الفصل الثاني

شجن

نهضت بوقتٍ متأخر في اليوم التالي بعد أن سهرت وقضت ساعات الليل في البكاء لتصحو وقد تورمت عيناها وأحاطتهما هالات سوداء. تحركت بتثاقل لتنهض، من الجيد أن اليوم عطلتها فهي لا تكاد تشعر بنفسها قادرة على الحركة. ليتها تستطيع محو هذا الألم الذي يقتلها بشدة منذ رحل وتركها، الألم الذي أوهمت نفسها أنها تناسته حين تركت بيتهما قبل أكثر من شهرين شاعرة أنّها تركت نفسها خلفها، هناك بين ذراعيه بعد أن ودعها الليلة السابقة.

عضت شفتها بقوة، تتذكر ليلتهما الأخيرة وسالت دموعها وهي تعود إلى تلك اللحظة التي واجهته فيها بالحقيقة واعترف هو ثم ضمها في انهيارها ذاك يتوسلها أن تسامحه، تتذكر كيف دفعته بعد أن تمالكت نفسها وصرخت فيه أن يبتعد، واندفعت إلى غرفتهما لتنهار على نفسها باكية تلعق جروحها بمفردها بعيدًا عن جلادها الذي لم يمنحها الفرصة، ولحق بها يعانقها كما فعل بالأمس. ضمها بقوة وبتملك رافضًا أن تطرده أو تبتعد عنه كما أرادت.

دموعهما امتزجت وهو يخبرها مع كل لمسة وقبلة أنه يحبها هي فقط، أنه لم ينظر لغيرها ولم يخنها، لم يشعر بامرأة غيرها ولم يرد سواها وفقدت هي نفسها لمرة أخيرة بين ذراعيه.

أرادت أن تنسى، ربما أرادت أن تودعه لمرة أخيرة قبل أن ترحل عنه وتحرم نفسها من دفئه للأبد. تلك الليلة كانت مختلفة، شعرت أنه هو أيضًا يودعها، يمنحها نفسه كما لم يفعل من قبل، حتى توسلتها روحها ألا تتركه وتتعذب بعيدًا عنه. لا، لم تكن المرة الأولى التي تشعر فيها أنه يريد أن يضيع معها وفيها ويضيعها معه. هناك تلك الليلة قبل أشهر حين أخبرها أنه سيسافر لأسبوع من أجل العمل، لكنها فوجئت بعودته في نفس اليوم بوقت متأخر من الليل. كان مهمومًا بشدة، شاحب الوجه وثيابه مشعثة وشعره، كأنه لم يرتح لحظة واحدة منذ غادرها صباحًا. اندفعت وقتها إليه متخلية عن مفاجأتها وقبل أن تسأله بقلق عما به وعن سبب عودته من سفره كان يكتسحها بعناق أضاع منها كل كلمة وتفكير.

غمرت الدموع خديها وهي تتذكر كلماته ليلتها، لم تفهم ماذا يحدث له، شعرت أنه يعتذر بحبه عن أمرٍ لم يكن بيده. كذبت نفسها أنها شعرت بدموع اعتذاره وندمه تلامس بشرتها، لكنها أحست به وهو مستيقظ طوال الليل يلامس شعرها ويقبلها معتذرًا. لم تفهم ولم تجرؤ على سؤاله كأنما كانت تخشى، هل كان قلبها يشعر أن ما سيقوله سيطعنها حتمًا وسيقتلها؟

رفعت وجهها تنظر لانعكاسها بالمرآة، بشعرها المشعث وعينيها المنتفختين وابتسمت بمرارة وهي ترفع كفيها تلامس بطنها وبكت أكثر وهي تتذكر كلماته أمس. تحبه، هي تحبه بجنون ولم تنسه ولا تعتقد أنها ستفعل يومًا، لكنه ذبحها بفعلته. لا تستطيع أن تغفر له، لو أنها فقط تستطيع تجاوز الحاجز الذي وضعه بينهما، لو أنها فقط تنسى ذلك الجرح البشع... فقط لو أنها تغفر.

