الفصل الثامن

أحيانًا يتمنى لو كان معه زر يغير به الواقع بضغطة.

يجعل كل ما حوله يسير بالنظام الذي يريده وكل من يقف معاندًا أمامه يرضخ له ويوفر عليه الوقت والجهد،

ولو كان معه هذا الزر الآن لنفذ رغبته الدفنية وألقى ابن عمه خارج السيارة كما يشعر في هذه اللحظة.

 

"لا تفكر في رميّ من السيارة يا شهاب، ضميرك سيعذبك لاحقًا"

التفت شهاب يرمق ابن عمه الذي ألقى كلماته مازحًا كأنما قرأ أفكاره ببساطة، ردد بعصبية
"هل لي أن أفهم ما الذي تهدف له من هذا يا ياسين؟"

ابتسم بهدوء مجيباً
"ما المشكلة في زيارتي لعمي؟ هل الأمر يخصك وحدك؟"

حدجه بنظرة جانبية يستعيد ما حدث قبل أيام وما قاله ياسين لأمه متحديًا، لا يطيقه منذ سمعه يهددها أن يتزوج هو سمراء إن لم توافق على زواج شهاب منها؟ كيف يفكر في خطبتها وهو يعرف أنّه سبق وطلب يدها؟ كيف يجرؤ على أن يخطب على خطبته؟

سمعه يتابع وهو يسترخي في مقعده بأريحية
"لو كنت لا تزال غاضباً من كلامي ذلك اليوم فقد أخبرتك أنني ما قلته إلا لأستفز خالتي وأضع في رأسها أنّها شاءت أم أبت، بنات عمي سيعُدن وإحداهن ستصبح كنتها، سواء تزوجت أنت أو شاهد"

وغمز له مكملا بسخرية
"أو حتى أنا... تخيل ابن شقيقتها يتزوج ابنة عدوتها اللدود، هي لا ترى فرقاً بيننا وما لا ترضاه لكما، لا ترضاه لي"
زفر بقوة، فتابع ياسين رافعاً أحد حاجبيه
"إلا إذا كنت طبعاً غاضباً للسبب الآخر"

حدجه بقسوة
"أخبرتك أن تنتزع هذا الهراء من رأسك"

كتف ياسين ذراعيه متمتماً بهدوء
"إذن ما دمت لا تحمل لها مشاعر كما تقول فلا أجد مبرراً لغضبك إن تقدمت أنا أو غيري لخطبتها، صحيح؟"
"بل سأغضب"
أخبره بحدة وأكمل متجاهلا نظراته المتفحصة بتهكم
"لا يمكنك أنت أو غيرك أن تخطب على خطبتي"
التوت شفتاه بابتسامة

"حقاً؟ لكنني لا أذكر أنّ سمراء وافقت، حسب ما أعرف أن عمي أخبرك أنّه سيكون عليك أولاً كسب رضاها وإقناعها بالموافقة"

وهز كتفه مواصلاً

"هذا يعني أنّه لا يزال أمامي فرصة كبيرة"
سيطر شهاب على نفسه بقوة حتى لا يلقيه من السيارة بينما يواصل ياسين استفزازه
"بصراحة أرى أن فرصتي أنا أكبر منك، يمكنني استمالتها إليّ ببساطة أما أنت فستجعلها تنفر منك بتصرفاتك"
التفت إليه قائلاً بصرامة باردة
"حقاً؟ وما الذي حدث للسيد عدو المرأة المتجهم طيلة الوقت؟ هل نسيت نفسك؟ أنت تجعل الفتيات يهربن من أمامك بنظرة، لا تقل أنّك ستتغير وتبدأ في تعلم أساسيات العشق والغزل؟"
مط شفتيه رادًا
"من تحدث عن العشق والغزل يا رجل؟ أنا أتحدث عن الزواج، ثم إنه ليس كل الزيجات قائمة على الحب، إلا إذا كنت أنت ترى شيئاً آخراً"

تنفس شهاب بحدة وقال وهو يسرع بسيارته

"ياسين، أغلق هذه السيرة لمصلحتك. أنا في هذه اللحظة لا أطيقك"

"هذا لأنني أضعك أمام مرآتك، وأجبرك على الاعتراف بما تصر على إنكاره"

أخبره باستفزاز فهتف شهاب بعصبية
"ياسين"

"تمام، تمام... لن أفتح فمي"

قال رافعاً كفيه باستسلام ثم أردف وهو يغمض عينيه
"أيقظني حين نصل"

رمقه بغيظ وتمتم هامساً من بين أسنانه
"سائقك الخصوصي أنا... يوماً ما سأفقد أعصابي وأقتلك"

"سمعتك بالمناسبة"
قال ياسين دون أن يفتح عينيه مكتفياً بابتسامة فشتم شهاب وهو يزيد من سرعته ينهب الطريق إلى بيت عمه وعقله يفكر في سمراء. تُرى هل يمكنه إقناعها كما يريد عمه؟ لكن كيف وهو لا يستسيغ هذه الأمور؟ هذه الأشياء التي تستهويها الفتيات هو يبغضها ولا يتخيل نفسه أبداً يتصرف بهذه الميوعة الماسخة.

لا، إلا هذه الحماقات، ليس هو.

ياسين قالها... إنّه زواج لا أكثر ولا أقل، الحب وتلك التفاهات لا مكان لها في حياته وعلى من سيتزوجها أن تفهم هذا ولا تطلب منه ما لا يطيق.

*************

"يبدو أننا لن نرتاح أبدًا من هذا الموال"

تمتمت رواء وهي تندفع بعصبية إلى البيت بعد رؤيتها لسيارة شهاب أسفل مسكنهم، قابلتها أمها ما أن فتحت الباب تحمل صينية عليها بعض الضيافة
"أمي، ما الأمر؟ من هنا؟"

ردت بهدوء وهي تتجه للغرفة
"ألم تميزي الأصوات؟ لماذا السؤال؟"
زفرت بحنق، بالطبع ميزت صوت ذلك البغيض المتعجرف، لكن الصوت الآخر لم تتبينه ولم يكن صوت شاهد.

سمعت صوت والدها وانقبض قلبها وهي تتبين نبرة الارتياح والسعادة في صوته. إنّه سعيدٌ بزيارتهم، ما زال الحنين إليهم يأكل قلبه.

تنفست بقوة وعقلها يتراجع عن رغبتها في اقتحام الغرفة وطردهما، ترددت في وقفتها حتى خرجت أمها، رمقتها بتحذير أن تتسبب في مشكلة تزعج والدها.

وقفت بتردد للحظة قبل أن تستأذن للدخول وتلقي السلام، رد ثلاثتهم تحيتها، واتجهت عيناها بتساؤل للشاب الأسمر الذي وقف باحترام وترحيب
"مرحباً، لا بد أنّكِ رواء... أنا ياسين ابن عمكِ جابر العزايزي"

"أهلاً بك"

ردت وهي ترمقه بتفحص، كان يحمل بعض الشبه بوالدها وهذا أزال القليل من نقمتها، وغضبها الذي عاد في لحظة حين لمحت الآخر الجالس بعجرفته المتأصلة
"أهلاً يا بنت عمي"
قال ببرودته مستفزاً إياها أكثر، فجلست وهي تومئ له بعجرفة تماثل خاصته. تألمت وهي ترى نظرات أبيها لهما وعاودها وسواسها القديم. 

هل يتمنى الآن لو كان أحدهما ولده؟ هل ما زال يتذكر خذلانها له قديماً؟ لم تكن له الابن الذي يفتخر به كل أب، لكنّها فشلت حتى كابنة.

