الفصل السابع

كل ما تقاومه يستمر!

أين سمعت هذا أو قرأته من قبل؟ 

ربما لم تصدق وقتها لكن يبدو أنّها مؤخرًا بدأت توقن بصحة المقولة، وإلا فلماذا يستمر في مطاردتها أكثر من تقاومه وترفض رؤيته أو حتى سماع اسمه؟

ألا يكفي عقلها وألاعيبه التي يتحايل بها عليها فيعيد ذكرياتهما معًا في صحوها ونومها؟ لتأتي الآن أسرتها العزيزة وتزيد وضعها سوءًا.

هل اتفق الجميع عليها؟

فكرت بغيظ بينما تنظر لشقيقتها التي لا تراها ولا تدرك كيف تنظر لها بغيظ لكن يبدو أنّها ليست في حاجة لعينيها فبصيرتها كما يبدو ترى جيدًا

"لا تنظري لي هكذا"

تمتمت سمراء وقد استشعرت خناجر نظراتها فقطبت بحنق
"هل أنتِ متأكدة أنّكِ لا ترين؟"

ضحكت شقيقتها بتسامح
"لست في حاجة لعينيّ لأدرك أنّكِ توجيهن لي سهام نظراتك دون شفقة"
تنهدت مطولًا بيأس لتتابع سمراء بمهادنة 

"ما الذي يغضب في كلامي يا رواء؟ دعي غضبكِ وانفعالاتكِ جانبًا ولنتحدث بهدوء"

"لا تستخدمي معي بهذه النبرة، لستُ طفلة"

تمتمت بتذمر فابتسمت شقيقتها

"لكن الأطفال هم من يتصرفون بهذا العناد، اثبتي لي أنّكِ لستِ طفلة ولنتناقش بنضج"

"سمراء بالله عليكِ، لا تضغطي عليّ أكثر… لا يوجد شيء لنتناقش فيه، هذا الموضوع منتهي… لماذا لا تفهمون هذا؟"
لم يبد على شقيقتها الضيق من أسلوبها الانفعالي وردت برفق شديد
"هل تعتقدين أنني لا أتفهمكِ يا رواء؟ أعرف صعوبة ما حدث في الماضي وأنَكِ لا تريدين الخوض في هذا من جديد لكن… ما المشكلة أن تمنحيه فرصة؟"
وأسرعت تواصل كأنّها استشعرت اعتراضها الوشيك
"لا أقول فرصة لتعودا معًا… على الأقل اسمعي ما لديه… الرجل يكاد يتوسلنا حرفيًا ليتحدث معكِ أو مع أبي… صدقيني لقد أشفقت عليه"

هتفت بحدة واستمرار الحديث عنه يوشك أن يعصف بأعصابها
"اطمئني، ليس في حاجة لشفقتك… اتركيه يوم أو اثنين وسيتوقف عن محاولاته العقيمة ويدرك أن ما فات مات وسيذهب من نفسه ويغادر حياتي دون رجعة"

"هل تظنين هذا؟"

نبرة سمراء كانت تقريرًا ويقينًا، تحسست عنقها اختناقًا بينما صوت خبيث في داخلها يخبرها أنّ هذا ما تتوقعه… ألا تعرف سالم جيدًا؟

ألا تتذكر مدى عناده وتهوره؟

اختنقت أكثر وعقلها يأخذها إلى أسود ذكرياتها معه، تلك التي دفعت فيها ثمن طبيعته تلك. 

لن تحتمل لحظة أخرى إن استمر حديثهما وستنهار حتمًا.

أسرعت تقطع الحديث بنبرة لا تعطي سمراء مجالًا للاستمرار فيه
"يكفي، لا أريد الكلام مرة أخرى في هذا الموضوع"

صمتت سمراء وأطرقت بملامح باهتة فندمت رواء سريعًا واقتربت منها برفق وضمتها هامسة 

"آسفة، لكن أرجوكِ.. لا تكوني أنتِ الأخرى ضدي"

ران الصمت بينهما قبل أن تربت سمراء عليها برقة
"أنا أيضًا آسفة، لم أكن أفكر إلا في مصلحتك.. أنا لا أريد إلا سعادتكِ"

"أعرف"

افترقا بعد ثوان وابتسمت لها سمراء
"أمي على وشك الوصول، اذهبي أنتِ الآن وأنا سأرتاح قليلًا"

أومأت مربتة على يدها قبل أن تساعدها في الاستلقاء وبقيت معها لبرهة حتى اطمأنت عليها ثم غادرت. تركت المشفى بقلب ثقيل واستقلت بشرود أول سيارة أجرة، كانت غارقة في أفكارها حتى انتبهت مع صوت السائق
"الطريق مغلق من هذا الاتجاه يا آنسة، سنضطر إلى الذهاب من اتجاه…"

أومأت دون أن تركز في كلماته بينما ترى الزحام الكثيف في المقدمة، استرخت في مقعدها لبعض الوقت قبل أن تنتبه فجأة لمعالم الطريق وتسارعت نبضاتها بقوة وهي تدرك أين هي.

ألم تقل أن كل شيء ضدها؟

ليس إلى هذا المكان بالذات.

كم مرة تجنبت هذه المنطقة، كم مرة خشيت مجرد المرور عليها.

شعرت بحرقة الدموع في عينيها بينما السائق يقترب بالسيارة من الحديقة التي اعتادت الذهاب إليها بعد الجامعة،

ها هي الشجرة التي كانت عزيزة على قلبها وزاد حبها لها حين اعترف سالم لها بحبه هناك أول مرة. 

مكانها العزيز وشجرتها الأثيرة، 

شيء آخر من جملة ما فقدته بسبب سالم.

سبب آخر لتكرهه وتقاوم محاولاته للقرب من جديد.

ليست على استعداد لمزيد من الخسائر، هي لم تغفر الخسائر الماضية لتضيف جديد إلى قائمتها.

لكن كيف تقاوم وكل ما تقاومه حتمًا يستمر،
كيف؟

*****************

 

تبدو الحياة باهتة الألوان أو مشرقتها باختلاف العدسة التي تراها عبرها،

وعدسة روحه كانت معتمة، أكثر من أي وقت مضى في حياته.

والعتمة طغت عبرها لتجعل ما حوله مطفيًا وغائمًا.

المشكلة أنّه في هذه اللحظة تحديدًا لا يبالي… 

ماذا سيفرق معه؟ لماذا يتمرد وكل شيء غال على المحك؟

فليرضى برمادية حياته ويتأقلم، 

ألم يقل يومًا أنّه يعشق الرمادي أكثر من أي لون؟

منذ رأى عينيها ووقع في عشقها.

فليرضى بهذه الذكرى منها على الأقل.