تمالكت نفسها ومسحت دموعها بقوة، لا يجب أن تضعف، ماذا إن كانت قد رأته مجددًا؟ وماذا إن كانت شعرت بحضنه الدافئ من جديد؟ هذا لن يغير شيئًا، هو فقط جعلها متأكدة من شيء واحد. لن تبرأ منه مادامت تحيا معه تحت نفس السماء مهددَة بلقائه في كل لحظة. لقد اتخذت القرار الصحيح، لا عودة للوراء مرة أخرى.

***************

قلبت بالأوراق في يديها تؤكد لنفسها للمرة التي لم تعد تذكر عددها أن هذا هو القرار الصحيح. كل الأوراق جاهزة وبقي فقط انتظار الأيام الباقية على سفرها، بقي أن تخبره وتطلب منه أن يسمح لها بالابتعاد علّهما يتجاوزان الجرح ببعدهما. ستترك وطنها وتبتعد عنه، ربما البعد يشفي الجراح المستحيلة، من يدري؟

ابتسمت بسخرية وهي تضع الأوراق بدرج الجارور قرب فراشها وجلست مطرقة لبضع دقائق قبل أن تنتبه على طرقات باب شقتها. نهضت ببطء لتغادر غرفتها متجهة نحو الباب. لن يكون هو، هي تعرف، لن يعود بعد الطريقة التي غادر بها أمس.

فتحت الباب لتنظر بحيرة امتزجت بالتوجس للشابة الواقفة أمامها بملامح سمراء مليحة مريحة للنفس، لكنّ الحزن المرتسم عليها وسكن عينيها جعلها تبدو أكثر هشاشة. طالعتها سما بتوجس وقلبها نبض بخوف وقد خمن، هذه الفتاة ليست إلا...

«أنا شجن»

تراجعت بحدة والكلمات أعادت لها ذكرى لا تريد استعادتها، نفس الكلمات التي سمعتها في الهاتف ذلك اليوم الذي أدركت فيه كم كانت ساذجة ومغفلة. «أنا شجن»، كلمتان ترددتا بصوتٍ رقيق لم يمهد لها أبدًا الطعنة التالية وصاحبة الصوت تخبرها أنها زوجة مازن، زوجة زوجها. كادت تضحك مع وقع الكلمتين في ذاكرتها لكنّها انتبهت على صوت الفتاة، زوجة زوجها، لا بل طليقته تقول بصوت مرتبك

«هل يمكنني أن آخذ من وقتكِ بضع دقائق يا مدام سما؟»

ارتفع حاجباها بدهشة بها مسحة سخرية، تبدو مهذبة للغاية، إذن من التي حدثتها قبل أكثر من شهرين تخبرها بتبجح أن زوجها هي تزوجها وأنه ينتظر منها مولودًا؟ لمعت عيناها لتطرق شجن بارتباك وأسف

«آسفة، أعرف أنني آخر شخص تريدين رؤيته، لكن صدقيني... هذا آخر مكان أريد التواجد به أنا أيضًا»

مالت برأسها رافعة أحد حاجبيها لتعود شجن قائلة برجاء

«أريد فقط بضع دقائق وأعدكِ لن أزعجكِ بعدها ولن أزعج زوجكِ أبدًا، أرجوكِ»

تنفست بقوة ثم تنحت جانبًا وأشارت لها بالدخول فتقدمت بخطوات مرتبكة

«شكرًا لكِ»

أغلقت الباب وقادتها للداخل، وأفكارها تتخبط بجنون مع مشاعرها وهي تلتهمها بنظراتها، الغيرة تحرقها وهي تتخيله معها، مع تلك الـ .. ضاقت عيناها وهي تتأملها بتدقيق، تلك الصغيرة. أجل، لا يمكن أن تعطيها أكثر من عشرين عامًا. تنفست بقوة تحاول السيطرة على مشاعرها وقادتها إلى غرفة الجلوس وجلست قبالتها تتأمل ارتباكها وقد بدا أنها تحاول العثور على نقطة لتبدأ منها. أرادت أن تمنحها بعض الوقت لتتمالك نفسها فقالت بهدوء

«ماذا تشربين؟»