طردت وساوسها بقوة، ليس والدها من يفكر هكذا، هو لم يشعرهن لحظة أنّه يأسف لأنّهن فتيات ولطالما أخبرهن أنّه لا يمكن أن يبدلهن مقابل عشرة من الأبناء الذكور.

استرخت ورفعت رأسها باعتداد قبل أن تنتبه لقول ياسين

"لا تعرف كم كنت متشوقاً لرؤيتك يا عمي، بالطبع أعتذر لأنّني لم أتشجع على القدوم قبل الآن"

لم تمنع لسانها من الترديد بسخرية
"بالطبع، كان يجب أن تنتظر قرار الكبير لتزور عمك"
رمقها أبوها بلوم لكنّها واصلت وهي تنظر لشهاب بتحد
"اعذراني، فلسنوات طويلة كنا مقطوعين من شجرة، وفجأة ظهر لنا أقارب مهتمون للغاية بشأننا وكل لحظة يقفزون لزيارتنا دون دعوة"

"رواء"

ناداها والدها بحزم لائم فقالت وعيناها لا تفارقان شهاب

"آسفة يا أبي، شهاب بك فيما يبدو يعرف الأصول والواجب، لن يغضب من قول الحق"
تدخل ياسين قاطعًا على شهاب رده الغاضب
"أنتِ محقة يا ابنة عمي، كلنا أخطأنا في حقكم، لكن أحياناً يكون حكم الكبار أقوى من إرادتنا جميعاً"

قبل أن ترد عليه نهض ليقترب من عمه ومال يقبل رأسه

"وها أنا ذا أعتذر منك مجدداً يا عمي، حقك علينا جميعاً"

رؤيتها للتأثر في عينيّ أبيها وتربيته على كتف ياسين بحب زادت غصتها، لم تعرف هل تمتن له أم تنقم عليه

"بارك الله فيك يا بني"

ردد بتأثر ليتابع ياسين وهو يعود لمكانه
"وبالنسبة لكُن يا بنت عمي، فأنا أعتذر نيابةً عن الجميع"

رمقه شهاب مقطباً فحدجته هي بشماتة وقد أدركت غيظه
"صحيح، الجفوة قاسية وظُلِمتم لسنوات، لكن كل شيء يمكن أن يتغير، لا شيء يبقى على حاله ولا بد أن تعود الأمور لنصابها الصحيح"

*********

نظراتها كانت تضغط على أعصاب شهاب أكثر مما يفعل ابن عمه، مال نحوه هامسًا بحنق
"ما الذي تفعله بالضبط؟"

ابتسم له خلسة وأجابه
"أصلح ما أفسدته أنت بعجرفتك وعصبيتك يا ابن عمي"

رمقه شهاب بتجهم قبل أن ينتبه لنظرات رواء القاتلة نحوه، بادلها النظرات بتحد بينما يقول ياسين أثناء صراعهما الجانبي
"كما سبق وأخبرك شهاب يا عمي، جدي نادمٌ بشدة لكنّه عنيدٌ كما تعرف، ربما هو ينتظر أن تمد يدك وتوافق على دعوته غير المباشرة للصلح"
قبل أن ينطق والدها اندفعت رواء
"عفواً، لكنني لم أر هنا أي دعوة للصلح"

رمقها والدها بلوم ونظرات صارمة فصمتت لحظة قبل أن تقول
"آسفة يا أبي، لكن دعنا نكون صريحين. اسمع يا أستاذ ياسين، منذ بضعة أشهر أتى ابن عمك المحترم هذا"
قالت مشيرة نحو شهاب الذي تشنج بعصبية غاضبة

"أتى بعرض متعجرف مثله يخبرنا أنّ الشخص الذي رمانا وتبرأ منا كل هذه السنوات يريد عودتنا للعائلة التي طردنا منها سابقاً"

قاطعها والدها بضيق
"رواء، لا تتحدثي بهذه الطريقة عن جدكِ"

أغمضت متنفسة بعمق ثم قالت

"تمام يا أبي، سأحاول تمالك لساني، لكن حقاً... الأمر كله مدعاة للسخرية، يرمينا لسنين ثم يأتي ليأمرنا وبعدها يبيعنا كالجواري لأحفاده الغالين كأنّ لا أب لنا ولا حتى رأي"

أسرع ياسين قبل أن ينطق هو بمزيد مما يفسد الجلسة
"شهاب خانه التعبير يا ابنة عمي"
رمقه شهاب بغضب أكبر
"اعذريه، هو معتاد على توجيه الأوامر بحكم نشأته. لقد رباه جدي ليكون مسؤولاً عن العائلة كلها من بعده"


كلماته لم تفعل شيئاً سوى مضاعفة كراهيتها لشهاب، الحفيد الذكر المفضل بينما هي وأختيها كنّ منبوذات طيلة حياتهن لأنّهن بنات الغجرية.

لو كان لديها عائلة كبيرة في ظهرها هل كان جد سالم يتجرأ على أذيتها وأسرتها بتلك القسوة؟

شتمت نفسها لاتجاه تفكيرها إليه وجاهدت لتركز مع ياسين الذي أكمل

"ربما أخطأ شهاب في إيصال رسالة جدي لكنّه أوضح لعمي كل شيء لاحقاً، موضوع الزواج هذا مفروغٌ منه"

"ماذا تعني مفروغ منه؟ هل ستجبروننا على الزواج رغم أنوفنا؟"

هتفت بحدة فأسرع يرد
"حاشا لله، قصدت أنّه لا علاقة له بعودتكن للعائلة ولا بصلح جدي وعمي. لن يجبركن أحد على شيء، شهاب وأنا سنكفل هذا لكُن... أليس كذلك يا شهاب؟"

انتبه على سؤاله فرمقه بغيظ ثم رد بخشونة

"لقد أخبرت عمي، أولاً الأرض لا علاقة لها بتاتاً بأمر الزواج، هي حقكن ولن ينتزعها أحد مهما حدث"

رمقته بسخرية غير مصدقة كلامه فتابع بحنق

"كما أنني أعطيت كلمة لعمي، لن يحدث إلا ما يريده ويرضاه"

نظرت إلى والدها باستفهام فأومأ مؤكداً، عادت تنظر لشهاب قائلة

"ماذا عن حلٍ أفضل من كل هذا الهراء؟"

تبادل الاثنان نظرة قبل أن ينظرا لها وهي تكمل

"لما لا تستمرون في نسياننا كما فعلتم لسنوات وتنتزعون أنوفكم من شؤوننا؟"

التفت شهاب لعمه قائلاً

"أيرضيك كلام ابنتك يا عمي؟"

انتبهت لتجهم أبيها ونظراته، وانقبض قلبها وهلة بينما تتذكر لحظات بعينها من ماضيها واختنقت مع الذكرى

"آسفة يا أبي، بالطبع لا كلام لي فوق كلامك. اعذرني، خانتني أعصابي"

رمقها بلوم أوجعها أكثر قبل أن يلتفت لشهاب

"سبق وتحدثنا يا شهاب وأنا أثق بكلمتك"

ونقل بصره بينهما مردفاً بحزم

"كما سبق وأخبرتك أنني لن أسمح لأي ضغط أو إجبار على بناتي"

استرخى قلبها قليلاً بينما ابتسم ياسين قائلاً بتأكيد

"بناتك على الرأس والعين يا عمي، هذا وعد مني أنا أيضاً. لن يحدث إلا ما ترضاه في النهاية"

فتح بدر فمه ليتكلم حين طُرق الباب وسمع زوجته

"لحظة يا حاج بدر"

نهض معتذراً منهما وغادر ليلتفتا نحو رواء التي سلّطت عليهما أنظارها بسخط وكراهية سمحت لها بالتحرر بعد مغادرة أبيها، كراهية أغلبها كان موجها لشهاب.


مال ياسين نحوه وهمس بعبث

"على فكرة، إنّها تناسبك أكثر. لو أردت رأيي، تليقان ببعضكما كلياً"

رمقه بنظرة سوداء بينما ضاقت عيناها وقد لمحت ابتسامته، دون أن تسمع كلماته

"دعك من سمراء، يبدو أنّها فتاة هشة رومانسية لا تناسب شخصيتك الجامدة هذه إطلاقاً"

"لا تقل لي أنّها تناسبك أنت"

لمعت عيناه وابتسم مغيظًا وهو يتراجع مسترخياً في الأريكة كأنّه في بيته الخاص

"ربما"

"إذا كنتم ثلاثة…"

قالتها رواء ثم أردفت بتهكم

"خيراً؟ أشركونا لنضحك معكم"

اعتدل شهاب بعصبية وكاد يرد، فأسرع ياسين يضغط على ركبته

"أخشى أن حديثنا لن يكون مضحكاً بالنسبة لكِ يا بنت عمي"

قالها مبتسماً تلك الابتسامة التي تذكرها بأبيها فأشاحت بضيق، لا تريد أن تعجب بأحد منهم ولا أن تمنحه فرصة من الأساس

قاطعتهم عودة أبيها بابتسامة واسعة وحدثهما بحبور

"هيا يا شباب، أُم رواء أعدت لكما غداءً شهياً ستأكلان أصابعكما وراءه"

اتسعت عيناها بينما تمتم شهاب معترضاً وهو ينهض

"شكراً يا عمي، بالهناء والشفاء لكم و..."

قاطعه ياسين بوكزة موجعة في خصره وهو يقول

"طبعاً يا عمي، وهل دعوتك أنت وزوجة عمي تُرد؟"

وترك شهاب المتجهم واتجه لعمه مواصلاً بمرح

"كما أنني على لحم بطني من الصباح، وهذا البخيل رفض التوقف في أي مكان لأشتري ما يسد جوعي"

أغمض شهاب بنفاد صبر بينما وقفت رواء بدورها تتابع انصرافهما بذهول. ما هذا الجنون الذي يحدث هنا؟ أمها تطهو الغداء لهما وأبوها يرحب بهما؟

التفتت لشهاب ورمته بنظرة قاتلة وتحركت نحوه فانتبه لها مقطبًا، قالت ما أن توقفت أمامه

"لا تحسب أن ما تفعلانه يخيل عليّ، ربما تخدعان أبي وتستغلان حبه لكم لكن لعبتكما لن تنطلي عليّ... نجوم السماء أقرب لكم مما تريدونه"

قالتها وتركته مدركة أنّ نظراته الساخطة تلاحقها ولا شك توعداته أيضًا.

*****************

تابعت تارا ابنتها تتقافز بشقاوة وسط أحواض الزهور، وتنهدت وهي تسترخي على الأرجوحة القريبة، لولا إصرار صغيرتها لظلت حبيسة غرفتها.

لا تريد رؤية أحد، لكنها مجبرة على التصرف كأن عالمها لم يهتز قبل أيام، مجبرة على مواجهة أكثر شخص تكرهه في العالم، المتجبر الذي ضيق الخناق حولها وما زال يفعل.

لن تلوم إيهاب بعد الآن فهي سبب كل مصائبها.

هزت رأسها مشيحة بوجهها فلمحت من بعيد جد زوجها ينزل متجهاً للسيارة التي أسرع سائقها يفتح بابها له. لمعت نظراتها بكراهية لم تحبسها خلف برودها ولا تدري هل لمحها من مكانه أو شعر بها فقد توقف لحظة والتفت نحوها، رمى نظرة طويلة تجاهها ثم تجاه لي لي المشغولة في جريها وراء فراشة ما.

خفق قلبها رعباً بينما ركب هو السيارة وغادر السراي. هل كان هذا تهديداً؟ ما الذي يـ...

 

"بوب"

انتفضت على هتاف ابنتها واستدارت بوجل، كان يقترب من مكانهما بابتسامة خص بها لي لي التي أسرعت إليه متناسية خصامها له

"بوب لقد أتيت"

تسارعت أنفاسها وتململت كأنّها تجلس على أشواك بينما التقط إيهاب الصغيرة بذراع واحدة 

"أميرتي،اشتقت لكِ كثيراً"

تعلقت برقبته

"أنا سعيدة لأنّك أتيت"

ضحك قائلاً

"هذا يعني أنّكِ سامحتني"

بدا أنّها تذكرت لتوها أنّها تخاصمه وقطبت لحظة فأسرع يقبل خدها

"أنا هنا لأصالحكِ "

"لا، أنا ما زلت غاضبة و"

توقفت فجأة لتلامس فكه المكدوم

"هل وقعت وآذيت نفسك؟"

خانت تارا نظراتها إليه وتوقفت عيناها على كدمته الواضحة. التقت نظراتهما فأسرعت تشيح بعينيها ونهضت لتغادر

"ﻻ، صدمني قطارٌ غاضب"

زمت لي لي شفتيها غير مصدقة

"كيف يحدث هذا؟ لا أصدقك. ماما، هل تصدقينه؟"

توقفت تارا بحرج ورمقتها بلوم، كانت على وشك الهرب بجلدها. قاوم هو حتى لا تخونه نظراته إليها وأسرع يقول

"المهم، دعينا من هذا. هل قبلتِ اعتذاري وسامحتِني؟"

"ليس بعد"

قالتها بعناد طفولي فضحك 

"وهكذا؟"

سمعت شهقتها السعيدة فنظرت لتجده أخرج يده الأخرى من وراء ظهره، صرخت لي لي بفرح وهي تنتزع الدمية التي طلبتها مسبقاً وأرغمتها على إرسال صورتها إليه

"ماما انظري، بوب أحضر الدمية لي"

ابتسمت لها بشحوب وصدرها يختنق أكثر

"هل أعجبتكِ؟"

سألها بحنان فهزت رأسها بحماس

"جداً جداً"

ضحك يطالبها

"وأين رد هديتي إذن؟"

أجابته بضحكة ثم أمسكت خديه بكفيها الصغيرتين 

"شكراً يا بوب، أنا أحبك كثيراً جداً. أحبك... أحبك"

أغرقت وجهه بقبلاتها لتتعالى ضحكاته أكثر، لم تحتمل تارا فأسرعت تبتعد رحمة بأعصابها.

******************

 

 رغمًا عنه تابعتها عينا إيهاب بحسرة حتى اختفت عن ناظريه في اللحظة التي توقفت لي لي عن سيل قبلاتها فسألها مقاومًا تعاسته

"هل صالحتِني إذن؟

لمعت عيناها بشقاوة ثم ردت بترفع

"تمام، صالحتك"

قبل خدها بحب ثم أنزلها برفق لتقول وهي تحتضن الدمية بسعادة

"سأذهب لأريها لتيتا ونيرو... إياك أن تذهب دون إخباري"

حذرته قبل أن تجري فأومأ بوعدٍ صامت، أرسلت له قبلة في الهواء وعادت تجري. تابعها وهي تتقافز بحماس وابتسم بأسى، قبل أن ينقل بصره إلى الأرجوحة حيث كانت نجمته.

خطا نحوها بتثاقل، كان متعباً ليقاوم رغبته في أن يشعر ولو قليلاً أنها كانت قربه. مد يداً مرتجفة ليلامس ظهر الأرجوحة وتوقفت عيناه على وردة بيضاء فوق الكتاب الذي نسيته.

طاف خيال أسامة من جديد أمامه فعادت غصة كراهيته لنفسه، كيف يطعنه بهذه الخسة؟ كيف يفكر فيها حتى إن لم يكن قلب أسامة معها؟ لا يحق له.

تخاذلت ساقاه، فأسرع يجلس بقلب مهموم. 

هل من فكاك من ذلك الأسر؟ هل يجد مهربًا من مشاعره التي منذ عرف الحقيقة وهي تتغول وتزداد وحشية؟ روحه تصرخ مطالبة بنصفٍ أصبح محرمًا عليه، بوطن هجره مختارًا لينبذه الوطن وينفيه بلا أمل في العودة.

لكن هل كان بيده حل آخر سوى الهجرة؟

تلك كانت نهاية متوقعة،

لكنه تناسى حين جرفه تيار عشقها، تناسى أن جده لن يسمح له بالزواج منها، لن يسمح له أن يحب ويفوز بحبه من الأساس.

إن كان لم يسمح لحفيده المفضل نفسه وفضل خسارته ورحيله على زواجه منها، هل اعتقد أنه سيكون أوفر حظاً؟

كل من أحب في هذا السراي خسر وانتهى، 

لا مكان هنا للحب.

لكنّه لم يفق من وهمه إلا في ذلك اليوم الذي تسلل فيه إلى مكتب جده بحثاً عن أوراقٍ مهمة، كان يريد شيئاً يمكنه من تدمير كل شيء تعب جده من أجله، يبحث عن نقطة ضعف تجبره على التراجع ورفع يديه عنهم، لكن ما وجده كان نقطة ضعفه هو...

ذلك الملف الذي وجده بالمكتب يحوي صوراً لتارا بعضها كان برفقته، ومعلومات كثيرة عنها هو نفسه لم يكن يعلمها. سقط قلبه بين قدميه، وأدرك أن النهاية حلت سريعاً، وكان عليه أن يقطع الطريق على جده ليحميها.

أعاد الملف مكانه وغادر وفكرة واحدة تدور بعقله، عليه الرحيل، عليه الابتعاد ربما يقتنع جده أنها مجرد زميلة عادية، ويتوقف عن تعقبها. لن يخاطر أن يفعل بها كما فعل برواء وأسرتها، كان مستعداً لفراقها فقط لتبقى بأمان.

في اليوم التالي ذهب إليه بنفسه وجلس أمامه هادئاً مدعياً الأدب والخضوع، معتذراً عن تصرفاته المتخبطة بعد رحيل سالم ثم وعده أنه سينتبه لدراسته، وأنّه قرر السفر لإكمالها في الخارج.

تأمله جده بنظراته الثاقبة كأنما يريد الوصول للحقيقة المخفية وراء هدوئه، قلبه المرتعد خوفًا عليها ساعده ليتخطى تلك اللحظات الصعبة، مضت برهة كادت تحرق أعصابه قبل أن يرحمه جده أخيراً وابتسم مردداً باستحسان

"ﻻ بأس، خطوة جيدة. كنت أعرف أنك ستعود لعقلك سريعاً"

الآن يتذكر الطريقة التي كانت عينا جده تملعان بها، لو كان يفهم أو يدرك لعرف ما ينتويه

"من يدري؟ ربما سفرك يزيدك نضجاً وإرادة، كما تعلم لم أعد أملك سواك أنت وأسامة وأعتمد عليكما في رفع اسم العائلة، عندما تعود ستباشر مهامك في الشركة معه"

أومأ دون كلمة زائدة فعاد جده يبتسم

"وربما وقتها أكون قد وجدت عروساً تليق بك"

وصمت لثوان قبل أن يردف بنظراته الماكرة

"أم أنك وجدت واحدة أنسب من اختياري؟"

جاهد حتى لا تفضحه مشاعره وابتسم بهدوء

"هل كنت سأتركها لو وجدتها؟ لا، اطمئن... كما أنني أثق أنك ستختار الأفضل يا جدي"

أومأ وعيناه المثبتتان عليه تزدادان تألقاً

"بالطبع، أنا أختار الأفضل لكم جميعاً"

شعر بكلماته الواثقة تخترق قلبه برسالته المبطنة، وكان يجب لحظتها أن يفهم ويعرف أنه بهروبه لا يحمي تارا، بل يبعد عنها خطة حمايتها الأول... هو نفسه.

********

وخزة مؤلمة قطعت عليه شريط ذكرياته فخفض عينيه ليجد نفسه ممسكًا بالوردة التي تركتها خلفها، شوكة منها انغرست في إصبعه لكن قلبه انتفض حين أدرك بجزع أنّ الوردة كانت تلامس شفتيه.

متى رفعها إلى فمه ليقبلها؟

حين كانت افكاره في شريط مواز لذكرياته،

يعانق في الوردة يدها التي أمسكتها وأنفاسها التي داعبتها…

هل داعبت بها خدها الحريري؟ هل قبلتها بشفتيها الـ

ألقى الوردة وانتفض كالملسوع .. أسرع ليهرب من السراي كله لكنه توقف متذكرًا وعده لي لي فأطرق متحركاً بتثاقل إلى الداخل وحمد الله أن لم يلتق أحدًا في طريقه إلى غرفته. لم يكن ليحتمل مواجهة سخيفة مع نيروز ولا قلق سمية وأمومتها.

ارتمى على فراشه مغمضًا بتهالك،

هو في حرب مع الحياة منذ رحلت أسرته، حرب لا تنتهي ويبدو أنّها لن تنتهي.

كان يجب أن يموت معهم، 

فلماذا لم يمت؟

 ***********************

زقزقة العصافير على باب شرفتها كانت من الأصوات التي تعشقها،

كانت تحب الاستيقاظ على صوتها دائمًا،

لكن في هذه اللحظة هناك نوع آخر من العصافير ستكون ممتنة لو صمتت عن الزقزقة ولم تخنها أمامه.

عصافير معدتها التي تكاد تموت جوعًا.

لكنها تفضل الموت شخصيًا على أن ترضخ له.

بينما عصافير معدتها لديها رأي آخر وهي تقف في هذا المكان تحديدًا، 

مطخبه الملعون.

طافت رويدا بعينيها حولها ببرود قبل أن ينبهها صوته الآمر

"ما زلتِ واقفة مكانكِ، هيا تحركي. أنا جائع"

رمقته بنقمة وسبته داخلها مرارًا قبل أن تقول وهي تستند للمطبخ الخشبي خلفها

"وما شأني أنا  فلتمت جوعاً أو تذهب للجحيم"

ابتسم وهو يسحب مقعداً ليجلس إلى الطاولة

"عندها عليكِ القلق بشأن نفسكِ . إن مت لن تستطيعي مغادرة الجزيرة للأبد"

حدجته بكراهية ثم هتفت

"لا تقنعني أنّه لا توجد وسيلة لمغادرة هذه الجزيرة الملعونة؟ أنت تذهب وتأتي بكل أريحية"

ضحك مغيظاً إياها

"بالفعل، لكنكِ لن تعرفي مكانها أبداً، وسأحرص قبل موتي على حبسكِ في جناحي وتخيلي عندها مصيركِ"

وأشار بعجرفة 

"هيا ابدأي، ليس لدي اليوم بطوله"

تجاهل تعابيرها القاتلة وتراجع مسترخياً في مقعده بينما تفتح الأدراج بعصبية. قبضت بعنف على أول سكين قابلها والتفتت له لكنّه ابتسم بسماجة وهو يلتقط الجريدة ويبدأ قراءتها ببرود.

 فكرت مليًا، إنّه محق. هي في مكان معزول ولا تعرف أين هي أصلاً ، لا تعرف أين يخفي يخته أو هاتفه، لكنّها تقسم أنّها ستجد طريقة للهرب من هنا، لا بد.

انتفضت عندما هتف من خلفها

"ما زلتِ واقفة؟"

انقبضت يدها على السكين أكثر، ستفقد أعصابها في أي لحظة وتقتله. تنفست بعمق تهدئ من نفسها ثم تحركت لتفتح الثلاجة وتتفحص محتوياتها. قاومت ابتسامتها الشريرة وهي تلتفت لتسأله بنعومة جلعته يرفع أحد حاجبيه بتوجس

"لم تخبرني سموك ماذا تريد أن تأكل؟"

رد بابتسامة ساخرة

"أي شيء من يديكِ الناعمتين يا فراشة"

منحته ابتسامة أكثر سماجة وأدارت ظهرها له وهي تتوعده، ولم تلمح ابتسامته التي اتسعت وهو يراقبها من طرفٍ خفي.

لم تمض دقائق حتى قطعت هي الصمت الثقيل بصرخة ألم حين جرعت إصبعها بغباء، انتفض هو في لحظة واندفع نحوها هاتفًا

"ماذا حدث؟  هل جرحتِ نفسكِ؟"

التفتت له بعينين دمعتا بألم ورفعت إصبعها الدامي، شدها نحو الحوض دون كلمة. ألمها انزوى عندما أدركت مدى قربه، ونظرت بتوتر لكفه تمسك يدها أسفل المياه. التفتت ترمقه بتوتر، كان مقطباً بشدة ولم تنتبه أنّه أغلق الماء وبدأ يفحص جرحها.

 انتفضت من شرودها على صوته بينما يتركها

"انتظري هنا"

تابعته عيناها بتشتت حتى عاد سريعًا، يحمل صندوق الإسعافات الأولية وضعه على المائدة وأسرع يشدها لتجلس. خانتها عيناها من جديد وتأملته بحيرة، هذه أول مرة يعاملها بهذه الرقة. 

إحساس غير مرغوب فيه انتابها وهي تتأمله يعتني بجرحها برقة شديدة. تأوهت حين وضع المرهم على جرحها ليرفع عينيه الزرقاوتين لها حابساً أنفاسها بما رأته داخلهما من اهتمام وقلق

"لا بأس، سيؤلم قليلاً"

ماذا يفعل بالضبط؟ كيف انقلب فجأة؟ هل هي تهذي؟ ربما هو أثر إضرابها عن الطعام، بالتأكيد وإلا فلم بدأ الدوار ينتابها هكذا، ورائحة عطره تزيدها تشوشاً ودوراناً.

انتبهت على صوته وهو يضع اللاصقة الطبية

"انتهيت"

"شكراً لك"

سبت نفسها عندما سمعت صوتها المرتجف. 

هل شكرته للتور؟ شكرت خاطفها الحقير الذي...

كانت يدها لا تزال بكفه فاتسعت عيناها وهي تسحبها بسرعة وانتبه هو الآخر لتصرفه فسارع يأمرها بغلظة

"يكفي دلالاً وقومي لتنهي صنع هذه الوجبة الحمقاء"

حدقت فيه بصدمة وغباء

"ألم تسمعي؟"

طردت صدمتها لتهتف بشراسة

"هل جُننت؟ كيف سأعمل ويدي مجروحة؟"

ابتسم ببرود

"لا تبالغي يا ماريبوسا، إنّه مجرد جرح صغير"

كزت على أسنانها ليتابع 

"لا أريد أن أفكر أنّكِ تعمدتِ جرح نفسكِ . حتى لو أصبتِ يدكِ كلها ستواصلين العمل، مفهوم؟"

عادت نظراتها تشتعل بجنون فأشار لها بعجرفة

"لا تنسي أنّه ما زال أمامكِ تنظيف الجناح، وبعدها ستبدأين تنظيف الفيلا جزءاً جزءاً. هيا أسرعي"

قاومت حتى لا تفتح قاموس شتائمها الغني، ونهضت بعنف من كرسيها وهي لا تتوقف عن سبه داخلها، مرت الدقائق وهي تشتعل كالنار التي تعد عليها الطعام وحين انتهت التفتت تحمل صينية فوقها طبقان وضعتهما أمامه بعنف كاد يطير الطعام وهي تهتف بحقد

"بالسم الهاري"

ضحك بقوة أغاظتها 

"أنت متأكدة أنك تربيتِ في بريطانيا لا في إحدى الحارات المصرية؟"

انقبض قلبها وهي تتذكر أول مرة سمعت فيها ذلك التعبير الذي رددته لاشعوريًا.

كانت صغيرة للغاية، ولم تكن تتحدث العربية أو تفهمها. كان أول ما التقطته في زيارتها الأولى لموطن والدها ولقائها بعائلته. لم تفهمه لكنها ردت على قائلته بابتسامة شديدة البراءة ولم تفهم معنى العبارة السامة إلا بعد سنوات طويلة.

قاومت ذكرياتها المريرة وهتفت فيه

"ألديك اعتراض سموك؟"

هز رأسه ضاحكا

"نعم، أليس من المفترض على طباخ السم أن يتذوقه أولاً؟"

"نعم؟ أتذوقه؟"

"بالطبع، لديكِ اعتراض؟"

خانها ارتباك عينيها لكنها وراته بسرعة البرق

"هل ظننت نفسك ملكاً حقا؟"

هز كتفيه وحرك الطبق تجاهها فقالت ببرود

"شكراً، لا أشتهي الطعام. أنا..."

شهقت والأرض تختفي من تحتها فجأة عندما جذبها، لتجد نفسها في لحظة جالسة على ساقيه تحدق فيه بصدمة 

"ماذا تفعل أيها الـ..."

قطع شتمتها واضعاً ملعقة مليئة بالطعام في فمها، سحب الملعقة وأجبرها على غلق فمها 

"أختبر السم الذي صنعته يداكِ قبل أن أتناوله"

اتسعت عيناها بشدة ودمعتا ما أن لفحها لهب الفلفل الحار الذي تعمدت وضع كمية كبيرة منه في طعامه. ضربته بكفيها بينما تقاوم حصار ذراعه الذي قيدها. ارتباكها حال دون أن تقرر بلع الطعام أو مضغه متناسية خياراً ثالثاً لم تلبث أن تذكرته فأسرعت تبصقه صارخةً بجنون

"أيها الوغد، أيها الحقير... اتركني"

رد بخبث 

"خسارة أن فمكِ مشتعل بالشطة. كنت نفذت وعدي، لكن لا بأس. تدينين لي بعشرين قبلة مقابل شتمتين"

صرخت وهي تضربه وترفس بساقيها

"سأقتلك أيها اللعين، دعني"

"أصبحت ثلاثين"

حدجته بقهر قبل أن تنتبه لكوب الماء، فمدت يدها بلهفة لكنّه أسرع يسحبه بعيداً عنها، فصرخت بشراسة جنونية

"أيها الحقير"

"صار الحساب أربعين قبلة"

تسارعت أنفاسها بوحشية وأعماها الغضب قبل أن تتوقف فجأة عن المقاومة وتبتسم مثيرة قلقه ثم قالت بنعومة 

"أنت محق... دعنا نخلص ديوننا أولاً بأول"

وقبل أن يفهم أمسكت وجهه بين كفيها بقوة ومالت نحوه، اتسعت عيناه بصدمة قبل أن ينتقل الحريق من شفتيها إليه. حاول إبعادها، لكنّها تمسكت بوجهه أكثر، ورغبتها في الثأر وإذاقته بعض ما تعانيه لغى كل تفكير عاقل لديها ولم تستفق من اندفاعها المجنون إلا حين ارتفعت كفاه لتحيطا رقبتها لا ليبعدها بل ليقربها إليه.

شهقت مبتعدة بصدمة وحدقت فيه بأنفاس متسارعة، استغلت صدمته ودفعته بقوة لتنهض واقفة، رفعت رأسها مدعية القوة والتحدي

"واحدة بواحدة، لا تظن أنني سأرضخ لك دون مقاومة. كل أذية سأردها بالمثل وأكثر فحاذر مني"

رفع كفه يلامس شفتيه الملتهبتين، يحدجها بنظراته المتقدة، فقاومت ارتباكها وخوفها لتهتف

"المرة القادمة التي ستقترب فيها مني سأقتلك ولا يهمني إن كنت سأموت منعزلة على جزيرتك اللعينة"

قالتها واندفعت تهرب إلى الجناح، أغلقت بابه واستندت إليه لاهثة تحدق أمامها بذهول، صفعت خدها فجأة. ما الذي فعلته؟ هل فقدت عقلها؟ لامست قلبها الذي يضرب بعنف وعادت تردد مصدومة

"ماذا تفعلين يا حمقاء؟ هل تنتقمين منه أم توقعين نفسكِ في فخه؟"

دارت تسند جبينها للباب وضربته مراراً

"غبية، حمقاء. لقد قبلتِه... قبلتِه يا وقحة ولم يمض أيام على اختطافه لكِ، ماذا ستفعلين إذن بعد شهر؟"

*******************

عقدت تارا رباط روبها المنزلي وهي تنظر في المرآة لوجهها الشاحب والهالات السوداء حول عينيها. ما الذي تفعله بنفسها؟

ماذا توقعت بعد أن نسفت بحماقة الجدار الذي بنته واحتمت خلفه لسنوات. سقط قناعها ورجعت للصفر بل ربما أبعد.

تنهدت وهي تتحرك لتجلس على حافة الفراش تتطلع نحو غرفة أسامة بشرود. آه لو تستطيع إخباره بكل ما يؤرقها، ليتهما على الأقل استطاعا إيجاد نقطة مشتركة ليصبحا صديقين بدلًا من حياتهما البائسة هذا.

دمعت عيناها وهي تتذكر، هي من أفسدت تلك الفرصة. لو أنّها لم تضعف أمام وسوسات أمها وكلامها اللاذع، إحساسها المرير أنّها فاشلة مهما فعلت والدليل فشلها في الحصول على حب زوجها.

**

كانت قد مضت ست أشهر على زواجهما ولم يقربها، هي نفسها بعد ليلة زفافهما وبعد أن سكنت كرامتها الجريحة وتركت عقلها يفكر لأول مرة بحكمة منذ هجرها إيهاب، عرفت أنّ قلبها لم يتأثر برفضه، بل ربما تصرفه أراحها كثيرًا، حتى عادت أمها لتضغط على عقدها بكل قسوة.

أسامة مد يده لها بالصداقة وكان يمكنهما التقدم، ربما وجدا فرصة ليحبا بعضهما وينسى كل منهما ماضيه، لكنّها أفسدت كل شيء بضعفها أمام أمها، برغبتها المستميتة لتنال رضاها ولتثبت لنفسها أنّها ليست فاشلة كما تتهمها دوماً.

****

صباح زواجهما نهضت بعد ليلة عذاب طويلة، غادرت الغرفة بحزم عازمة على التحدث معه وطلب الطلاق. لم تفكر وقتها فيما سيقوله الناس، كانت مجروحة بشدة منه ومن نفسها وحماقتها.

خرجت لتجده نائماً على الأريكة، رمقته بحقد وهي تراه ينام بسلام لم تحصل عليه هي لدقيقة. اقتربت تنوي إيقاظه بعنف لكنّها توقفت على بعد خطوة حين رأت العذاب الشديد على وجهه وسمعت همسته المتألمة

"أنا آسف"

لوهلة تشتت بين شعور بالشماتة والشفقة عليه، عادت للغرفة وقررت انتظار قدومه ليتحدث معها كما وعدها. غيرت فستانها ومسحت زينتها الفاسدة وارتدت ثوباً محتشماً ووضعت قناعاً من القوة والبأس وانتظرت حتى أتى يطرق الباب. 

حين فتحت كان يقف مشيحًا وجهه ونظراته متمتمًا بخفوت

"صباح الخير. أعتذر ولكن، أردت التحدث معكِ قبل أن ننزل لمقابلة العائلة"

أومأت بجمود وتقدمت تغادر الغرفة وتغلق بابها في رسالة صامتة أنّها من اللحظة تضع حداً فاصلاً بينهما. لحقته إلى الصالة وجلست على الكرسي المقابل للأريكة التي جلس هو عليها صامتاً مطرقاً فرددت بخشونة

"قل ما عندك"

رفع رأسه مجفلاً ورمقها للحظات بندم وصمت ثم همس

"أولاً... أعتذر بشدة عن تصرفي أمس"

ابتسمت بسخرية 

"أي تصرف؟ تقصد عندما رميت في وجهي حقيقة حبك لأخرى متجاهلا شعوري في ليلة يُفترض أنّها ليلة العمر؟"

أطرق مغطياً وجهه بكفه ثم زفر بتعب

"آسف حقاً... كان اختياري للوقت سيئاً.. اعذريني، أنا حقاً"

صمت بعجر للحظات ثم نظر لها بندم أكبر

"صدقيني، خرج الأمر عن يدي. حاولت كثيرًا الاعتراف لكِ . أقسم حاولت لكن لم أستطع. كنت مجبراً... عندما أصبحنا بمفردنا أمس، شعرت أنني سأنفجر إن لم أعترف، شعرت هذه الجدران تطبق عليّ وتخنقني"

قبضت كفيها في حجرها منصتة بجمود بينما يردف

"صدقيني يا تارا، أنا أتعذب مثلكِ تماماً، ربما أكثر. لأنني أنا النذل هنا، أنا الجبان الذي لم يستطع مواجهة جده، لكن المواجهة كانت ستكلفني أغلى ما لدي، لم أملك خيارًا"

غلبت نقمتها عليه شفقتها 

"فقلت تضحي بي أنا وتقتلني"

"ﻻ والله، أقسم لكِ  لم يكن لدي أي خيار... تارا"

ناداها برفق وهو ينهض ويتجه إليها، تفاجأت به يجلس أمامها على إحدى ركبتيه ناظرا لها برجاء 

"هل في أي يوم أعطيتكِ إشارة واحدة أنني معجب أو راض عن خطبتنا؟ هل حاولت الاقتراب منكِ وإزالة الحاجز بيننا؟"

نظرت له بحيرة وعقلها يجمع الخيوط معترفاً

"بالعكس، كنت رسمياً وجافاً في معاملتي، لم أتصرف يوماً كخاطب يميل لمخطوبته، لا أدري كيف لم تشكي ولم تشعري بوجود خطأ. كيف استمريت مع رجل لا تشعرين حتى بإعجابه؟"

لوهلة بدت لها فترة خطبتها مشوشة وبعيدة وارتبكت أفكارها بينما يضيف

"ليست المشكلة بكِ . أنتِ فتاة جميلة ورائعة، أي رجل سيكون محظوظاً أن تكوني زوجته"

أغمضت عينيها تمنع دموعها بصعوبة 

"سأفعل كل ما يرضيكِ ، فقط دعينا نتجاوز هذا معاً"

حاولت التفكير فيما كانت أمها ستفعل لو كانت في موقفها، ثم فكرت بهلع فيما ستقوله إن عرفت بما حدث.

