا حسن يا ابن أم حسن"

حدجتها بعينين ضيقتين

"هل تقولين شيئًا يا رباب؟"

أجابتها بسرعة

"كل خير إن شاء الله .. كل خير"

رددت خالتها بعد ثوان

"هل ذهبتا لتناما أم ماذا؟"

عادت رباب تهمس لنفسها

"والله لا ألومهما أبدًا"

بينما في الداخل هتفت روض ضاحكة وهي تلقي المنشفة

"ما شاء الله .. لم نكمل بضع ساعات وبدأت البشائر"

زفرت شذى وهي تلتقط ثيابها النظيفة

"روض .. حلي عني هذه الساعة .. لا أحتمل خفة دمكِ .. ألا يكفي أنني فتحت لهما بهذا المنظر؟"

ضحكت أكثر وهي تصفف شعرها القصير بسرعة

"يا حبيبتي أنتِ فتنة متحركة .. لو كنتِ ترتدين خيشًا أو كنتِ ملطخة بالطين ستخطفين الأنظار وسينسون أي شيء سوى جمالكِ"

رمقتها بنظرة ضيقة قبل أن تهتف

"اذهبي لتضيفيهما بسرعة .. لا يصج أن نتركهما وحدهما هكذا"

زمت شفتيها ثم تمتمت

"حاضر .. من الجيد أننا اشترينا علبة حلوى وشكولاتة قبل حضورنا .. ستفي بالغرض"

تابعتها شذى حتى اختفت وأسرعت تبدل ثيابها وهي تدعو الله ألا تطول زيارتهما حتى تحصل على حمام دافئ ومنعش ثم تغرق في النوم .. رباه .. هذه أول ليلة لهما في الشقة وها هي البداية.

***********************

"أنرتمانا والله يا خالتي"

رددت روض بالعبارة للمرة العاشرة تقريبًا ولمحت ابتسامة رباب المكبوتة.

"النور نوركِ يا بنتي .. لم تخبريني اسمكِ يا حبيبتي"

منحتها ابتسامة رقيقة وقدمت لها فنجان الشاي الذي صنعته خصيصًا لها بعد أن امتنعت عن الحلوى لمرضها

"أنا روض يا خالتي .. يمكنكِ مناداتي روضة إن أحببتِ"

هزت رأسها ثم مالت تسألها بلهفة

"وأختكِ الجميلة؟"

"إنّها شذى"

أجابتها بابتسامة قاومت حتى لا تظهر عبثها بعد أن خمنت سبب اهتمام السيدة بأختها التي أتت على سيرتها كالقطط فنهضت روض هاتفة

"ها هي أختي الجميلة أتت بنفسها .. تعالي حبيبتي .. تعالي واجلسي هنا بجوار خالتكِ أم حسن"

حدجتها بنظرة قاتلة فغمزت لها خُفية وضحكت وهي تجلس على مسند المقعد بجوارها والتفتت لأم حسن بمرح

"أنرتِنا والله يا خالتي أم حسن"

وهذه المرة لم تكتم رباب ضحكتها وانفجرت ضاحكة ولم توقفها حتى وكزة خالتها لها، وداخلها راودها إحساس أن تلك الساحرة الشقية ربما سيكون لها شأن مع خالتها وربما ابن خالتها العزيز حين يعود من سفره.

*************************** 

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف رواية قلوبٌ عصيّة
قلوبٌ عصيّة

يقولون أن قلب السراي يقبع تحت لعنة لعنة تحكمه منذ سنين بعيدة مرت أجيال وما زال قلب السراي عصيًا… محكومًا بالحديد والنار، مقيدًا بالسلاسل، ولن يقبل...

اقرأ المزيد