هزت رأسها بسرعة

«شكرًا لكِ، لن آخذ من وقتكِ الكثير. أريد فقط أن أخبركِ بما أريد قبل أن أغادر، لا وقت لدي على أي حال فأنا مسافرة»

وأخذت نفسًا عميقًا لتتابع

«أولًا، أعتذر عن الطريقة التي تحدثت بها معكِ تلك المرة، أنا آسفة حقًا. كنت بغيضة وحقيرة بتصرفي ذاك لكن صدقيني كنت معذورة»

تشنج وجه سما وأومأت لتتابع شجن بعد نفس مضطرب

«دعيني أعرفكِ على نفسي أولًأ، أنا شجن كما أخبرتكِ. أنا من قرية صغيرة قريبة من القرية التي أتى منها السيد مازن»

استغربت اللقب، لكنّها تجاوزته وهي تنتبه لها تواصل بشرود

«ربما لا يهمكِ أن تعرفي هذا، لكن... أنا في الواقع سبق وتزوجت قبل أن أتزوج منه»

تراجعت في مقعدها بدهشة، فهي تبدو صغيرة للغاية. التقطت شجن نظراتها فابتسمت بسخرية

«هل أبدو صغيرة؟ ربما ولكنني أشعر أنني تجاوزت الستين لا العشرين من العمر»

كما توقعت، عادت تركز معها وهي تكمل

«تزوجت قبل أن أبلغ حتى الثامنة عشر، وقتها لم يهتم أحد أنني كنت أحلم بشيء آخر. كنت أحلم أن أواصل تعليمي، كانت عندي أحلام أخرى كثيرة وطموح لم تستوعبه قريتي الصغيرة ولا سكانها ولا حتى عائلتي. وجدتني رغمًا عن كل محاولاتي عروسًا في الثامنة عشر، لا حق لها لتعترض ما دام الرجال قرروا»

لمعت عيناها بالدموع وأطرقت رأسها

«والعروس لم يمر أسبوع إلا وأصبحت أرملة»

شهقت بجزع لتهز شجن رأسها وتتابع بابتسامة صغيرة

«فورًا تحولت العروس الصغيرة إلى نذير شؤم، كأنها هي التي قتلت زوجها وفضلت أن تخط في قدرها كلمتيّ "شؤم" و"نحس" وترسم بهما مصيرها الأسود. ظلت طيلة أشهر عدتها تسمع كلمات الحماة الثكلى على ولدها الشاب وعلى الكنة المشؤومة التي قصفت عمره. كانت الأشهر مثل الجحيم، لكنّها اكتشفت أنها حملت بطفل اعتقدت أنه سيكون تعويض القدر لها. وطبعًا أسرة زوجها الراحل خيرتها بين أن تتزوج أخاه أو تترك طفلها ما أن تضعه»

اختنقت سما ورغمًا عنها شعرت بالشفقة والألم نحوها بينما اتسعت ابتسامة شجن المريرة وسالت دموعها

«كلا الخيارين كان أمر من الآخر، لكن ربما كان القدر رحيمًا بها. سقط الجنين ولم يكمل الشهرين لتعود دوامة الشؤم والنحس والجحيم كان أشد، وبعدها قضت المسكينة أكثر من عام في بيت أهلها ولم يعد هناك حديث بالقرية سوى عن شجن المنحوسة نذير الشؤم. لم يقترب أحدهم من بيتها ليطلب الزواج منها، صارت النساء يحذرن بعضهن من اختيارها لولدها أو لقريبها وذات يوم بعد أن كادت المسكينة تموت من كلامهم المسموم وعلى رأسهم عائلتها، طرق أحدهم بابها ليلقي إليها طوق النجاة»

توترت سما وفركت كفيها ببعضهما متوقعة القادم

«أتت الخاطبة وهي تلوي فمها وأخبرت أمي أن الحاجة أم مازن أرملة أحد كبار الأعيان بالبلدة المجاورة تخطبني لابنها الوحيد. بدت الخاطبة كأنها تتحسر على ذلك الرجل الكامل الذي اختار واحدة ناقصة مثلي»

قاومت لتحتمل، لا تريد أن تسمع أن زوجها ذهب لخطبة امرأة أخرى.