لا، لن تستمر في هذا فقط خوفًا من أمها. رفعت رأسها تقاطعه حديثه بجمود

"طلقني، أنا أريد الطلاق"

رفع رأسه مجفلاً قبل أن يهمس

"سأفعل كل ما تطلبينه"

هكذا ببساطة؟ لن يحاول حتى مد يده ربما وجدا فرصة لـ... لأي شيء؟ هل هي حمقاء لتغرق أكثر في هذا الوضع البائس؟

"لكن لا يمكنني الآن"

هتفت بحنق

"لماذا؟"

"سننتظر بضع أشهر، لا يمكننا الطلاق الآن... من أجلكِ"

"حقاً؟ لأجلي؟ شكراً لاهتمامك"

رددت ساخرة فتنهد بتعب قبل أن يمسك كفها برفق، حاولت انتزاعها لكنّه منعها 

"مهما كان ظنكِ بي، أنا أهتم فعلاً، لا يمكنني تعريضكِ لكلام الناس. يكفي أنانيتي معكِ وتوريطي لكِ "

تمتمت بألم

"لقد آذيتني وانتهى الأمر"

أطرق بندم ثم عاد ينظر لها وقال وهو يضغط على كفها

"سأفعل كل ما يلزم لأكفر عن ذنبي في حقكِ . فقط، تحملي هذا الوضع قليلاً وأعدكِ لن أزعجكِ أبدًا"

سحبت يدها منه ونهضت مغمغمة 

"أنا متعبة وأحتاج للراحة"

اعترض طريقها قائلاً

"ارتاحي وفكري كما تريدين لكن أريدكِ أن تعرفي شيئاً واحداً"

رمقته بتساؤل حزين فعاد يلتقط يدها يخبرها بأسى

"ربما ليس لي الحق في طلب هذا لكن... اعتبريني صديقكِ خلال هذه الفترة التي سنقضيها معاً، دعينا لا نقضيها في توتر وكراهية"

لم تجد بُداً من هز رأسها، كانت متعبة لتفكر أكثر في الأمر،بعدها تركته وعادت إلى الغرفة بشتات، استلقت على الفراش وغرقت في نومٍ عميق شاعرة ببعض الراحة رغم كل شيء.

***********

راحتها التي لم تستمر بسبب غبائها وضعفها حين قلبت كل عالمها فلم يعد إلى طبيعته من يومها ويبدو أنّه لن يعود أبدًا.

 

رنين الهاتف قطع عليها أفكارها القاتمة فنهضت ببطء تلتقطه، جلست على المقعد القريب من شرفتها المفتوحة قبل أن تجيب

"مرحباً يا جيلان"

ابتسمت بشحوب وهي تستمع لتحيتها وصخبها المعتاد

"هل أيقظتكِ"

"لا، أنا مستيقظة، لا تقلقي"

تنهدت جيلان ثم قالت بمرح

"لم أصدق حين وجدت رسالتكِ  واتصلت بكِ دون تفكير... أعتذر لكنني عدت لتوي من السفر. لم أستطع تلقي اتصالاتكما أنتِ وإيهاب"

تجاهلت بضراوة اهتزاز قلبها لذكره

"أبلغيه اعتذاري، أهو بجواركِ؟"

لم تستطع الرد بينما واصلت جيلان دون انتظار ردها

"هل هو نائم؟ لا أصدق أنّه يترككِ تسهرين بمفردكِ . هل الزواج يقضي على الرومانسية حقاً؟"

أسرعت تقاطع ثرثرتها المعتادة 

"هذا ما كنت أريدكِ بخصوصه"

ضحكت سائلة

"ماذا؟ اتصلتِ لتشتكي منه؟ أنتِ قلقة أنّه لم يعد يحبكِ كالسابق"

فتحت فمها لتعترض وجيلان تردد

"ﻻ تقلقي، ما رأيته يقول أنّ عشقه لكِ أصبح أكبر بكثير... نظراته لكِ تفضحه، أنتِ محظوظة يا فتاة"

دمعت عيناها وزاد اختناقها 

"جيلان، اسمعيني لحظة أرجوكِ"

"نعم حبيبتي"

تنفست بعمق وسألتها

"هل يمكن أن نلتقي غداً إن كنتِ متفرغة؟"

صمتت جيلان وقد التقطت نبرتها الغريبة 

"طبعاً... ما الأمر؟ كل شيء بخير معكِ؟"

"نعم، لا تقلقي. أريدكِ في أمر مهم ولا يمكنني إخباركِ على الهاتف"

صمتت لحظة ردت بعدها

"حسنا، كما تريدين. لدي موعد غداً في نادي (....) يمكننا اللقاء بعده"

اتفقتا على موعد لقائهما قبل أن تودعها متمنية لها ليلة سعيدة. تمتمت بحزن وهي تنظر خارجاً نحو السماء

"ليلة سعيدة لكِ يا جيلان أما أنا... فلا أظن"

********************

 

تراجعت لي لي مغلقة باب جناح والديها بهدوء، كانت قد طرقته لكنّ أمها لم تسمعها، ظنتها نائمة لكنّها كانت مستيقظة، ولم ترد عليها حين نادتها، كانت تنظر للسماء كما يفعل والدها حين يكون حزينًا، أمها أيضًا كانت حزينة.

تحركت مطرقة بعينين دامعتين، ولم تلبث تعاستها أن تطايرت وفكرة تلمع بعقلها، فرقعت إصبعيها بحماس 

"نعم، ستفرح هكذا"

أسرعت تنزل في طريقها للمطبخ، تتقافز مرددة نغمات أغنية أطفال تحبها قبل أن تتوقف وقد لمحت خيالا مألوفًا

"عمو سالم!"

نادته وهي تلحق به لكنّه لم يسمعها، توقفت بتردد حين أدركت أنّه يذهب للمنطقة المحرمة، تلك التي عنفها جدها بقسوة حين رآها تتسلل إلى هناك ذات يوم.

بكت كثيرًا يومها وصارت تخشى الذهاب إلى هناك، وعقلها أبدع في ابتكار خيالات مخيفة بشأنها.

غلبها فضولها وطمأنت نفسها أنه لن يصيبها أذى ما دام عمها هناك، لن يحدث شيء وهو لن يعنفها، إنّه يحبها كثيرًا.

قبل أن تلحقه لمحت دادة إحسان تمر عبر الردهة فقفزت آخر درجة وهي تناديها فالتفتت لها بدهشة

"لي لي، ما زلتِ مستيقظة؟"

أسرعت إليها وأمسكت كفها قائلة برجاء

"دادة إحسان، ماما لا تستطيع النوم. هل يمكنك عمل هوت شوكليت من أجلها؟"

ابتسمت بحنان وربتت على شعرها

"طبعاً حبيبتي، اذهبي أنتِ وأنا سأحضره لها في الحال"

احتضنتها مرددة بسعادة

"شكراً لكِ ، أنا أحبكِ كثيراً"

تابعتها بابتسامة حانية بينما تسرع لي لي بالصعود، عادت لترددها تنظر إلى الاتجاه الذي اختفى فيه سالم وحسمت ترددها سريعًا لتلحق به.

توقفت بعد لحظات في الرواق شبه المعتم لا تعرف أين تتجه

"عمو سالم... عمو أين ذهبت؟"

همست بخوف وهي تتحرك ببطء حتى لمحت نورًا يتسلل من فتحة صغيرة لأحد الأبواب فأسرعت 

"عمو سالم؟"

توقفت عند الباب وتراجع الخوف مفسحاً مجالاً لفضولها. نظرت عبر الفرجة الصغيرة وهي تهمس لنفسها بلوم

"ماما ستغضب، قالت عيب أن نفعل هذا"

لمحت فجأة حركة بالداخل فتراجعت خطوة، رأت أحدًا يتحرك بتوتر قبل أن يجلس على الفراش. اقتربت وعيناها تتعلقان بفلك التي جلست مطرقة، تحيط ساقيها المضمومتين إليها بذراعيها وتبدأ في الاهتزاز للأمام والخلف.