 

تنهد بحرارة وهو يغلق صندوق ذكرى لُقياها الأولى قبل أن تهزمه فتزيده بؤسًا وألمًا، نزل السلالم بشرود وهم فلم ينتبه لأمه حتى سمعها تناديه وهي تقترب منه بقلق

"بني أنت هنا؟ تصورت أنّك ذهبت للعمل"

"كنت متعبًا"   

أسرعت تتحسس جبينه

"أنت مريض؟ هل تشعر بأي"

قاطعها ممسكاً كفها بيده السليمة وابتسم بشحوب

"أنا بخير، لا تقلقي"

فتحت فمها لترد حين لمحت يده المضمدة

"ماذا حدث؟ هل جرحتِ يدك؟ ما…"

قاطعها بسرعة مطمئنًا إياها 

"مجرد جرح يا حبيبتي، لا تقلقي"

وردًا على نظراتها المتشككة بمرح مفتعل

"هل رأيتِ عفريتتي الشقية؟ لم تأت لتلقي تحية الصباح عليّ"

أجابته وعيناها ما زالتا تلمعان بقلقها عليه

"مشغولة مع دميتها الجديدة التي أحضرها لها إيهاب"

غامت عيناه قليلاً وسألها

"هل غادر؟"

"وعدني أنّه سيعود بعد العمل، لا أعرف متى سيرتاح هذا الفتى"

 

راحة؟! الراحة ترف ليس لهم.

قاوم مشاعره وبؤسه حتى لا يقلقها عليه أكثر وكاد يخبرها شيئًا حين سمع صوت ابنته تناديه، تبخر شيء من اختناقه 

"أميرتي الحلوة"

همس وهو يلتقطه، يحضتنها بقوة 

"أنا حزين لأنّكِ لم تأتِ لتوقظيني بنفسكِ"

تعلقت بعنقه مجيبة

"ماما قالت أنّك متعب وتريد النوم قليلاً"

انتبه لتارا الواقفة بالقرب لا تحاول النظر إليه، واستعاد ما حدث... لقد جرحها مجددًا، لم يقصد تذكيرها بجرمها في حقهما ولا سماعها تعتذر عن ذنب زاد من تورطهما معًا.

أشاح بصره عنها في اللحظة التي ترددت خطوات مندفعة ثم شهقة مصدومة من أمه. التفت ليجد سالم يدخل بوجه غاضب مشعث الهيئة وخلفه يوسف.

اندفعت أمهم إليهما بجزع

"سالم، ماذا حدث؟ يوسف... ماذا بكما؟"

اختلس يوسف النظر بتردد لسالم الذي سألها

"أين جدي؟"

"في مكتبه... بني، ماذا..."

قاطعها مبتعدًا بخطوات سريعة

"ستعرفين كل شيء يا أمي"

توقف ناظرًا نحوه هو ولي لي ثم التفت إلى تارا يخبرها بهدوء

"زوجة أخي، من فضلك خذي لي لي إلى غرفتها"

التفتت نحوه بنظرات مترددة قلقة قبل أن تقترب لتأخذ ابنتهما متمتمة بحنان

"تعالي حبيبتي، لنذهب حتى ينتهي الكبار من حديثهم"

نقلت لي لي عينيها بينهم بخوف قبل أن تومئ، حملتها تارا وصعدت إلى جناحها، بينما أسرعت أمه تتبع سالم

"بني، توقف وأخبرني ماذا يحدث. لماذا تبدو هكذا و"

"ليس الآن يا أمي"

توقفت مكانها بينما صعد سالم سريعًا فالتفتت تنظر إليه بعجز، وقطب هو قلقًا 

"ما الذي يحدث؟ ما هذه الجلبة؟"

التفت بضيق إلى جده الذي خرج من مكتبه على الأصوات وسمعه يسأل يوسف.

"ما الذي حصل؟"

رد يوسف مرغمًا حين أعاد جدهما السؤال بصرامة

"سالم عثر على ذلك الرجل"

ضاقت عيناه بتوجس ليكمل يوسف بمقت 

"ذلك الحقير الذي نفذ أمرك وآذى ابنتك التي كان من المفترض أن تحميها أنت من أي أذى"

هتف اسمه بغضب شديد، فأشاح يوسف وجهه بغضب مكبوت، فتحرك هو نحوه مرددًا بسخرية 

"صحيح، كيف تجرؤ يا يوسف وتقول رأيك أمام سالم باشا؟ عليك أن تبتلع حذاءك وتصمت كأي جماد في هذا البيت"

رد نظرات جده المحذرة بأخرى جامدة قبل أن يشيح وجهه ينظر حيث اختفى سالم بترقب قلِق.

*********************

قطع سالم خطواته والغضب يتقافز داخله يريد التحرر، بالكاد استطاع لجمه قبل أن يقتل ذلك الرجل بيديه وساعده تدخل يوسف.

وقف أمام باب فلك مترددًا يتساءل إن كان خطأ ما سيفعله، لكنّه عاد يذكر نفسه بوعده لها.

"فلك هذا أنا سالم، هل يمكنني الدخول؟"

انتظر لثوان قبل أن يفتح الباب برفق

"لوكا، سوف أدخل"

انقبض قلبه عندما وجد سريرها فارغًا وبحث بعينيه عنها ليجدها تجلس في الزاوية الضيقة بين الفراش والحائط تضم ساقيها إلى صدرها وتحتضنهما بركبتيها.

هتف اسمها وهو يندفع ليركع جوارها هاتفًا بجزع

"لوكا، أنت بخير؟"

قابله ذلك الفراغ في عينيها، لماذا عادت لشرودها مرة أخرى؟ ما صدق أنها بدأت تتجاوب معه.

احتضن وجهها وشدها لصدره

"ﻻ تخافي، أنا هنا، لا شيء سيؤذيكِ بعد الآن"

شعر بها تتململ بعد لحظات رفعت بعدها كفيها تتشبث به فضمها 

"لقد وعدتكِ ، أخبرتكِ أنني سآتيك بحقكِ"

وأبعدها ينظر لعينيها اللتين عادتا للواقع وبدأت الدموع تغزوهما فهز رأسه نفيًا ومال يقبل جبينها

"ﻻ تبكي بعد الآن، لا تبكي"

تحرك رافعًا إياها معه وذراعه تحيطها بحنان

"والآن تعالي معي قليلًا... ﻻ تخافي، ثقي بي"

تحركت مستندة إليه، وضعفها جعل قلبه يتمزق أكثر وغضبه يشتعل أكثر وأكثر. 

حين وصلا السلالم توقفت بخوف فشجعها

"هيا يا لوكا، لا تخافي"

لم ترفع رأسها كما فعل هو لتلتقي عيناه بعيني جده، قست نظراته وهو يواجهه بتحد.