«طار بيتنا بالفرحة ولم تكف أمي عن الدعاء أن تنزاح الغمة، والغمة هنا لم تكن تقصد بها سوى شجن المنحوسة. أتت الحاجة أم مازن ولم تغادر بيتنا إلا وقد رتبت كل شيء وأخبرتنا أن الزواج سيتم بعد شهر فور عودة ابنها من سفره. بالطبع لم أعرف وقتها أنه أصلًا لم يكن يعرف بما تخططه، لم يكن يعرف بوجودي من الأساس إلا قبل يومين من العرس. هو لم يكن ينوي الزواج من الأصل»

مازن لم يعرف؟ مازن لم يكن ينوي الزواج عليها؟ لكن... كيف انتهى الأمر بزواجهما إن كان لا يريد الزواج؟

ردت شجن على تساؤلاتها المكتومة كأنّها سمعتها

«عرفت بعد ذلك عندما تزوجنا أنه لم يكن يعرف، أنه أتى لأنهم اتصلوا به وأخبروه أنّ أمه تموت. كان ذلك قبل أسبوعين من زواجنا، أمه لم تكن تموت إنما ادعت المرض لتجبره على الزواج»

عادت بذاكرتها لذلك اليوم الذي اتصل بها وأخبرها أن أمه مريضة وسيذهب لرؤيتها في قريتهم، وعندما عرضت عليه السفر معه أخبرها أنه سيعود فور تحسنها. كان يريد أن يجنبها رؤية حماتها التي لا تطيق رؤيتها ولم تتقبلها من البداية وزاد رفضها لها بعد مرور خمس سنوات على زواجهما دون حمل خاصة بعد أن عرفت أن المشكلة منها هي، ولم يمر لقاء إلا وعكرت صفوها بكلامها المسموم ولم تتوقف عن محاولات تزويج مازن بحجة أنه ولدها الوحيد وتريد حفيدًا يحمل اسم والده الراحل. لمعت عيناها بالدموع، لقد نجحت ولكن ماذا كان الثمن؟ تذكرت عودة مازن من سفره بعد يومين ليخبرها بتجهم أن أمه تحسنت وأصبحت بخير.

انتبهت على صوت شجن الحزين

«لم ينظر لي مرتين عندما أتى لرؤيتي قبل عقد القران ولم أفهم تجهمه وقتها ولم أعرف إلا بعد ذلك أن أمه ضغطت عليه واستغلت رعبه عليها عندما أخبره الطبيب الذي اتفقت معه. أخبره أن قلبها مريض وتحتاج للبعد عن الانفعال وأن حياتها أصبحت مهددة في كل لحظة. أخذت منه وعدًا وهي تتوسله أنها ستموت و تريد أن تطمئن عليه. أخذت وعده وعندما بدأت تتحسن أو كما ظن هو أخبرته أنها اختارت له العروس، وهو أخبرها أن تفعل ما تريد»

اختنق صوتها لحظة ثم واصلت

«وعندما تزوجنا لم ينظر نحوي وهو يأخذني في سيارته لنغادر بعد أن أصر على ألا يتمم الزواج في القرية. كنت قد طلبت منه أن أترك القرية بعد الزواج وهو أيضًا أخبرهم أن عمله لن يسمح له أن يقسم وقته بين المكانين»

أخذت نفسًا قويًا وتابعت بألم

«ذهبنا للشقة التي استأجرها لي وكل هذا دون أن يرفع رأسه ويراني، يرى المسكينة التي تزوجها... كيف تبدو حتى؟»

مسحت دمعة سالت ورددت بضحكة خافتة مريرة

«حاولت أن أبدأ الكلام، أردت أن أفهم لماذا يبدو بهذه الحالة. لماذا يبدو أنه لا يتقبلني؟ لو أنه نظر لي لظننت أنه ربما لم يعجب بي. عندما سألته، أخبرني الحقيقة، وأنا وقفت أستمع له بألم وذهول. كل ما انطبع بعقلي فقط، شجن المنحوسة. لماذا حتى عندما ظننت أن القدر ابتسم عاد ليغلق بابه في وجهي؟ أخبرني بما فعلته أمه وأنه لا يحب سوى زوجته حتى ولم تمنحه أي أطفال، ولم يكن يريد الزواج بغيرها طيلة حياته»

سالت دموع سما وهي تستمع إليها

«قال أنه لم يتزوج سوى لوعده لأمه، أنّه كان يجب أن يصبح أبًا لأجلها. حاولت أن أتجاوز كل ما يقول، حاولت أن أخبر نفسي أن كل هذا لا يهم، زوجته لا تنجب وأمه تريد الوريث، من سيحمل اسم العائلة. أخبرت نفسي أنه لا يهم إن كان لا يحبني، سيحبني عندما أجلب له الولد، سينسى حبه الذي يتحدث عنه. كنت أنانية أعرف هذا، لكنني كنت مجروحة، متألمة. رؤيته حزينًا رافضًا وجودي لهذه الدرجة جعلني أنسى كل تعقل لدي وأندفع إليه لأبادر أنا وأتوسل أن يمنحني حبه. لم يتوقع مني تصرفًا كهذا وأنا استغليت مفاجأته»

كادت ترفع يديها لأذنيها تكتمهما وتصرخ فيها أن تتوقف، أنها لا تريد أن تعرف أي شيء عن ليلتهما، لا تريد أن تتخيلهما معًا، لكن شجن تابعت بجرح ووجع

«ذهوله لم يدم للحظات دفعني بعدها وحدق فيّ مصدومًا قبل أن يهز رأسه ويخبرني بصوت مهزوز أنه آسف. غادر بعدها تاركني أحدق في الفراغ، تركني وحدي في مكانٍ جديد لا أعرفه، كنت وحدي تمامًا وانهرت أبكي حظي التعس وقدري. انهرت باكية وأنا أعرف أنه ذهب لزوجته الأولى يريد أن ينسى تلك الصفحة، سيذهب لينسى معها ما ارتكبه في حقها، يطلب غفرانها حتى ولم يخبرها بما فعل»

اتسعت عينا سما الدامعتين بينما تتذكر، تلك الليلة التي عاد ليغرقها في دوامة من حبه الغامر واعتذر فيها حتى شعرت بدموعه، كانت ليلة تزوج بها؟ نظرت بشفقة للفتاة التي سالت دموعها كأنما عادت لتلك الساعات التي قضتها ليلة زواجها تبكي وتتخيل زوجها في أحضان زوجته الأولى.

«عاد في اليوم التالي في وقت متأخر كأنما كان قد نسى أنه تزوج أخرى، كان شاحب الوجه واعتذر لي. أخبرني  أنه سيحاول إصلاح الأمور، وأنه هو الآخر يائس ولا يعرف ماذا يفعل. طلب مني أن أمنحه فرصة ربما يجد حلًا. أصبح يزورني يوميًا لساعة يطمئن على المسكينة التي أحضرها من قريتها ليضعها بشقة في مدينة لا تعرفها. لا، لم أحقد عليه، لم أكرهه. في الواقع، بدأت أحبه، صرت أتلهف للساعة التي يزورني فيها ويقضيها في التحدث معي. لأول مرة أجد أحدًا يهتم لأفكاري ومشاعري وأحلامي التي وأدتها»

صمتت لحظات بشرود ثم أردفت

«أخبرني أن وجودي هنا سيساعدني لأحقق أحلامي، وأنّه سيساعدني. وبالفعل قدّم لي أوراقي لأتابع دراستي وساعدني لأبدأ في السعي وراء أحلامي القديمة، لكنّ حلمًا أكبر كان يتكون داخلي مع كل يوم. أردت حبه واهتمامه لشخصي، لأنني زوجته، وليس اعتذارًا منه عن توريطه لي في حياته المعقدة وحبه لزوجته. أردت حبه وسامحيني، أنتِ أحببته فيمكنكِ أن تعذري شعوري، لم يكن بيدي»

تعرف هذا، لا امرأة ستلتقي به وتعرفه عن قرب إلا وستقع في حبه، وهل كانت غيرتها عليه من فراغ؟