لم تنتبه لالتصاقها الشديد بالباب لتجد نفسها في لحظة تتعثر مندفعة للداخل، تمالكت نفسها قبل السقوط.

****

رفعت فلك رأسها مجفلة وتراجعت بخوف حلت مكانه الدهشة لدى رؤيتها لمقتحم خلوتها.

رفعت لي لي رأسها، ورددت بوجه محمر وضحكة شقية

"أنا آسفة، لم أقصد أن..."

صمتت محدقة فيها بانبهار واقتربت دون خوف 

"واو، أنت تشبهين تلك الفتاة في فيلم الكرتون"

رمشت فلك وهي ما زالت تحدق فيها بدهشة، بينما قفزت لي لي جوارها دون دعوة أو شعور بالحرج

"شعركِ أسود ناعم وقصير مثلها"

تراجعت فلك بحدة قبل أن تلمسها، فأنزلت يدها بسرعة

"آسفة، لكن شعركِ جميل جداً"

استكانت فلك تنظر لها ملياً ومدت يدها تلمس شعرها الطويل الذي يشبه سنابل القمح فضحكت لي لي معتبرة أنّها إشارة لقبولها

"أنتِ جميلة جداً"

دمعت عينا فلك وهي تتأملها، براءتها تعيدها إلى فلك الصغيرة التي فقدتها. يوماً ما كانت مثلها.

 سمعت لي لي تشهق فجأة بجزع

"هل سقطتِ وآذيتِ نفسكِ؟"

انتفضت مع لمستها لجرح خدها، وعادت تتراجع بشحوب وألم ملأ نظراتها، تخفي جرحها بيدها، فترددت لي لي بارتباك وخوف لكنّها تمالكت نفسها سريعًا 

"أنا أيضاً سقطت وجرحت نفسي وظللت أبكي. انظري أنا أيضاً لدي واحد"

قالتها وهي ترفع بنطالها لتكشف عن الجرح الصغير في ساقها وعادت تخفضها متمتمة

"لكن ماما قالت أنّه سيختفي بعد فترة"

ونظرت لجرح فلك مواصلة باهتمام

"لا تخافي، سيختفي جرحكِ أنتِ أيضاً"

ارتجفت شفتاها بألم، من قال هذا؟ جرحها لن يشفى أبداً، لا الذي شوه بشرتها ولا المحفور في روحها.

لم تدر أنّ دموعها تسيل إلا حين هتفت لي لي

"لماذا تبكين؟"

حدقت فيه عاجزة عن التوقف، وانهمرت دموعها أكثر، رؤيتها لها جعلتها تفتقد فلك الصغيرة، تفتقد نفسها بشدة.

ازدادت حرقة بكائها فارتبكت لي لي ودمعت عيناها بالمثل 

"لا تبكي. أنا لم أقصد أن أحزنكِ . أنا آسفة"

شهقت واهتز جسدها بالبكاء فلم تتمالك لي لي نفسها وانفجرت باكية هي الأخرى

*** 

بكاؤهما اخترق سمع سالم الذي كان لتوه يغادر غرفة جدته فاندفع إلى غرفة فلك هاتفًا بجزع

"ماذا يحدث؟ لي لي... فلك، لماذا تبكيان؟"

جرت لي لي إليه باكية، فالتقطها بين ذراعيه واحتضنها بقوة

"لا تبكي حبيبتي، ماذا حدث؟"

وانتبه أخيراً للوضع ونظر لفلك هاتفاً

"فلك، ماذا تفعلين هنا؟ ولماذا تبكيان هكذا؟"

تعلقت لي لي بعنقه مرددة ببكاء

"لم أفعل شيئاً. هي بكت لوحدها، لم أفعل شيئاً يا عمو، والله"

ربت على ظهرها بحب

"أعرف حبيبتي، اهدأي"

واقترب من فلك التي مزقت قلبه ببكائها 

"لوكا، ما الأمر؟ اهدأي لأعرف ماذا بكِ؟"

وجلس على طرف الفراش وقال وهو يمسح دموع لي لي

"أخبريني أنتِ  يا لي لي، ماذا حدث؟"

أخبرته بشهقات متقطعة كل ما حدث وأنصت لها بأسى ثم احتضنها ومد يده يمسح على شعر فلك

"أنا هنا يا لوكا، لا تبكي"

ورفع وجهها إليه يسألها بلوم

"لماذا عدتِ إلى هنا؟ ألم أطلب منكِ البقاء في غرفتكِ؟"

هزت رأسها نفيًا بتوسل بينما صمتت لي لي تراقبهما بفضول

"فلك، لقد وعدتكِ . لن أسمح لجدي بإرسالكِ لأي مكان"

بدأ بكاؤها يهدأ ومسح هو دموعها قبل أن ينتبه لنظرات لي لي فسألها بحنان

"هل تعرفين من هذه يا لي لي؟"

أسندت رأسها لصدره في خجل وهي تهز رأسها نفيًا، فتنهد بحسرة. لهذه الدرجة تشتت أسرته، لهذه الدرجة حكم جده على ابنته بالعزلة عن الجميع.

قاوم مشاعره وقال مبتسماً

"هذه العمة فلك"

رددت الاسم بغرابة قبل أن تبتسم وتقول

"هل هي مثل نيرو؟ أختك أنت وبابا؟"

"مممم .. تقريبًا"

أخبرها مبتسمًا فرمقته بحيرة بينما قال محدثاً فلك

"لوكا حبيبتي، هذه الشقية الفضولية هي أميرتنا الصغيرة لي لي... إنّها ابنة أسامة"

ابتسمت فلك أخيراً لتتخلى لي لي عن ارتباكها وعاودتها شقاوتها

"هل هي لوكا أم فلك؟"

قرص وجنتها قائلاً

"فلك وأنا أدللها لوكا"

لمعت عيناها بشقاوة

"إذن أنا أيضاً سأناديها لوكا"

ضحك وهو يقرص وجنتها مجدداً، لتتحرك بعدها من فوق ساقيه واقتربت من فلك والأخيرة ترمقها بدهشة، تراجعت شاهقة حين ارتمت لي لي متعلقة بعنقها

"آسفة لأنني جعلتكِ تبكين، لا تغضبي مني"

تصلبت ذراعاها في الهواء بصدمة، ونظرت لسالم بعجز فابتسم مفكرًا، ربما هذا ما تحتاجه فلك الآن.

استسلمت فلك أخيرًا تضم ذراعيها حول لي لي وتبادلها حضنها، تغمض عينيها وخيطان من الدموع انسابا على خديها، ابتسامة راحة زارت شفتيها أخيرًا ليتأكد من ظنه. مد يديه يمسح على رأسيهما بحنان، خطوة خطوة ستغادر شرنقتها وتعود لتتفاعل معهم وعندها سيكون شفاؤها سهلاً ولن يمضي وقت حتى تعود كما كانت.

***********************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

غلاف قصة كلماتُ القدر
كلماتُ القدر

من قبل مجيئنا إلى هذه الدنيا وأقدارُنا قد خُطت كلماتُها على أسطرِ اللوح المحفوظ، وبين جدلية التسيير والتخيير يعيش البشر أقدارهم. كلمات القدر لا تجبرنا...

اقرأ المزيد