الفصل الأول
مطرٌ... عناقٌ... وجرح
لا يعرف كم مر من الوقت وهو يقف في الشارع المُظلم إلا من إنارات الأعمدة المتناثرة هنا وهناك، المطر ينهمر غزيرًا. رفع رأسه للسماء يستقبل رذاذ المطر الذي يصله رغم وقوفه أسفل شرفة تحميه نسبيًا، لكنَّ ملابسه أُغرِقت بالكامل. فرك كفيه ببعضهما ثم قربهما من شفتيه الباردتين ينفث فيهما علّه يحصل على بعض الدفء. البرد ينخر في جسده بعد كل تلك الساعات التي قضاها منتظرًا قدومها، لكن لا يهم يمكنه أن يقف منتظرًا للأبد إن كان سيحظى ولو بلمحة واحدة من طيفها الحبيب.
طيلة الأيام والليالي الماضية كان يحارب شوقه إليها، منذ غادره طيفها ذلك اليوم، منذ قررت أن كل شيء انتهى بينهما ورفضت بعدها أن يقترب من طريقها إنشًا واحدًا. وهل كان له أن يلومها بعد أن مزق قلبها وطعن أنوثتها وسرق أمانها بأنانيته؟ ما زال صدره يحمل عبق دفئها وأنفاسها قبل أن تفارق ذراعيه، قبل أن تصدر فرمانها الملكي فتطرده خارج أسوار مملكتها وتأمره أمرًا أن يصير شريدًا، مُحَرَمة ٌعليه جنتُها؛ فاضطر للابتعاد وقلبه يعلن عصيانه متوسلًا البقاء فى رحاب حبها. ابتعد يمنحها الفرصة عل الزمن يخفف عنها قسوة خيانته ويرفق به فيجعل مغفرتها أمرًا صعبَ المنالِ لا مستحيلًا.
مد كفه يستقبل قطرات المطر يلامس من خلالها وجه حبيبته، وابتسم بحنين وهو يتذكر يوم زفافهما. حبيبته المجنونة عاشقة المطر التي عاقبته على جنونه واختطافه لها من حفلهما، تذكر كيف جلست جواره تزم شفتيها غضبًا، ترفض الحديث معه قبل أن تأمره أن يوقف السيارة. رفض التوقف لتُوقف قلبه رعبًا وهي تهدده أن تقفز من السيارة مرفقةً تهديدها بفتح الباب. ضغطة على مكابح السيارة تلاها صدمة وهو يراها تخلع حذاءها وتفتح الباب، تقفز إلى الشارع الخالى، ليراقبها بذهول تقفز تحت المطر. لم يستطع تحويل ناظريه عن جنونها، كفاها ترفعان طرف فستانها الذي أغرقه الماء، تركل بقدميها برك المطر الصغيرة وهي تشير إليه ضاحكة. المجنونة أرعبته، كانت تشاكسه. ابتسم وهو يخلع حذاءه ويغادر سيارته لاحقًا بها، شاركها رقصها المجنون قبل أن يضمها إليه يعانقها تحت المطر الذي تعشقه، يخبره أنه لن يقبل فيها أي شريك. كانت له وحده وكان ملكها وحدها، فكيف طاوعه قلبه أن يفعل بها ما فعل؟
************
عاد ليفرك كفيه ببعضهما وهو يتحرك في مكانه وشعوره بالبرد يزداد. إن استمر بوقفته هذه فحتمًا سيُصاب بالمرض، إن حدث هذا فهو يستحق حتمًا. دار بعينيه في الشارع الخالي وهو يتساءل بقلق ينهش قلبه بقسوة، ما الذي أخرها هكذا؟ فقط لو لم تغير رقم هاتفها لتمنعه من الاتصال بها. ماذا يفعل الآن؟ كيف يُطمئن قلبه الذى يكاد يموت قلقا ولهفة عليها؟
يا الله كم اشتاق لها وكم تعذب الأيام الماضية وهو يبحث عن طيفها في كل مكان وفي كل امرأة تمر أمامه. عاد قلبه يصرخ فيه أنه يستحق لأنه خائن، هذه هي الحقيقة. ردد باعتراض لقد خانها بعقله وجسده، لكنّ روحه وقلبه كانا معلقين بها طيلة الوقت يصرخان فيه ألا يوقع بها وبهما هذا الظلم الكبير فهل استمع هو؟
انتبه من أفكاره مع رؤيته لسيارة تقترب، تخترق أنوار مصابيحها العتمة في بداية الشارع. انتفض قلبه بلهفة، واقتربت السيارة وأمله يتضاعف حتى توقفت قرب مسكنها. قطب حين تبين أنّها لم تكن سيارة أجرة كما توقع، ضاقت عيناه واشتعل غضبه وهو يلمحها في المقعد الأمامي جوار السائق الذي بدا مألوفًا بشدة.
غلى الدم بعروقه فور تذكره له، إنه ذلك الوغد زميل عملها. ذلك الذي تجرأ وطلب يدها من قبل من صديقه، شقيقها الوحيد. كاد يندفع ليمسك بخناقه، يشده من سيارته ليوسعه ضربًا حتى لا يقترب من امرأته مرة أخرى، ذرة تعقل أخيرة أوقفته مكانه وهو يراها تهبط من السيارة وتخطو تجاهه.
توقفت فجأة والتفتت لزميلها عندما ناداها مثيرًا كل عواصف غضبه وبراكينه. قاوم بعنف ليتحكم بنفسه ويذكرها أنه يحتاج لكل عقله وهدوئه ليكسبها من جديد. تحكمه في غضبه كان عذابًا تلك اللحظة وهو يرى ابتسامتها التي اشتاق إليها، يراها تمنحها بسخاء لذلك الغبي الذي يحدق فيها كالأبله كأنه لم يرى امرأة من قبل. ولكنّها ليست أي امرأة، بحق الله إنها امرأته هو، حبيبته وحده والمرأة الوحيدة في هذا العالم التي ملكت قلبه.
عندما أوشك على فقدان سيطرته قرر القدر رحمته من هذا العذاب أو ربما ليمنعه من ارتكاب جريمة قتل مؤكدة، أنهت حديثها ولوحت له مودعة بابتسامتها التي حتمًا سيعرف كيف يمنعها من أن تبتسمها لرجل آخر مرة أخرى، وذلك الوغد الذى يظن واهمًا أن من حقه الاقتراب منها أدار محرك سيارته ورحل بعد أن لوح لها.
تابع بغيظ غياب السيارة في نهاية الشارع بينما خطت هي مسرعة تحت المطر إلى مدخل المنزل الذي كانت تسكنه مع شقيقها الذي سافر بعد زواجهما، والآن تسكنه وحدها بعد إصرارها على ترك بيتهما قبل شهرين.
تململ في وقفته مع اقترابها وكاد يخرج من العتمة حين رآها تتوقف فجأة وتتلفت حولها بحيرة ونظرة ألم علت وجهها. تُرى على هل يُمني النفس أنّها... شعرت به؟ تابع اقترابها مطرقة الوجه بحزن فلم يتمالك قلبه الملهوف عليها واندفع من مكانه قبل أن تخطو لداخل المنزل. لا يعرف كيف خرج صوته من فمه المتجمد بردًا، هل كان صوته يرتعش من البرد أم من شدة الشوق؟ لا يعرف. يعرف فقط أن اسمها خرج من بين شفتيه بلوعة قلبه واشتياقه
«سما»
تسمرت مكانها دون أن تحاول الالتفات، اقترب منها فكان قادرًا على رؤية كيف ارتجف جسدها. أشفق عليها من قطرات المطر التي استغلت توقفها لتغمرها وتعانق بشرتها بحب. كاد يضحك بمرارة على أفكاره الحمقاء، ما زال يغار عليها من المطر، أي حماقة هذه؟ لا بل أي عشق هذا الذى يستحوذ عليه ويجعله يرتجف في حضرتها بهذه الطريقة؟ ويالبؤسه، يغار عليها حتى من قطرات المطر والهواء البارد الذي يلامس وجهها. اقترب أكثر ليواجهها، قلبه يرتجف فرقًا وهو يلتهم بشوق وجوع ملامحها الحبيبة.
خطا أقرب وهو يرى نظرة عينيها وهما تدوران بالمثل على ملامحه وجسده وتعودان لتستقرا في عينيه، هل اشتاقت له بالمثل؟ أهذا شوقٌ الذي يراه في عينيها؟ خطواته توقفت عندما اختفت لمعة عينيها ليحل محلها برودٌ جعل قلبه يأن بقسوة وهي تقول بصوت أكثر برودًا
«ماذا تفعل هنا؟»
تسلل اليأس إلى نظراته
«جئت أرى زوجتي يا سما، هل لديكِ اعتراض؟»
تلفتت حولها بحيرة مفتعلة ثم نظرت له بسخرية
«زوجتك؟ أين هي؟ لم أعرف أن لك زوجة تسكن بالجوار؟ يا للصدف الغريبة»
اقترب حتى كاد يلتصق بها وقاوم رجفة قلبه لهذا القرب وهو يقول بمرارة
«لا تسخري يا سما، هذه السخرية لا تليق بكِ»
ارتفع ركن شفتيها بابتسامة مريرة ثم ضحكت
«سخرية؟ هذه ليست سخرية يا مازن. السخرية الحقيقية أنت بدأتها»
واختفت ابتسامتها وهي تضيف بقسوة
«أنت من حول حياتنا إلى مزحة كبيرة، فلا تأتي الآن لتتحدث عن السخرية»
اختنق بغصته وهو يسمعها تتحدث بهذه المرارة والألم، رآها تحاول تجاوزه لتبتعد فهمس
«حبيبتي»
التفتت له بسرعة وهتفت بشراسة
«لا تنطقها، إياك أن تنطقها. لم يعد من حقك»
ازداد قلبه ألمًا وهي تهز رأسها مكملة
«لقد فقدت الحق فيها ذلك اليوم الذي ذبحتني فيه بسكين خيانتك»
رفع كفه يريد لمس وجهها فأشاحت به مغمضة العينين
«غادر يا مازن فلم يعد هناك ما يخصك هنا»
«سما، فقط أعطيني فرصة لـ»
فتحت عينيها ترمقه بابتسامة مرة
«فرصة ؟ لا يا مازن ما عدت أملك أي فرص . ليس هذه المرة، نفد رصيدك عندي»
اتسعت عيناه وهي تعطيه ظهرها وتخطو تجاه المنزل بكبرياء
«ارحل بعيدًا عن حياتي، لكن قبلًا أرسل ورقة طلاقي. لا تدعني أنتظر أكثر»
فقد السيطرة على غضبه مع ذكرها الطلاق
«إذن سيكون عليكِ الانتظار للأبد يا سما، فأنا لن أطلقكِ»
رددت بلا مبالة دون أن تلتفت له
«سألجأ للمحكمة إذن ولو طال الوقت، أنا لن أبقى على ذمتك»
النار اشتعلت داخله من جديد فاقترب فيشدها من ذراعها
«وأنا لن أطلقكِ أبدًا»
التفتت تضربه في صدره لتبعده عنها صارخة بغضب
«قلت دعني وأرحل عن حـيـ»
توقفت يدها على صدره وخفق قلبها بينما تدرك للمرة الأولى أنه يقف تحت المطر وأن ثيابه مبتلة تمامًا. ارتعد قلبه مع لمستها ورغم كل البرد الذى يشعر به أدرك أن ارتجافه هذه المرة ليس من البرد. كاد يبتسم مع نظراتها الملهوفة لم تستطع التحكم بها وهى تهتف وكفها ينقبض على ثيابه الغارقة بالماء
«أيها الأحمق، أنت مبتل تمامًا، ستصاب بالمرض»
هذه المرة ارتسمت على شفتيه ابتسامة حمقاء اتسعت وهي تشده من كفه وتسحبه خلفها دون لحظة تفكير. عرف لحظتها أنّها نسيت كل شيء ولم تذكر سوى أنه طفلها الكبير كما كانت تقول. ابتسم بألم وهو يجاري خطواتها بينما يسمعها تتمتم بنفاد صبر عن حماقاته التي لن يتوقف عنها. توقفت فجأة عند الباب كأنها أدركت ما تفعله وارتجفت يدها التي كانت تحاول فتح الباب. اقترب منها وشعر باضطراب أنفاسها مع وقوفه خلفها ليعود الأمل قويًا داخله. اقترب أكثر يكاد يلامسها وجسدها محاصر بين ذراعيه اللتين مد أحدهما ليحتضن بكفه يدها الممسكة المفتاح ويضغط عليها يديره في مكانه ليفتحا الباب معًا.