«حاولت أن أقاوم، أن أذكر نفسي بأنه ليس لي وأن أكتفي بما يقدمه لكن قدوم حماتي لقضاء بعض الأيام برفقتنا قضى على كل مقاومتي. لقد لطمت على وجهها عندما عرفت أنه لم يلمسني، عندما عرفت بشأن حياتنا الأخوية. ادعت المرض مرة أخرى وأخبرته أنها لن تسامحه على ما يرتكبه في حق المسكينة التي اختارتها وزوجتها إياه والتي تركت من أجله قريتها وكل شيء. تشاجرا يومها وغادر غاضبًا لتؤنبني هي على سلبيتي وبدأت تحشو رأسي بأفكارها التي لاقت صدى داخل قلبي المتلهف لحبه واهتمامه. بعدها عاد هو تحت إصرارها وحاول أن يحتوي الأمر حتى رحيلها لكنني كنت قد وصلت لآخر احتمالي وخطط حماتي وأفكارها التي وسوستها لي جعلتني لا أريد أن أسمح له بفعل ما يريد، لن أحتمل معاملته الأخوية هذه أكثر»

تهدج صوتها بالدموع والذل بينما تضيف

«لا أريد تذكر تلك الليلة التي نفذت فيها خطتها، أخبرتني أنه مادام يرفض الاقتراب مني بإرادته فلأنزعها منه وأجعله يقترب مني مسلوب الإرادة والوعي»

شهقت سما بغير تصديق فابتسمت شجن وردت على تساؤلها المكتوم

«وضعت له حبوبًا في مشروبه، وليتني لم أفعل. كأن الله عاقبني على سوء نيتي، لا أعرف. كل لحظة عشتها معه ليلتها تمزقت فيها وهو يناديني باسمك كل لحظة، ومع ذلك لم أتوقف»

استمعت لها سما بذهول وقلبها ينبض بعنف

«لم أتوقف ولم أبعده عني، رغم أنني كنت أموت وهو يذبحني بذكركِ. لم يكن يراني، الليلة الوحيدة التي اقترب فيها مني لم يخنكِ فيها. خانني أنا، كنتِ أنتِ بيننا في كل لحظة. مازن لم يخنكِ، لم يشعر بي لحظة ولم يرني،  كل مشاعره كانت خالصة لكِ»

انهارت شجن باكية وهي تسترجع تلك اللحظات قبل أن تتمالك نفسها لتكمل

«استيقظ في الصباح ليحدق فيّ بذهول ثم انفجر صارخًا فيّ ومحطمًا ما حوله بصورة أرعبتني. عندما أتت أمه مسرعة من غرفتها ورأت حالته أخبرته بقسوة أنه لم يرتكب جرمًا وأنني زوجته وحلاله هتف فيها بجنونٍ أنه لن يسامحها ولن يسامحني ولن يسامح نفسه أبدًا. لم يتوقف عن ترديد بأنه خانكِ ولن يغفر لنفسه أبدًا»

تقطع صوتها فواصلت بصعوبة

«غادر بعدها ولم يعد لأيام، عاد بعد أن هدأ لكنه عاد ليخبرني أنه لن يستطيع أن يكمل معي. لن يستطيع أن يعدل بيننا وكل مشاعره وحبه مع امرأة واحدة لا يرى غيرها ولن يفعل في عمره. أخبرته أن ينتظر لبعض الوقت لأن عودتي مطلقة لأهلي ستحطمني تمامًا هذه المرة، طلبت أن يتركني حتى أحقق ذاتي وأبتعد حتى لا أعود لأهلي هكذا وهو وافق، حتى عرفت بعد شهر أنني أحمل طفله، فعادت تلك الأنانية داخلي تطالب بحقها. حماتي طارت من الفرحة وأخبرتني أن الطفل سيجعله يتمسك بي. لكن...»