ربت على ظهر فلك حين شعر بتشنجها وساعدها لتنزل السلالم برفق

"سالم، بني... أياً كان ما تنويه فكر جيدًا"

رفعت فلك نظراتها المضطربة إليها فرقت عينا أمه وأخبرها سالم بهدوء حاسم

"أمي، لا تقلقي. أنا أعرف جيدًا ماذا أفعل"

تنهدت بقلة حيلة وهي تفسح لهما الطريق في اللحظة التي دخلت فيها نيروز لتتجمد مكانها، نقلت بصرها بينهم محاولة الفهم قبل أن تتجه إلى يوسف وتسأله بقلق

"ماذا يحدث؟ لماذا الجو مكهرب هكذا؟"

لم يجبها وعيناه على سالم وفلك متخوفاً بشدة من رد فعلها. هل كان عليهم الاتصال بالطبيب أولاً تحسباً لأي صدمة جديدة أم أن سالم سبق واتصل به؟

"يوسف ما الذي يجري؟"

عادت نيروز تسأله وهي تختلس النظر لجدها وانقبض قلبها لنظراته، كانت غريبة بها شيء من الغضب وشيء لم تفهمه لكنه أخافها... كانت عيناه على سالم بالذات وليس على فلك.

ضاق قلبها بحسرة وهي ترى كيف يضم فلك باحتواء، تعترف أنها تغار... تغار وتشتاق. هزت رأسها تطرد شعورها وجاهدت لتستعيد برود نظراتها بينما يقتربان منهم.

*********

تجمدت فلك حين رأت والدها، وتشنج جسدها  فلم تستجب لسالم، تشبثت قدماها بالأرض تمنعه من شدها، عيناها متصلبتان برعب على وجه أبيها الصارم.

انتفضت عندما لمس سالم خدها ورفعت ذراعها برد فعل سريع تحمي وجهها

"اهدأي يا لوكا، أنا معكِ، لا تخافي من أي شخص هنا. لن أسمح لأحد بإيذائكِ . لقد وعدتكِ"

هدأت قليلًا فعاود شدها لكنّها هزت رأسها بتوسل وعيناها الدامعتان تتنقلان بينه وبين والدها، فزفر سالم بعصبية وهتف بيوسف

"يوسف، قل للرجال يحضروه إلى هنا"

"سالم، لا يمكنك أن"

"قلت أحضره"

هتف بقوة جعلتها تختض فأسرع يهدئها، بينما اندفع يوسف بغير رضا منفذًا أمره، 

وحين سرت الشهقات واندفع ذلك الجسد متكومًا أمامها احتاجت لحظات لتنقشع سحابة الخوف التي ظللت عقلها. نظرت للجسد المكدوم الدامي دون فهم قبل أن يتوقف قلبها وهي تتعرفه، رغم كل الكدمات والدماء عرفته.

إنّه هو، الجلاد، اليد التي امتدت بكل خسة لتؤذيها وتنال من ضعفها لينتقم منها.

سقط عقلها في هوة من الزمن، لتجد نفسها هناك، محبوسة في تلك الغرفة هي وتامر، اتهامات والدها الجارحة قبل أن يأمر رجاله بضرب تامر.

**

الصور تتصارع أمامها، تامر تتعالى صرخاته، يسقط أرضًا، وتصرخ هي في أبيها

"لم يحدث شيء. توقفوا... قل لهم يتوقفوا، سيموت"

قبل أن يأمر رجاله بإبعادها تندفع لترتمي على جسد تامر باكية بحرقة 

"أتوسل إليك يا أبي، لا تـ"

انقطع توسلها بصرخة حين نالت إحدى الضربات من وجهها، دمها يسيل لكنّها تشبث بتامر أكثر. توقف الرجال وتابع هو، ذلك الشيطان، نالتها جلدتان قبل أن يقبض رجل على يده... رفعت عينيها إليه، رغم ألمها الشديد وجرحها النازف لم تغفل الشماتة في عينيه والوحشية.

أدارت عينيها لأبيها ويدها على جرحها، تسمعه يأمرهم ببرود

"أبعدوها وتابعوا"

عادت تصرخ وهو يزيحها عن تامر، شعرت بقبضتيه تنغرسان في عضديها وأنفاسه القذرة قرب أذنها مستغلاً انشغال والدها في متابعة تامر الذي بدأت صرخاته تخفت

"كيف تشعرين الآن يا أميرة؟"

قاومته بشدة، قاومت نفورها منه وقهرها، وعادت تتوسل والدها باكية بحرقة

"سيموت في أيديهم يا أبي، أوقفهم. إنّه بريء، لم يحدث شيء"

رفع مجموعة من الأوارق في كفه

"لم يفعل شيئًا؟ هل ظننتِ أنني لن أعرف؟ هل ظننتِ أنّكما ستهربان بهذه البساطة وتلوثان شرفي؟ لا تعتقدي أنّ هذا سيمر دون عقاب يا فلك"

بكت بحرارة وعيناها على تامر الذي تهالك بأنفاس ضعيفة وأنات لا تكاد تُسمع

"سأفعل ما تريد يا أبي، سأرضى بأي عقاب لكن أنقذه أرجوك. أتوسل إليك لا تقتله"

لم يزد عن نظرة باردة قبل أن يأمرهم بحمل تامر وإلقائه بعيدًا، ليبدأ بعدها عقابها هي.

**

ما زالت تتذكر كلماته ونظراته، ما زالت تشعر بالشيطان يقيدها في الكرسي، وصراخها يزيد شماتته. كان ذئباً وقد أتته فريسته أسفل قدميه، عاجزة، مطعونة من حاميها.

الذئب الذي لم يتورع حين تراجع بقية الرجال عن تنفيذ الأمر، وحده أسرع ينفذ ويجتز شعرها منفثًا فيها غيظه من رفضها لتودده القذر وتهديدها له بإخبار أبيها إن لم يتوقف عن تصرفاته.

الآن أبوها نفسه سلمها إليه، يخبرها في رسالة مختصرة أنّها لوثت شرفه ولم تستحق ثقته ولا أبوته. لا تستحق أن يعاقبها بنفسه كأب، قتلها بفعلته قبل أن يقتلها جلادها، ماتت فلك لحظة ولى وجهه عنها وسمح للغريب بإيذائها بتلك البشاعة.

************

تشبث فلك المرتعب به أعاد غضبه لذروته، وجعله يستسلم أخيرًا لوحشه فهتف 

"أمي، تعالي وخذي فلك"

أسرعت أمه إليها لكن ما أن لمست كتفها حتى انتفضت فلك بصرخة مذبوحة 

"اهدأي يا فلك، لا تخافي"

همست تطمئنها لكنّها استمرت في تشبثها به برعب، قاوم وحش غضبه ليربت على كفيها برفق 

"أنا معكِ ، وعدتكِ أنني سأحضره تحت قدميكِ . ها أنا وفيت بوعدي، دعيني أكمله للنهاية"

وأشار لأمه فاقتربت لتضمها بحنان واستكانت فلك بضياع، التفت سالم إلى الرجل الذي تراجع زاحفًا ينظر تجاه سالم الكبير

"أنا لم أفعل شيئًا، كانت أوامر سالم باشا"

وزحف نحوه على ركبتيه دون أن تهتز نظرات الجد طرفة

"أنا عبدٌ مأمور، سالم باشا أنا كنت..."

اندفع سالم يرفعه من ياقته بعنف

"عبد مأمور؟ ما زلت تملك أنفاسًا لتراوغ وتكذب، لا بأس، دعنا نتخلص منها تمامًا"

وركل ساقه بكل قوته ليصرخ وهو يركع مرغمًا

"ما رأيك يا جدي؟ هل أقتله أم أترك لك شرف عقابه؟"

ردد ساخرًا ثم أردف

"لكن صحيح، لا يمكنك عقابه. نسيت أنّك من أعطاه الأوامر"

واشتدت قبضته على شعر الرجل منتزعًا منه صرخة عنيفة 

"لكن أنا لا أعاقبه فقط بسبب تنفيذه لأمرك. سأكون غير منصف إن عاقبت عبدًا مأمورًا مثله وتركت سيده"

ردد جده ببرود

"ما الداعي لكل هذه المسرحية يا سالم؟ لقد عاقبتُه مسبقًا وطردته"

ضحك بقوة 

"أنا حقًا ممتن لك. أعرف أنّك طردت باقي الرجال الذين رفضوا تنفيذ الأمر، لكن هذا بالذات كان يجب أن تقتله بيدك، لا أن تكتفي بطرده مثله مثل البقية"

وعاد يركله بقوة أكبر

"هذا الحقير هو الوحيد الذي تجرأ ونفذ أوامرك، هل تعرف لماذا؟ لأنّه كان يتحرش بها في غفلة من الجميع"

خانت جده تقطيبة بينما التفت هو نحو أمه التي تضم فلك المرتعدة

"كانت خائفة منه طيلة الوقت ولم تعرف ماذا تفعل. كانت تتجنبه وهددته عندما فشلت في إبعاده، صفعته في آخر مرة تعرض لها، وأخبرت أمي ذلك اليوم لكن لسوء الحظ لم تجد أمي الوقت لتبلغك أو تبلغ أحد أشقائي فقد قررت يومها أن تعاقبها على ذلك الاتهام الباطل الذي لم يدخل عقل أحدنا"

خفض جده عينيه للرجل الذي تهاوى رأسه على صدره 

"هل عرفت لماذا أسرع ينفذ أوامرك؟ لأنّك منحته الفرصة لينتقم من إهانتها له"

وعاد يشده من شعره ليقف وهو يصرخ ألمًا ومال يردد في أذنه

"هل عرفت لماذا أعاقبك؟ صدقني، أنت لم تر شيئًا بعد"

ردد الرجل بتهالك

"لقد اعتذرت ودفعت الثمن"

وأشار بيد مرتجفة نحو أسامة الذي يرمقه بغل

"هو سبق وانتقم لها، أنا اعتذرت و"

قاطعه بلكمة قاسية ألقته أرضًا

"واعتذارك ليس كافيًا يا حقير، أنا لن يكفيني دمك، لن يكفيني روحك"

********

كان أسامة أول من تخلى عن صدمته لرؤيته ينهال ركلًا وضربًا على الرجل دون أن يترك مكانًا سليمًا به، أسرع يقبض على مرفقه بقوة ينتزعه من جنونه، فالتفت سالم رافعًا قبضته نحوه ليوقفها في الهواء عندما انتبه له

"توقف يا سالم، أنت تخيف فلك"

كلماته أفاقته لنفسه فالتفت ينظر بجزع إلى فلك التي دفنت وجهها في صدر أمهما، خفض سالم يده وهو يتنفس بسرعة فتراجع أسامة متخليًا عن ذراعه بتردد. مضت لحظات قبل أن ينحني سالم ويرفع الرجل من ياقته وجره حتى وصل إلى فلك، ألقاه أسفل قدميها هاتفًا 

"اعتذر لها"

رفع وجهه الدامي بصعوبة مرددًا

"أنا... آسف. سا... سامحيني"

ركله سالم بقوة 

"ارفع صوتك واعتذر لها"

تدخلت أمه بصوت مرتجف 

"سالم، بني، أرجوك"

"اعتذر أيها القذر"

صرخ وهو يخرج مسدسه ويصوبه إلى رأسه، وعندها رفعت فلك عينيها تنظر له برعب واندفعت لتمسك رسغه. هزت رأسها مرارًا برفض، ودموعها تسيل، تتوسله دون صوت ألا يفعلها 

"فلك"

قبضتها ازدادت ضغطًا على رسغه، تهالكت ذراعه إلى جانبه فشهقت باكية واقتربت تضم نفسها لصدره، وفي لحظة تبخر غضبه واستكان وحش غضبه، اقتربت أمه بعد لحظات لتأخذها منه واستسلمت لها وقد أهلكها التعب والانفعال بينما أشار سالم لرجليه الواقفين عند الباب

"خذاه من هنا"

أسرعا يحملانه بينما رفع سالم عينيه إلى جده، ينظر لعينيه تواجهانه بتحد وشيء غريب يتألق بينهما. لم يكن غاضبًا من تصرفه ولا تحديه أمام الجميع.

قرأ في عينيه شيئًا آخر جعله قلب يرتجف، قبل أن يدير ظهره ويعود إلى مكتبه. ران الصمت على المكان قبل أن ينتبه لاقتراب نيروز، توقفت أمامه لحظة ثم همست بجمود

"مبارك، لقد نجح جدي فيما أراده طويلاً... لقد أصبحت مثله تمامًا"

ابتعدت بهدوء، غير مدركة لوقع كلماتها التي نزلت كصاعقة على قلبه، ليفهم أخيرًا ماذا رأى في عينيّ جده.

لم يكن غضبًا، كان انتصارًا.

********************** 

 

يقولون أنّ من الحب ما قتل!

وفي حالة جايدا يحق لها تغيير القول إلى… 

من الحب ما خنق!

لطالما سمعت شكوى الكثيرين من إهمال الأهل وجفوتهم لكن حالتها كانت تختلف، هي غرقت في الاهتمام والحماية حد الاكتفاء،

حد أن تحسد رفيقات الدراسة على قلة رقابة أهاليهن وحريتهن.

لا، لم يحجر على حريتها ولم يشُك فيها يومًا، هو فقط…

هو فقط كان يبالغ في كل ما يخصها، يحبها أكثر من نفسه ويخشى عليها.

أحيانًا كانت تشعر أنّ دافعه هوس أو ربما شيء غامض يخص ماضيهما، لكنها لم تعترض يومًا. لم تعتقد أن من حقها الاعتراض أو حتى لومه. 

كيف تفعل وهي تدرك أنّها بالنسبة له آخر من تبقى من دمه، الذكرى الأخيرة من أخيه الراحل. 

كانت كل عائلته.

وماذا فعلت في النهاية؟ 

تمردت على طوق حمايته، 

كسرت الطوق ورحلت تبحث بإصرار خلف ماض مُحرمٌ ذكره.

لم تكتف بالبحث بل تورطت إلى أغبى الحدود.

وكانت تعرف أنّه سيجدها عاجلًا ويحق له أن يغضب ولا يحق لها الاعتراض على أي رد فعل منه وقد تخطت خطوطه الحمراء،

بل كل الخطوط.