سمعها تتنفس بقوة قبل أن تنتزع كفها منه وتدخل فتضيء الأنوار. لم تدعه للدخول لكنّه أدرك دعوتها الصامتة فدخل خلفها، أغلق الباب بينما وقفت هي في الصالة تعطيه ظهرها محتضنة جسدها المرتجف بذراعيها فاقترب هامسًا.
«حبيبتي»
توقف جسدها عن الارتجاف وتمتمت بألم
«توقف يا مازن، لا تقترب»
جمدته كلماتها مكانه وران الصمت حتى التفتت له بعينين لمعت بهما دموع تحكمت فيها بقوة.
«انتظر هنا، سأجلب لك شيئًا من ملابس أخى، غير ثيابك وغادر من فضلك»
راقبها قلبه المكلوم حتى اختفت متجهة إلى غرفة صديقه. ابتسم بمرارة، هل يعرف صديقه ما ارتكبه فى حق أميرته الصغيرة؟ بالتأكيد لم تخبره وإلا كان أسرع بالعودة ليحيل حياته جحيمًا قبل أن ينتزعها منه فيقتله ويكمل الإجهاز على روحه. وقف مكانه يدير عينيه فى الشقة التى شهدت ميلاد حبه لها عندما رآها أول مرة وهو يزور صديقه ليفقد بعدها قلبه ولم يسترده منها حتى اللحظة.
تنهد متذكرًا صديقه وهو يسلمها له ويوصيه بها قبل أن يسافر فهل صان الأمانة؟ آهة طويلة خانته وهو يغمض عينيه، رحماك يا رب من هذا العذاب، يعرف أنه يستحق لكنّه على استعداد أن يقف هنا للأبد وأن يتحمل كل هذا العذاب إن كان سيحصل على مغفرتها... فقط لو أنها تغفر.
انتبه من أفكاره على صوت خطواتها والتفت لها بلهفة ليجدها قد بدلت ملابسها المبتلة وارتدت أحد ملابس خروجها المحتشمة كما انتزعت حجابها المبتل وارتدت غيره، لم يتمالك شعوره بالمرارة فردد ساخرًا
«وترتدين الحجاب هنا أيضًا؟»
رمقته ببرود واضح أنّه صار جزءًا منها، وتجاهلت كلامه لتقول وهى تضع الثياب على الأريكة
«أعتقد أن لكما المقاس ذاته، بدل ملابسك ريثما أعد لك مشروبًا دافئًا، اشربه وغادر»
انتابه القهر من معاملتها الجافة بينما تتركه لتتجه للمطبخ فاندفع بسرعة يشدها، شهقت وهي ترفع يدها تلقائيًا وتضعها على صدره ملامسة نبضه المتسارع، بادلته النظر دون أن تُظهر أى تأثر لقربه ثم انتزعت كفها منه وابتعدت مرددة
«انتبه لتصرفاتك يا مازن، ما عاد يحق لك أن تلمسني. بدّل ملابسك وغادر سريعًا، هذا أفضل لكلينا»
ناداها يأسًا
«سما، دعينا نتكلم عما...»
اكتفت بابتسامة باردة وهي تتجه إلى المطبخ
«لم يعد هناك مجال للحديث، وليس لدي أي وقت من أجله»
زفر بضيق وهو يراقب ابتعادها الجاف. من هذه؟ امرأة جديدة، امرأة هو وحده من صنعها. حبيبته التي كانت الحياة، كل الحياة تتألق في عينيها وبنظرة واحدة منهما كانت تبثها إليه وإلى دنياه، هو حولها لهذا الكيان البارد، هو قتل الحياة داخلها، هو المُجرم. أغمض عينيه بيأس، طريقه صعبٌ يكاد يكون مستحيلًا، لكنه لم يأت اليوم ليستسلم بهذه البساطة، مهما كلف الأمر سيحصل على غفرانها، سيحاول لو تطلب الأمر ألف ألف مرة حتى يناله، سيعيدها إليه ومعها سيعود نبضه وروحه اللذان رحلا معها.
كان قد بدل ملابسه بشرود وجلس على الأريكة ولم ينتبه لعودتها، لم يفق سوى على هتافها الحاد بينما تضع ما تحمله فوق الطاولة
«أنت مجنون؟ حتى متى ستتصرف كالأطفال؟»
رفع عينيه الحائرتين فوجدها تنتزع منشفة قريبة وتتجه إليه بخطوات غاضبة وازت الغضب على وجهها. خفق قلبه حين اقتربت تجلس قربه وترفع المنشفة لتجفف شعره المبتل مواصلة بتذمر افتقده بجنون.
«حتى متى سأظل أذكرك أنك تمرض بسهولة و»
توقفت كلماتها وهي تحدق في عينيه اللتين ابتسمتا لها بحب وانتبهت لنفسها فنهضت واقفة بحدة وأنفاسها تضطرب. حبيبته ما زالت تهتم، ما زالت تقلق عليه، ما زالت تعشقه رغم الجفاء الذي تبديه. انتعش الأمل في صدره فوقف ناظرًا لها وقد أعطته ظهرها وجسدها يرتجف، تحاول السيطرة على نفسها، لكنه لن يسمح لها. يعرف أنه يلعب الآن بنذالة، إن حاول استغلال ضعفها نحوه وعشقها الذي تحاول قتله داخلها. أليس كل شيء مباحٌ في الحب والحرب؟
اقترب منها بينما كانت هي تحاول السيطرة على قلبها تسب نفسها لأنّها كعادتها نسيت كل غضبها فور أن شعرت بالقلق عليه. انتفضت شاهقة على لمسة يده لكتفها وجفلت مبتعدة وهي تلتفت إليه بحنق لتواجهها عيناه. حاولت الابتعاد أكثر لكنّه همس بألم ممزوج بالحنين
«ما زلتِ تذكرين وتهتمين يا سما»
قست نظراتها قبل أن ترد بسخرية مريرة
«العادات القديمة لا تموت سريعًا يا مازن، لن أنسى كل شيء في شهرين»
رفع كفه يريد لمسها ليمحو سخريتها وبرودها لتتراجع بحدة
«لا تحاول، قلت لك لم يعد من حقك. أرجوك، عد لبيتك ولـ»
تقطع صوتها ولمس المرارة التي خانتها ولوثت نبرتها
«ولزوجتك»
همس باختناق وهو يقترب المسافة التي ابتعدتها
«أنتِ زوجتي يا سما»
ضحكت ساخرة والتفتت إليه ورغمًا عنها انقبض قلبها بوجع لرؤيتها شحوبه ووزنه الذي نقص كثيرًا عن آخر مرة رأته فيها. قالت بعد لحظات بمرارة
«عد لزوجتك يا مازن ودعها تهتم بك قليلًا فحالتك مزرية للغاية. ألا تمنحك العناية الكافية هي ووالدتك؟»
رد بسخرية مماثلة
«لا، لم تعد تفعل. كيف ستهتم بي وهي بعيدة عني بعد أن تركت بيتنا وطردتني من قلبها وما زالت ترفض العودة إليّ وترفض حتى أن تغفر لي»
ارتجفت شفتاها بينما تنهد مطرقًا رأسه لتردد
«أرجوك يا مازن، غادر من فضلك. كل ما عندي أخبرتك إياه مراراً فلا تتعب نفسك أكثر»
«سما، أنا أحبكِ. لم أتوقف عن حبكِ لحظة واحدة»
أغمضت عينيها وأشاحت بوجهها وهو يتابع بحرارة
«لم أشعر بطعم الراحة منذ تركتِني، سامحيني وأعيدي لقلبي حياته. عودي لي حبيبتي»
هزت رأسها والتفتت له بهدوء
«لا فائدة من كل ما تقول يا مازن، قضيتنا خاسرة ولا أمل فيها أبدًا لذا رجاءً»
أردفت وهي تتجه للباب وتفتحه
«عد لبيتك ولا تنس أنني أنتظر ورقة طلاقي و»
شهقت عندما قبض على كفها وشدها إليه ويده الأخرى تصفع الباب لينغلق بقوة. قبل أن تتمالك نفسها دفعها ليرتطم ظهرها بالباب المغلق، تأوهت ورفعت عينيها بغضب ضاع فور أن التقتا بعينيه العاصفتين وجسده حاصرها بخطورة
«تريدين الطلاق؟ لماذا؟ أخبريني... هل هناك حب جديد في الطريق؟ أم هو مشروع زواج؟»
دفعته في صدره هاتفة بغضب
«ماذا تقول؟ هل جننت؟»
ضرب الباب بقبضته قرب رأسها
«نعم جُننت يا سما. وطلاق، أقسم بالله لن أطلق. تريدين أن أترككِ لتذهبي لذلك اللزج الذي أوصلكِ للتو؟ ماذا؟ هل وعدكِ بالزواج فور طلاقنا»
لمعت عيناها بجنون وقررت طعنه بغيرته كما تعذبت هي لشهرين بينما تتخيله في أحضان أخرى، غيرتها التي قتلتها وهي تتذكر في كل لحظة أن أخرى تحمل جزءًا منه كان من حقها وحدها.
«وما المشكلة؟ الرجل غرضه شريف وهو عريس ممتاز ويحبني منذ سنوات كما تعرف»
واتسعت ابتسامتها أكثر مع نيران عينيه لتواصل بسخرية
«كما أنه وهذا هو المهم، أرمل ولديه طفلان لذا لن يهتم بالطفل الذي لن أستطيع إنجابه منه و»
كلماتها نسفت تحكمه كُليًا، ما عاد يحتمل كلماتها السامة أكثر. عريس ممتاز ويحبها؟ والطفل الذي تنجبه منه؟ من آخر؟ على جثته. لم يحتمل النيران التي التهمته والخيالات التي رسمتها كلماتها، تحطمت سيطرته فاندفع يكتم شفتيها يمنع المزيد من كلماتها السامة من الخروج لتمعن في قتله. أحاطها بذراعيه يضمها إليه، هي له وحده، زوجته. لا رجل آخر يحق له الاقتراب منها ولا لمسها.
لم يشعر بدموعها التي سالت مع هجومه ولا بخبطات كفيها فوق صدره ليحررها من عناقه القاسي. كان غاضبًا، غيورًا، ومشتاقًا بجنون. أغمض عينيه متنفسًا رائحتها التي اشتاق لها بطريقة مؤلمة واشتدت ذراعاه حول جسدها الرقيق المنتفض ليخفف من قسوة عناقه. أزال حجابها يغمر أصابعه في شعرها، والرقة التي غمرها بها كانت تقتلهما معًا. كان يمكنها مقاومة قسوته وتتحرر لكن إن عانقها بهذه الطريقة ستخسر، ستضيع وستستسلم ولن تسامح نفسها أبدًا عندما تستفيق. عند هذه النقطة عقلها تحرر من غزو الغيوم السحرية فانتفضت شاهقة ودفعته بكل قوتها هاتفة
«لا»
ابتعد مرغمًا وفتح جفنيه ينظر لها بعينين غائمتين وصدره يتحرك بأنفاس سريعة نافست نبضات قلبه الذي اعترض بألم وما كاد يشعر قربها أخيرًا ليجدها تطرده بقسوة قبل حتى أن يرتوي. هو فقط ازداد عطشًا، رحماك يا رب. حاول السيطرة على أنفاسه بينما يراها ترمقه بغضب شديد وأنفاس سريعة قبل أن تهتف
«كيف تجرؤ؟ أخبرتك ألا تقترب مني مجددًا، ألا تفهم؟ لم يعد من حقك، لا تظن أنك ستؤثر بي لأسامحك وأعود بهذه البساطة. أنت واهم، أنت لم يعد لك مكان بحياتي فاستوعب هذه الحقيقة بسرعة وغادر»
«لا أستطيع، أنتِ تحكمين عليّ بالموت، لا تبعديني عنكِ يا سمايا»
أغمضت عينيها بقوة مع سماع اسم دلالها الذي كانت تعشقه من بين شفتيه، رددت وقد بدأت تشعر بالرعب من الدموع التي تهدد بالانفلات
«أتوسل إليك، حررني منك يا مازن. ما عدت أحتمل. لا أريدك، افهم هذا. حررني وارحمني من كل هذا العذاب»
همس بتوسل
«حبيبتي، سأمنحكِ كل الوقت الذي تحتاجين، سأنتظر عمري كله لو تطلب الأمر. فقط سامحيني»
أغمضت عينيها لتمنع الدموع ثم تمتمت وهي تفتح الباب مشيرة له
«لا أريد المزيد من الكلام في هذا الأمر. عد لبيتك، لابد أن زوجتك تنتظرك»
قاطعها بخفوت
«ما عادت زوجتي، لقد طلقتها»
شهقت متفاجئة ورغمًا عنها خفق قلبها باضطراب. طلقها؟ مازن ما عادت تشاركها فيه أخرى؟ لعنت نفسها بقوة تفكيرها لتقول بحدة