انتظرتها سما حتى عادت تتحكم بصوتها وأنفاسها لتكمل

«عندما عاد وأخبرته، الصدمة التي ارتسمت على وجهه قتلتني وجعلتني أكرهكِ دون حتى أن أعرفكِ. اكتفى بمباركة هادئة وغادر، شعرت بندمه كأنه يريد أن يخبرني أنه سعيد لأن الطفل أتى لكنّه ود لو أنّه كان من حبيبته لا مني أنا، رأيتها في نظراته. عندما غادر لم أتمالك غيرتي وقهري واتصلت لأخبركِ»

أطرقت سما وران الصمت للحظات حتى تمتمت شجن باختناق

«عاد بعدها بأيام و بدا ممزقًا، بدا يتيمًا فقد أمه لتوه. كان شاحبًا وهزيلًا وعندما تحدث معنا عرفت أنكِ تركتِه. أمه أخبرته أن الأمر لا يستحق وما دمتِ غادرتِ فأنتِ لا تستحقين أن يكمل معكِ ولا أن يحزن عليكِ للحظة. وأنا اندفعت لأحتضنه أتوسله ألا يغضب مني وألا يتركني وأنني سأموت لو فعل، لكنه غادر بخطوات ميتة بعد أن أخبر أمه أنها حصلت على الحفيد الذي أرادته، لكنّها في المقابل ضحت بسعادة ابنه الوحيد. غادر وجريت خلفه لكنني لم ألحقه، عدت إلى حماتي وأنا غاضبة، كنت أنوي الشجار معها على تحطيمها لحياتينا معًا، لماذا اقتربت من بيتي؟ لماذا اختارت وجه الشؤم لتزوجها ابنها؟ لماذا منحتني الفرصة لأحلم ولأعتقد أن القدر ابتسم لي؟»

اختنق صوتها أكثر وأجهشت بالبكاء

«لكنني لم أجد الفرصة لأفعل، زلت قدمي وسقطت على السلالم واستيقظت في المشفى لأجدها تبكي، ومزن شاحب الوجه يرمقني باعتذار وألم، تحسست بطني وأنا أشعر بالخواء وقد أبلغتني نظراتهم أنني قد فقدته، أملي والحلم الذي سرقته من القدر، لكنّ القدر عاقبني بقسوة على أنانيتي وعلى تصرفي الحقير معكِ. فقدت طفلي وحب مازن وعدت لشجن المنحوسة»

صمتت لبرهة تحاول استعادة هدوءها ثم تمتمت

«غادرت حماتي وبقى مازن ليهتم بي وأخبرني أنه سينفذ كل ما أريد، استغرقت الشهرين الماضيين أفكر في كل ما فعلته في حياتي حتى اللحظة وأمس فقط أبلغته بقراري. طلبت الطلاق وقررت المُضي في حياتي، لن أعود للقرية، لن أعود لمن قتلوا أحلامي وخنقوني بقيودهم. مازن أعطاني حقوقي كاملة وأخبرني أنه سيكون موجودًا إن احتجته، لكنني طلبت منه ألا يخبر أحدًا عن طلاقنا حتى أرتب أموري. لم أخبره بعد أنني سأسافر بعيدًا عن الجميع، سأبحث عن نفسي التي فقدتها وعن أحلامي، سأتوقف عن رمي اللوم على قدري وسأصنعه بنفسي»

خفق قلب سما وهي تحدق فيها مبهورة، رغم غيرتها وشفقتها عليها غبطتها على عزيمتها لتواجه الحياة التي صفعتها بقسوة وتقف من جديد على قدميها.

انتبهت لها نهضت بابتسامة حزينة ناسبت اسمها تمامًا.

«لن أطلب منكِ سوى أن تسامحيني على ما ارتكبته في حقكِ، سامحيني على أنني أقحمت نفسي بينكما حتى ولو كان رغم إرادتي، سامحيني وسامحي مازن وعودي إليه فهو لم يذق طعم الحياة منذ رحلتِ»

واقتربت منها وأمسكت كفيها تضغطهما برجاء

«أرجوكِ، عودي وأعيدي له الحياة والسعادة التي يستحقها»

لم تشعر سما بدموعها تسيل بعجز، وضغطت شجن مرة أخرى على كفيها قبل أن تغادر بهدوء وتغلق الباب خلفها لتسقط سما على كرسيها تبكي مستعيدة كل كلمة سمعتها منها.

**********

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

دومًا أحبك

اقرأ المزيد