 

"ماذا؟ ألن تدعيني إلى بيتكِ؟"

كلماته ونظرات عينيه جعلتها تتمنى لو تنشق الأرض وتبتلعها

"كيف عـ... أعني"

التوت شفتاه بتهكم وقال بينما يتحرك نحوها لتتراجع بتوتر

"هل تستخفين بي؟ هل اعتقدت سيكون صعبًا عليّ إيجادكِ؟"

"بهاء، أنا..."

دخل مغلقًا الباب خلفه، وطافت عيناه في المكان بسخرية

"واضح أنني قاطعت احتفالًا ما"

أشاحت وجهها المحمر بينما اقترب هو من أحد القلوب الذي تعانق فوقه اسمها واسم يوسف، انتزعه وتأمله بنظرات سوداء ثم ألقاه أرضًا. توترت بشدة حين التفت لها وانحبست أنفاسها في انتظار تعنيفه أو لومه.

نظر لها لبرهة زادتها اختناقًا قبل أن ينطق أخيرًا

"هل تعرفين كم طعنتني فعلتكِ؟"

تسارعت أنفاسها بينما يتابع

"دللتك كثيرًا جدًا يا جايدا... أنا سبب كونك هكذا... كان يجب أن أعرف... تهورك وجنونك ليس لهما حد لكن أن يصل الأمر إلى هنا"

تمتمت وهي تفرك كفيها معًا

"أنا فقط، أنا فكرت أن بإمكاني... أنني..."

صاح مسببًا انتفاضة عنيفة بجسدها

"ماذا؟ أنكِ حرة لتذهبي وتعشقي ثم تتزوجي سرًا؟ وممن؟ يوسف المنصوري؟"

دمعت عيناها بحرقة

"بهاء، أنا لم أعشقه... الأمر فقط…"

رفع سبابته في وجهها محذرًا

"ﻻ تكذبي... أنا من ربيتكِ وأحفظكِ كأصابعي"

"عمي، أرجوك…"

أجهشت بالبكاء وقد فاض ضغط الفترة التي قضتها ممزقة بين مشاعرها الأنانية وخذلانها له... تستحق أيًا كان ما سيفعله. ألم تعلم النتيجة حين اختارت نسيان الماضي والأحقاد لتكون مع آخر شخص يُفترض بها الوقوع في حبه؟

 

"ماذا أفعل بكِ؟"

تمتم بها بعد تنهيدة يائسة فاقتربت منه بتردد، ضمت نفسها إلى صدره، تحيط خصره بذراعيها

"آسفة... أعرف أنني صدمتك وخذلتك لكن... لا، لن أبرر... اغضب وعاقبي، أنا راضية بأي عقاب لكن لا تطلب مني أن..."

تهدج صوتها بالبكاء وازدادت تشبثًا به وظل هو جامدًا للحظات حتى استسلم قلبه كعادته معها، رفع ذراعيه يضمها

"كيف أعاقبك وأنت قد عاقبت نفسك مسبقًا؟ ما فعلته لن تكون نهايته جيدة أبدًا"

ضاق قلبها موقنًا بكلامه، أليس هذا ما يردده قلبها عليها كل يوم وليلة؟  ألا يمر كل يوم وهي تخشى اللحظة التي سيعرف فيها يوسف كل الحقيقة؟

لكن لتدع هذا الخوف لوقته، عليها الآن أن تمنع بهاء من إجبارها على إنهاء زواجها والعودة مجددًا لسجنها في الخارج، أو الأسوأ أن يفكر في استغلال فعلتها للانتقام من يوسف وعائلته.

******************

 

ماريبوسا بلانكا،

وفي العربية فراشة بيضاء.

من اختار لها ذلك الاسم، هل كان يعلم أنّه لا يليق بها؟

نعم، لا ينكر أنها فراشة،

وفراشة مثيرة جدًا.

لكنها ليست بيضاء ولا بريئة، تلك فراشة عنيدة ومزاجية وشرسة.

لوى شاهين شفتيه وهو يطرق بأنامله سطح مكتبه وعيناه تسريان على سطور أحد المقالات الأسبانية التي تتحدث عنها، يتخلل المقال صور فاتنة لها، 

نسي أن يضيف هذا الوصف… فراشة فاتنة.

لم تكن الملابس التي ترتديها ولا وضعيات التصوير، هذه تفاصيل تافهة بالنسبة للطامة الكبرى.

عيناها.

نظراتها للكاميرا كانت الأشد فتنة والأشد فتكًا.

كأنّها لا تنظر للكاميرا بل إلى عمق الناظر إليها، بعض نظراتها متحدية جريئة، بعضها الآخر يقدم وعودًا ورسائل بعيدة المنال، وبعضها نظرات عاشقة هائمة.

تُرى أيُها هي؟

تساءل وهو يقلب في صورها الأخرى وشعلة الفضول التي اشتعلت في داخله منذ أول مرة رآها تزداد، يقرأ التفاصيل التي صار يحفظها عن ظهر قلب.

فراشة من أب مصري وأم أسبانية، 

عارضة أزياء شهيرة، ماريبوسا بلانكا ثم مصممة ناشئة لعلامة أزياء بنفس الاسم، بدأت تشق طريقها وسط عالم الموضة ويبدو أنّها في المستقبل القريب ستكون ضمن الصفوة.

هكذا تقول التقارير عنها،

لكن عذرًا لعالم الموضة كله، دخوله على الخط سيؤجل هذا النجاح قليلًا، أو ربما سينهيه تمامًا.

فكر ساخرًا قبل أن تصفعه همسة جديدة من ضميره تؤنبه أسرع يجهضها بينما يغلق حاسوبه بقوة وتراجع في كرسيه زافرًا.

"حظها السيء، لا، بل اختيارها الأسوأ… ما كان عليها أن تختاره"

صورة لها مع سالم أطلت في خياله فطردها بحنق متجاهلًا الإحساس البغيض الذي ينتابه كلما تصورهما معًا.

هو غاضب فقط تجاه سالم، أيًا كانت المرأة التي تعشقه أو على علاقة به كان سيشعر نفس الشيء، لا تبرير للحريق الذي يشعره في دمه سوى هذا.

لم يوغل في أفكاره أكثر من هذا وألقى نظرة على ساعته.

لقد تركها طويلًا، مؤكد انتهت من تنظيف الجناح.

شيء ما أخبره أنّها ستفاجئه مرة أخرى، ولم يخب ظنه.

جناحه كان أبعد ما يكون عن النظافة، بل يبدو أنّها بعثرته أكثر.

"امرأة عنيدة"

لم ير امرأة بعنادها، لم تهتم حتى لجوعها ولا لتهديده.

بحث بعينيه عنها ليجدها غارقة في النوم على الأرض، التوت شفتاه بتهكم وتحرك بهدوء حتى توقف أمامها، يبدو أنها تعبت من الشجار مع مقتنياته.

جلس على إحدى ركبتيه أمامها يتأملها قبل أن يمد يده يهز كتفها برفق لكنّها لم تتحرك. تذمرت في نومها فخانته ابتسامة أسرع يقتلها فور انتباهه. اقترب ليرفعها وما أن وقف حاملًا إياها حتى سقط رأسها على صدره وتشبثت يدها بقميصه.

توترت نبضاته فأسرع ليضعها في الفراش وابتعد، خانته عيناه لتتحركا على خصلاتها الكستنائية ثم جفنيها المغمضين وأنفها بينما يجلس ببطء على حافة الفراش.

فراشة ساحرة!

توقف عند شفتيها وتذكر تقبيله لها، ماذا دهاه ليرتكب تلك الحماقة؟ لم يكن هذا ما خطط له لكنّها تستفزه وبشدة. عنادها يخرجه عن أطواره، تثير جنونه وغضبه ومع هذا يجد نفسه دون أن يدري...

لم يشعر بنفسه وهو يميل نحوها حتى كاد يلامس شفتيها ولم يفقه من تهوره إلا همستها فانتفض مبتعدًا.

انتبه بعد ثوان لم تهمس به بأنين متألم

"سالم"

لوهلة اختفت صورتها وحلت أخرى محلها، خصلات سوداء فاحمة وعينان زرقاوتان. ذكرى لا تزال تمزقه حتى اليوم، ذكرى تبقي نار رغبته في الانتقام مشتعلة. قاوم شياطينه وابتعد عنها هاربًا من الغرفة كلها قبل أن يُقدم على إيذائها في لحظة غضب.

******************

تسلل العرق غزيرا على جبين إيهاب وتسارعت أنفاسه، وأصوات عالية تتردد بالخارج، شعر بحركة قربه فالتفتت ليرى خياله الصغير ينهض من فراشه ويتسلل مقتربًا من باب غرفته، فتحه فتسلل بعض النور للداخل مظهرًا وجهه المليء بالخوف، كان قادرًا على الشعور بكل ما يخالجه، بكل رعدة بقلبه بينما ينصت لشجار أبويه.

انتفض جسده الصغير حين لامست يد كتفه، كانت شقيقته الصغيرة

"ماذا تفعل؟"

أسرع يضع سبابته على شفتيه 

"هذا عيب يا إيهاب، ماما قالت عيب نتنصت على حديث الكبار"

"اصمتي أنت يا جنى"

أمرها بحنق وهو يصغي السمع وصمتت مرغمة... لم تفارق عينا إيهاب خياله الصغير، وشقيقته الجميلة التي ستكون هذه المرة الأخيرة التي يسمع صوتها فيه وسيشعر بدفء جسدها الحي قربه.

اقتربت منه بخوف وتشبثت به حين بدأت أصوات والديهما تتعالى

"إيهاب أنا خائفة"

أحاط كتفيها بذراعه بحماية

"ﻻ تخافي أنا معك"

بدأت أصواتهما تتداخل ولم يفهم إن كان يتبادلان الاتهامات أم يحاولان الوصول لحل، كل ما يفهمه أن الوضع مخيف وأن جده هو السبب في كل ما يحدث.

"اهدأ يا عامر، اهدأ وتوقف عن هذا الجنون"

هتاف أمه ثم أصوات تحطم وهتاف والده المليء بقهر رجل وصل لهاوية اليأس دون رجعة... زاد تشبث شقيقته به مع ارتفاع الصخب والتحطيم حتى انتهى كل شيء بصرخة أمه ممتزجة بطلقات نارية، نسيا كل خوفهما واندفعا للخارج.

مد إيهاب يده يريد إيقافهما لكنهما اختفيا وبقي هو في الظلام، ورغم هذا كان قادرًا على رؤيتهما يقفان محدقين برعب في جسد أمهما على الأرض ودمها، يرفعان بصرهما برعب إلى فوهة المسدس المصوبة إليهما.

إيهاب الصغير ينتفض ويد شقيقته ترتخي عن يده لتسقط أرضًا، يخفض بصره ليراها تنزف كأمهما، يعود ببصره إلى أبيه برعب وذهول 

"أبي"

كانت همسته الأخيرة قبل أن تخترق الرصاصات جسده.

******

هب من نومه لاهثًا بعنف يتحسس صدره وآثار جروحه مشتعلة بألم لم يفارقه لحظة وذكرى محفورة على جدران روحه بالدم.

مضت دقائق طويلة قبل أن تهدأ أنفاسه، رفع رأسه يتطلع حوله باختناق، كوابيسه تهاجمه دائمًا كلما عاد للسراي، كأنما تذكره أن هذا ليس بيته وأنه ما كان يجب أن يعود إليه.

لماذا لم يطرده ويتبرأ منه كما فعل بوالده؟ 

حين نجا بمعجزة وغادر المشفى ليجد نفسه يتيمًا يقف على عتبات عدوه، الرجل الذي كرهه قبل أن يراه، من اللحظة الأولى تمرد وواجهه بنظراته الحاقدة، صرخ وحاول الهروب مرارًا، لولا تمسك جدته به كونه الذكرى الباقية من ابنها الراحل لكان جده ألقاه في أي ملجأ وتخلص من وجوده غير المرغوب.

 لم يكره أحدًا كما كرهه ومن بعده حفيده المفضل، الوحيد الذي كان قرة عينه ومستقر آماله، كره سالم كراهية منبثقة من كراهيته لجده، نقم عليهم جميعا واعتزلهم، وحده أسامة نجح في اختراق حاجزه، نجح لأنه يشبهه، لأن جده كان ينبذه هو الآخر.

أصبح أسامة صديقه ثم أقرب الناس إليه، ومن بعده نيروز، وحدهما جعلا ذلك السجن محتملا.

والآن خسر نيروز بسبب جريمته القديمة والآن يوشك أن يخسر أسامة بسبب حبه المحرم.

ضاقت الغرفة عليه وضاقت روحه عليه بما رحبت فنهض سريعًا، غادر غرفته هاربًا من طيفها ومن بقايا أشباح ماضيه متجها إلى الحديقة الخلفية وأمنية حمقاء وسوسها شيطانه بقلبه، أن تتكرر الصدفة وتكون هناك.

*********************  

 

لامست تارا عنقها وتلك الغصة تخنقها بشدة، تشعر روحها تكاد تزهق من شدة الألم.

ليت فضولها لم يغلبها فتترك ابنتها وتعود إليهم، لم تعرف سالم مسبقًا لكنّ العنف الذي رأته لا ينطبق أبدًا على نفس الشخص الهادئ الرزين الذي رأته الأيام الماضية.

والنظرة على وجه جد زوجها أثارت بها رجفة خوف، داخلها شعور أنّه مسرور، منتش كقائد حقق لتوه انتصارًا ساحقًا.

زاد اختناقها وفكرها يعود إلى فلك، كم مضى على رؤيتها لها، منذ عاقبها والدها وأمر بحبسها.

حاولت لفترة مساعدة سمية لتخرجاها من وضعها لكنّهما فشلتا، وانشغلت هي بعدها في حياتها المريرة مع أسامة وحملها الذي زادها تعبًا.

ما زال قلبها يؤلمها حين تستعيد ذكرى ذلك اليوم، اللحظة التي رأت فيها فلك حين أخرجوها من تلك الغرفة، لحظة ضاعت الفتاة الملائكية التي شعرتها كنسمة رقيقة منذ اول يومٍ خطت فيه إلى السراي.

تلك اللحظة تضاعف ندمها وبكت بحرقة على حماقتها بينما تتحسس جنينها الذي بدأ حركته لتوه، مدركة برعب أنّها حكمت على نفسها وعلى طفلها بمصير أبدي في هذا السجن البشع.

**

تنهدت بحرارة وهي تمسح دمعة أليمة وجاهدت لتهدأ، لم تترك غرفتها وتأتي هربًا إلى هنا لترافقها أفكارها. أطرقت تحاول التنفس بانتظام، يجب أن تهدأ وتجد حلًا، لو استمر هذا الحال ستموت.

لا أمل لها مع أسامة ولا أمل لها مع...

مع من؟ ما الذي تفكر فيه؟ لقد مزقت تلك الصفحة.

عليها فقط أن تقابل جيلان لتصحح لها سوء الفهم قبل أن تتسبب لهما في مشاكل.

زفرت بحرارة وهي تنهض وقد قررت الاكتفاء من جلستها، لم تكد تستدير حتى شهقت متراجعة ويدها على قلبها المرتجف، لم تشعر باقترابه ولا وقوفه.

تنفست بصعوبة وهي تشيح بعينيها عنه بينما اقترب بهدوء

"آسف، لم أقصد إفزاعكِ ، ظننت المكان خاليًا"

هزت رأسها وقد خانها صوتها لثوان قبل أن تجده لتهمس وهي تمر قربه

"كنتُ ذاهبة، المكان لك"

وقفت مصدومة حين قاطع طريقها ورفعت وجهها إليه فهالتها نظراته الضائعة وشحوب وجهه. اقترب خطوة فتراجعت وداهمها شعورٌ بالخوف.

لم يكن على طبيعته، لم يكن بخير... هتف عقلها فيها أنّه لا الوقت ولا الأصول تسمح لها بسؤاله ولا الوقوف معه، ليس بعد أن انكشفت أوراقهما أو كادت.

قالت وهي تحاول تجاوزه

"تصبح على خير"

أسرع يعترض طريقها مرة أخرى فهتفت

"ماذا تفعل؟ ابتعد عن..."

أغمض عينيه مرددًا بعذاب

"ليس قبل أن أحصل على الجواب"

رمقته باضطراب وتلفتت حولها

"إيهاب، أنا لا أعرف عما تتحدث. أرجوك، لا يصح أن"

عاد يهتف بحرقة أفزعتها

"قلت لن أبتعد قبل أن أحصل على الجواب"

أشاحت وجهها مرددة بتخبط

"أي جواب؟ لا يوجد ما نتحدث عنه. أرجوك، ربما استيقظ أحدهم وأساء الـ"

"أريد أن أفهم"

قاطعها بتوسل، ورفع قبضته لرأسه يضرب عليها بقوة

"كل شيء هنا مضطرب، رأسي سينفجر من كثرة التفكير، أشعر أنني في كابوس"

ونظر لها بعينين أوقفتا قلبها بالعذاب المطل عبرهما

"ربما أنا في كابوس حقًا، ربما جيلان لم تكن موجودة ولم تقل هذا الهراء عن"

صمت عاجزاً عن الإكمال وأشاحت هي وجهها وعقلها يحثها على الابتعاد متوسلًا بقايا حكمتها.

 

"ارحميني"

 

همسته الغارقة باليأس والرجاء ومرارة اندفعت لتحرق روحها

"أرجوكِ ، أريحيني. أخبريني أنّها كانت تكذب، أنّها أخطأت، لا تزيدي عذابي"

جزءٌ منها نقم عليه بشدة بينما الآخر مشفق، قلبها اندفع يحتضنه يبكي معه بينما عقلها يخبرها أنّه السبب في كل شيء، يؤكد لها ظنونه بكلماته الآن.

هو يريدها أن تخبره أنّها لم تحبه ليريح ضميره، تخنقه فكرة أنّ زوجة ابن عمه تحبه، ويريدها أن تريحه من بشاعة الظن.

لكنّها لن تفعل.

كلماته أيقظت ذلك الجزء الحاقد داخلها، الجزء الذي كرهه في الماضي وتوارت خلفه من آلام هجره لها دون كلمة أو وداع.

تراجعت رافعة رأسها بتحد

"تريد أن تعرف الحقيقة؟ تريدني أن أخبرك أنّني لم أكن واقعة في حبك كالبلهاء؟"

رفع رأسه بنظرات مضطربة

"أنتِ لم تحبينني، جيلان كعادتها تتسرع في الحكم و"

قاطعته ببرود قاطع

"أنا أحببتك"

شعرت أن كلمتيها قتلتاه حرفيًا، تراجع محدقًا فيها بذهول وصدمته زادت حقدها عليه، أرادت إيلامه بشدة كما تألمت قديمًا وما زالت.

ابتسمت بمرارة وشماتة فيه وفيها معًت

"صحيح يا إيهاب، تارا الحمقاء كانت واقعة في حبك بغباء"

هز رأسه رفضًا

"ليس صحيحًا"

ابتسمت بسخرية

"صدق أو لا تصدق، أنت كنت حبي الأول"

*****

كان حبها الأول!

هل يُفترض به أن يطرب فرحًا أم يسقط باكيًا بحسرة؟ هل ستغير كلماتها أي شيء؟

فعل الماضي الذي تصر على استخدامه يخبره الحقيقة كاملة، لن يتغير شيء، هي كانت... وانتهى الأمر

"ﻻ داعي لتشعر بالذنب، كانت حماقة قديمة ذهبت لحال سبيلها"

وها هي تؤكد ظنونه، تخبره أنّه لم يعد شيئًا، من المفترض أن يشعر بالراحة لكنّه يشعر بالعكس، إنّه يحترق. 

"كيف لم تخبريني؟"

تراجعت بحاجبين مرتفعين وهتفت بحنق

"اخبرك؟ هل كان من المفترض أن آتي لسيادتك وأخبرك أنني أحبك؟ وربما أتوسلك لتبادلني حبي وتتزوجني؟"

أغمض عينيه بعذاب زادت في إمعانه

"ربما كنت فعلتها لو وصل بي اليأس منتهاه، ربما لو أنّك لم تهرب وتتركني دون كلمة وداع حتى"

همس باختناق وهو يستعيد السبب الذي جعله يهرب

"كان يجب أن أبتعد"

هزت رأسها بابتسامة ساخرة

"نعم، هكذا دون سبب. دون أن تخبر الحمقاء التي كانت تظنك صديقها الوحيد"

"تارا أنتِ لا تفهمين،أنا"

قاطعته بجمود

"ولا أريد أن أفهم، لقد جعلتني أكره نفسي وغبائي. ليتك لم تقترب مني، ليتك لم تجعلني أظن أنني غالية عندك والأقرب إليك"

تهدج صوتها في آخر جملتها ليهتف هو

"أنتِ كذلك"

لم يستطع استخدام صيغة الماضي، كانت ولا تزال، لم يستطع قلبه الإنكار. 

لم يشكل لها اعترافه فارقًا بينما ترد

"نعم، كان هذا واضحًا، تترك صديقتك الأقرب إليك وتسافر فجأة لتعرف هي من الغرباء"

وعاد صوتها يتهدج وخُيل إليه أنّ عينيها لمعتا بدموع وشيكة

"هل تعرف شعوري وقتها؟ هل تعرف ما فعلته بي؟ هل تعرف كم مرة اتصلت بك كالحمقاء دون أن ترد؟ لقد مرضت بسببك. لم أتلق صدمة في حياتي مثل صدمتي فيك"

قناعها البارد سقط تمامًا وبدا أن الذكريات تكالبت عليها فانفجرت تغرقه 

"لم أكذب قلبي، ظللت أنتظر اتصالك كالغبية، بينما كنت أنت في الخارج تتسكع وتعيش حياتك بالطول والعرض"

تراجع بصدمة وشحوب ثم ردد منكرًا

"لم أفعل، أنا..."

"ﻻ تكذب"

صرخت بحرقة دون أن تنتبه لارتفاع صوتها

"أخبرتك أنني مرضت واعتزلت كل شيء وكالعادة لم يسأل في أحد، لا أمي ولا أبي، حتى اتصلت خالتي بالصدفة وعرفت بوضعي. أتت لتصحبني معها إلى الخارج ربما تخرجني من بؤسي، وكدت أتعافى"

وقف أمامها مطرقًا كالمذنب، روحه تتلقى صفعاتها ولومها راضخة معترفة بجرمه بينما هزمتها دموعها وهي تردد

"كدت أتعافى منك لكن... هل تعرف ماذا رأيت هناك؟ تريد أن تعرف كيف اكتشفت كم هذا العالم صغير؟ رأيتك. كنت في نفس البلد دون أن أعرف، نسيت كل شيء وكدت أجري نحوك، سامحتك في لحظة لكنّك في اللحظة التالية حطمت قلبي، ذبحتني وأجهزت عليّ"

رفع عينيه إليها بتوجس ودموعها وصوتها الجريح ذبحا روحه 

"كنت تعانق فتاة أخرى. تضمها وتضحك معها"

شحب وجهه بينما عقله يبحث وسط ذكرياته عن تلك الصورة لترتسم واحدة باهتة لا يكاد يتذكرها، ذكرى من الواضح أنّها أساءت فهمها. 

"ربما عليّ شكرك رغم كل شيء، بفضلك عدت وقد اتخذت قراري على حذفك تمامًا من ذكرياتي"

وجد صوته أخيرًا ليردد 

"ولم تجدي سوى ابن عمي لتتزوجيه؟"

تبخر ضعفها وجفت دموعها واستعادت قسوتها في لحظة

"لم أعرف حتى عدت أنت من سفرك، وإن كنت ستلوم أحدًا فلُم نفسك. أنت السبب، أنت لم تخبرني. ظللت بئرًا مكتومًا لا تخرج منها سوى ما تريد. لم تخبرني حتى اسم عائلتك، وأنا احترمت رغبتك وربما بغبائي وقتها ظننته أمرًا مشوقًا أن تتمتع ببعض الغموض"

واستعادت ابتسامتها المريرة

"وهذا دليلٌ آخر أنّك لم تر فيّ صديقتك المقربة كما ادعيت"

 

هل كان يتوسلها أن تريحه من عذابه؟ لقد ضاعفته، بل ألقته في هوة الجحيم وأغلقته عليه معلنة أنّه يستحق هناك خلوداً أبدياً

 

"وكما أخبرتك، عدت وأنا متأكدة من حقيقة مشاعرك، عدت مقررة نسيانك للأبد والتعافي منك، وعندما طلب جدك يدي لأسامة كانت فرصتي لأبدأ حياة جديدة"

 

لماذا لا تنزل صاعقة في الحال وترديه؟ لماذا لا يأتي الموت ويخلصه؟ هل كانت تدري كم تمعن في تعذيبه؟ ربما كانت تفعل.

ولم يدر كم كان محقًا.

"هل ارتحت الآن؟ لقد تجاوزت صفحتك تمامًا ومضيت. أنا الآن أحب زوجي ولا أفكر في غيره"

رمقها بضياع بينما تواصل دون رحمة

"لذا لا داعي لشعورك بالذنب نحوي ولا عذاب الضمير الذي"

توقفت حين رأته يمسك رأسه براحتيه في وجع شديد

"إيهاب"

همست بجزع ليضغط رأسه أكثر هاتفًا بحرقة

"يكفي... يكفي. توقفي"

تراجعت خطوة بعينين متسعتين فزعًا، حين رأته يتحرك مترنحًا إلى الحائط القريب. يستند براحتيه إليه ويميل ليضرب جبينه فيه مرارًا بعنف وصرخات قهر شبه مكتومة.

لم تدم صدمتها ثوان اندفعت بعدها هاتفة 

"إيهاب، ماذا تفعل؟ هل جننت؟"

شهقت عندما رأت دمه على جبهته،ورفعت يدها إليه

"جرحت نفسك يا أحمق، ماذا أصابك؟"

شهق بأنفاس متسارعة وهو يسقط أرضًا وقد تهالك من التعب ومن كل شيء ونزلت هي معه ويدها ما زالت تضغط على جرحه تبحث حولها عن شيء توقف به النزيف. توقف كل شيء حين قبض على معصمها، كان ينوي إزاحة يدها التي تؤلمه أكثر من جرحه، اتساع عينيها جمده، كل تفكير صائب داخله تبخر مع نظراتها وقربها. ارتجفت يده، ارتجف كله وهو يبادلها النظر

"إيهاب"

همست بخوف ويده تزداد ضغطًا على معصمها، أغمض عينيه بقوة، قبل أن يحرر يدها متمتمًا بصعوبة

"اذهبي"

ظلت مجمدة بغباء ليرفع عينيه نحوها برجاء يتوسلها أن تبتعد، هو بالكاد يملك القوة ليقاوم أشباحه ورغبات روحه

"اذهبي، دعيني وحدي"

هتف بحدة أفاقتها فنهضت بسرعة، جرت مبتعدة وكل عصب فيها ينتفض، غافلة عن يدها التي لوثت ثيابها بدمه، عن إيهاب الذي ظل على ركبتيه يحدق في كفه بعذاب، منهزم كرجل خسر آخر قشة كان يتعلق بها لتنقذه من غرقه.

****************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف قصة أو أشد قسوة
أو أشدُ قسوة

في ذاتِ نكبةٍ انحدروا كالموتِ الأسود على الأرضِ المباركة؛ فعاثوا فيها فسادًا وترويعًا. تناقلت الريحُ أخبارهم وتزلزلت الأرضُ رفضًا وكُرهًا. أنّت أنينًا...

اقرأ المزيد