«طلقتها؟ هل تمزح؟ هل فقدت اللعبة رونقها ومللت منها بهذه السرعة؟ هل أبحث لك عن واحدة جديدة؟»
صاح بغضب وهو يقترب ليقف في مواجهتها
«سما، ماذا تظنينني بالضبط؟»
«أنت أناني. لماذا طلقتها؟ ألا تنتظران طفلًا؟»
وكست المرارة عينيها وانخفض صوتها بألم دفين
«ذلك الطفل الذي أردته بشدة، الآن بعد أن حصلت عليه تطلقها؟ أكانت وسيلة لتحصل على ما تريد أنت وأمك؟ وماذا عنه وهو لا ذنب له؟ أليس من حقه أن ينشأ بين أبوين؟ ما ذنبه أن يكون أبوه أنانيًا لهذه الدرجة ولا يفكر سوى في نفسه؟ أنت لا تستحقه»
ابتسم بمرارة ودمعت عيناه
«عليّ إذن أن أكون شاكرًا للقدر الذي رحمه من هكذا أب؟»
رمقته بحيرة وخوف ثم شهقت مع كلماته التالية
«رحل الجنين يا سما»
غزت الدموع عينيها وأنّ قلبها الأحمق لأجله شاعرة بعمق الألم الذي لابد أنه يشعر به الآن. همست باختناق شديد
«مازن، لا...»
رفع كفه لتصمت وأغمض عينيه هامسًا
«لا داعي لشفقتكِ، أنا لا أستحقه كما قلتِ. أنا أناني ولا أستحق سوى هذا»
وتحرك أمام عينيها الدامعتين وتوقف لحظة عند الباب ينظر لها
«لا أستحق سوى أن أكون وحيدًا»
ضاق قلبها بوجع أشد بينما يردف بألم
«فقدت حبيبتي الوحيدة وابني، ربما هذا ما أستحقه فعلًا، لكن أتعرفين شيئًا؟ رغم أنني تألمت لفقده حتى ولو كنت لم أتمنه بالبداية لأنه لم يكن منكِ أنتِ، تألمت حقًا ومع هذا، فألم خسارتكِ ذبحني أكثر من ألم فقده. أنتِ محقة يا حبيبتي، أنا لا أستحق»
هزت رأسها نفيًا ولم تجد القدرة على نطق كلمة واحدة، أرادت أن تندفع لتحتضنه وتمسح كل حزنه ووجعه، تضمه إليها تخبره أنه لم يخسرها، أنه لا يستحق أن يكون وحيدًا، أنها ستعود إليه، ستكون معه رغم ما فعل، لكنها ببساطة لم تستطع. شيءٌ في أعماقها كبلها ومنعها، ربما هو جرحها الذي لم يبرأ بعد، ربما خوفها من جرح جديد. لا تدري، لم تعد تدري شيئًا.
اكتفت بالنظر إليه وبادلها هو النظر بحزن قبل أن يقترب
«سأبتعد عن طريقكِ، لكن بالله عليكِ لا تذبحيني أكثر وتطلبي مني أن أحرركِ من القيد الذي يربطنا. اعتبريني أنانيًا كما قلتِ ولا تطلبي مني شيئًا بهذه القسوة»
مال ليطبع قبلة رقيقة على جبينها فأغمضت عينيها بشدة
«وداعًا حبيبتي، وداعًا يا وجعي»
قالها وابتعد، وعندما فتحت عينيها بعد لحظات من الصمت قابلها الفراغ. عضت شفتها وتحركت تغلق الباب ببطء وقلبها يتلوى ألمًا. استندت للباب المغلق تاركة العنان لدموعها فانهمرت غزيرة وتخاذلت ساقاها لتسقط أرضًا مرددة بانهيار.
«لماذا يا مازن؟ لماذا فعلت هذا بنا؟ لماذا؟»
انكمشت على نفسها بانهيار أشد، تضغط على قلبها الذي يمزق صدرها بقسوة
«أناني يا مازن، أنت أناني يا حبيبي»
*****************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا