الفصل الرابع
حتى تغفري
فتح عينيه بتثاقل ليجد نفسه وحيدًا في الفراش، وتطلع للسقف لبرهة، لقد نام بعد وقتٍ متأخر بعد أن قضى ساعات الليل ينظر لوجهها النائم، يحفر ملامحها في داخله علّها تعوضه غيابها القادم. استغل نومها ليتأملها كما يشاء، ليغرق وجهها بقبلاته كما يريد يختزنها زادًا للأيام والليالي الطويلة الخاوية التي سيقضيها بعيدًا عنها، قبل أن يضمها إليه ويغرق في النوم أخيرًا.
انتفض ناظرًا للساعة ونبض قلبه برفض، لقد تأخر الوقت. هل رحلت وهو نائم؟ لا، لم تودعه حتى؟ لقد قرر أمس أنّه سيكون أنانيًا قالت ولن يتركها تسافر، سيقنعها أن تبقى فهو لن يحتمل بعدها. وجودها تحت نفس السماء يكفيه، لن يحتمل رحيلها. نهض بسرعة ليفتح الدرج فوجد الأوراق مختفية، أسرع يتجه نحو دولابها ويفتحه ليتوقف قلبه وهو ينظر للدولاب الفارغ من ملابسه. تراجع للخلف بإحباط ثم تمالك نفسه وأسرع يبحث عنها في بقية الشقة.
لقد رحلت.
نظر للساعة وحاول تذكر موعد الرحلة، لا لن ييأس. أسرع للغرفة ليبدل ملابسه وانطلق مغادرًا يصارع الوقت وكل لحظة تمضي تباعد بينهما. وصل المطار واندفع للداخل لاهثًا بقوة. تطلع في ساعته بيأس ثم تطلع حوله واندفع ليسأل عن الطائرة التي من المفترض أن تستقلها ليخبره الموظف أن الطائرة أقلعت بالفعل قبل دقائق. تراجع بخطوات بطيئة ميتة، لقد رحلت، كيف أذن لها؟ كيف وافق؟ كيف أخبرها أنه موافق على ابتعادهما؟
غادر المطار ولم يعرف كيف عاد وهو يجر قدميه في يأس شاعرًا أنّه خسر كل شيء، حتى عندما غادرت بعد الليلة التي عرفت فيها بزواجه من أخرى لم يشعر بكل هذا اليأس. كان قلبه يعرف أنها مهما ابتعدت، قريبة تظلهما نفس السماء، أنه سيحاول ويحاول حتى تغفر، لكن الآن...
حاول السيطرة على غصة قلبه الموجعة وهو عائد إلى بيتهما، دخل برأس مطرق حزين ورمى سلسلة مفاتيحه على طاولة قريبة. تحرك بخطوات متثاقلة ليترمي على الأريكة بإرهاق، تطلع أمامه للحظات بشرود انتزعه منه رنين هاتفه. أخرجه ينظر لشاشته بخواء ثم أجاب بهدوء
«مرحبًا يا أمي... أنا بخير. لا لن آتي... شجن لا تجيب؟ لا هي بخير، متعبة فقط ولا تريد أن تزور أحد ولا أن يزورها أحد، أخبريهم بهذا... سما؟»
ضحك بسخرية مريرة ثم أجابها
«اطمئني يا أمي، لقد أراحتكِ منها تمامًا... تركتني. سافرت وتركتني... لا يا أمي، أنا من لم أستحقها، ورجاءً لا تتحدثي عنها بهذه الطريقة مرة أخرى... أنتِ لم تتقبليها من البداية ولم تعرفي كم أنا محظوظ لفوزي بها. أنتِ نفذتِ ما أردتِ وتخلصتِ منها كما أردتِ منذ عرفتِ بحبي لها. لقد انتصرتِ عليها يا أمي، فهنيئًا لكِ بابنكِ الذي أردتِ ان تشكلي حياته كما تريدين، ابنكِ الذي طردتِ سعادته من حياته هنيئًا لكِ به... لا يا أمي، دعيني، لا أريد شيئًا... أريد أن أبقى وحدي حتى أرتاح... لا، سأكون بخير لا تقلقي»
ثم ودعها وأغلق الهاتف، ألقاه جانبًا وعاد يشرد بخواء قبل أن يلقي رأسه بين كفيه هامسًا باختناق
«آه يا سمايا، آه يا وجعي»
مرت لحظات قبل أن يرفع رأسه ويمسح وجهه بإرهاق ثم نهض بصعوبة، يريد النوم، يشعر بتعب رهيب. تحرك خطوتين تجاه غرفة نومهما ينوي الغرق نومٍ عميق على فراشهما الذي لم ينم فيه منذ رحلت، سيبحث عن رائحتها فيه علّ نبض قلبه المتألم يهدأ قليلًا ويستكين مع خيالاتها.
خطوتان فقط وتجمد مكانه بذهول وقلبه الذي توقف لحظة عاد للنبض بجنون. مستحيل، هذا مستحيل. لا بد أنّه يحلم، هي ليست هنا. فرك عينيه وعاد يفتحهما لتقابله ابتسامتها الرقيقة، كانت تقف عند باب غرفتهما في فستان رقيق بحمالات يصل لركبتيها، شعرها يلامس كتفيها برقة، تنظر له وعيناها تلمعان بدموع مكتومة. تحرك ببطء وما زال مذهولًا، توقف أمامها ورفع كفًا مرتجفة يلامس وجهها وقلبه يخفق بعنف، يخشى أن تكون حلمًا، سرابًا وما أن يلمسها ستتلاشى.
يريد التأكد أنّها حقيقة ولكنّه يخشى ألا يحتمل قلبه إن كانت سرابًا. شعر برجفتها ما أن لامس خدها وهمس بعذاب
«أنتِ هنا حقًا يا حبيبتي؟»
أومأت وهي تلامس يده التي تعانق وجهها
«أنا هنا»
رفع يده الأخرى وعانق وجهها بكفيه
«أنتِ حقيقة؟»
عادت تومئ وهي تبكي
«أنا حقيقة يا مازن، أنا هنا حقًا»
ضحك من بين دموعه ولا يزال يرمقها بغير تصديق قبل أن يهتف بسعادة
«أنتِ هنا يا سمايا، لقد عدتِ إليّ حقًا»
ترك وجهها وأحاط خصرها بذراعيه يضمها بينهما بقوة ويهتف بلوعة
«لقد عدتِ يا قلب مازن. آه يا وجعي، يا حبيبتي»
انفجرت باكية وتعلقت به بيأس
«لم أستطع الرحيل، لم أملك القدرة»
ضمها إليه أكثر
«لقد ركضت للمطار لأمنعكِ من الرحيل، تصورت أنكِ رحلتِ، تصورت أنني فقدت الفرصة وأنني أخطأت بمنحكِ الفرصة لتحلقي بعيدًا عني. سامحي حبيبكِ يا سمايا، سامحي أنانيتي، سامحي قلبي الذي لا يريدكِ أن تغيبي للحظة حتى ولو كان من أجل أن تغفري له»
تعلقت برقبته باكية بحرارة وهو يواصل
«ابقي هنا يا حبيبتي، سأنتظر حتى تطيب كل جراحكِ وحتى تغفري وحتى توقني أنني لم أحب ولم أنظر لامرأة غيرك وأنني أبدًا لم أخنكِ بإرادتي»
هزت رأسها ورددت بصوت متهدج باك
«أعرف، أنا أعرف كل شيء يا حبيبي، شجن أخبرتني كل شيء»
أبعدها ينظر في عينيها بدهشة فأردفت
«حتى ولو لم تكن أخبرتني لم أكن لأجد القدرة لأسافر بعيدًا عنك يا مازن»
عاد يضمها بقوة وغمر وجهه في عنقها باشتياق
«سامحيني يا سمايا، سامحي ضعفي وأنانيتي، وعودي لتنيري حياتي أرجوكِ»
سألته بخشية
«ماذا عن الأطفال؟ هل تستطيع أن تكمل معي وأنت تعرف انني لن أمنحك طفلًا؟»
شعرت بجسده يتشنج لحظة قبل أن يبعدها وينظر في عينيها بمشاعر عاصفة
«لا أهتم سوى لكِ يا عمري ولم أفعل أبدًا. لولا ما حدث ما كنت لأبتعد، أقسم لكِ. إن لم تمنحيني أنتِ أطفالي فلا أريدهم من أي امرأة صدقيني»
همست وهي تحتضن وجهه
«أصدقك يا حبيبي»
غمرها بعناقه من جديد
«قولي أنكِ عدتِ وستبقين وأنا سأنتظركِ حتى يُشفى جرحكِ، سأنتظركِ حتى تغفري»
بكت وهي تتعلق به أكثر
«سأبقى»
ضحك بارتجاف وشدد ذراعيه بتملك من حولها، لا يصدق أنها عادت له وسيمنحها كل ما تحتاج للوقت حتى تُشفى وتغفر ولن يدعها تبتعد عنه أبدًا مرة أخرى
«أحبكِ يا سمايا»
أجابته بهمس مماثل وهي تذوب بين ذراعيه
«أحبك يا مازن»
وابتسمت شفتاها المدفونتان قرب قلبه، ستُشفى بقربه، هو الداء والدواء، هو جرحها وشفاؤه. مهما طال الوقت سيندمل الجرح فهو لم يكن بالعمق الذي تصورته، ستنسى وستغفر وستعود لتعيش بحبه وقربه وربما تخبره.
لا، لن تخبره الآن... ربما بعد بعض الوقت ستخبره عن معجزتهما الصغيرة التي منحها إياها في الليلة التي غمرها فيها بحبه قبل أن تودعه وترحل أول مرة، معجزتهما التي انتظراها من القدر كل هذه السنين لتنبت في اللحظة التي ظنت فيها أن كل شيء قد انتهى، معجزة تستحق بدايةً جديدة وغفرانًا قريبًا وحبًا ستعرف كيف تحميه للأبد.
***************
يا قلبها أخبرها
بأن الذنبَ قتّالٌ
ولا يُغفر
وأن القلبَ لو يمضي
من الأزمانِ
أعمارًا لكي تصفح
فلن يفتُر
ويا قلب أخبرها
بأن هواها أمرٌ
وقد أمرت.
فوافق أمرَها القدرُ
وأخبرها
بأن العشقَ لو تدري
لروحِ فتاها يعتصرُ
وصار البعدُ
عن باحاتِ جنتِها
عذاباً طعمُه مرُ.
وأخبِرها
بأن البحث عن وطنٍ سواها
أمرٌ... ليس يُغتفرُ.
****************
تمت بحمد الله
21-8-2017
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا