الفصل الرابع

القمر،

أنيس العشاق في عتمة الليل، نوره الماسي يضفي ألقًا على الفقاعة الوردية التي ينفصل فيها العشاق عن كل البشر، يضاعف تأثير السحر الذي يعزف على أوتار القلوب لتهيم فوق الهيام هيامًا وتغرق في بحور العشق غرقًا لا نجاة منه.

والقمر كان رفيقهما، كانا يتهامسان ليلًا على نوره وفي ذات ليلة كهذه زلت بلسانها فبادلته الاعتراف بالحب.

كم يبدو ذلك زمنًا بعيدًا،

وكم دفعت ثمنًا باهظًا منذ ذلك الزمن.

كانت شاردة في أفكارها فلم تسمع نداء طيف، بينما عيناها ملعقتان بالجسم الفضي، مضى وقت طويل منذ سمحت لنفسها أن تقف هكذا تنظر إليه.

لم يكن من الحكمة، أن تفعل، ها قد عاد ليأسرها ويعيد إليها ذكريات تكره استعادتها 

"رواء!"

انتبهت أخيرًا، لتصطدمها دمعة لم تشعر بسقوطها، أسرعت تمسحها والتفتت لها هامسة بتحشرج

"نعم يا طيف"

اقتربت بوجه مرهق 

"هل يمكنني أن أنام معكِ الليلة؟"

أومأت وهي تتجه إليها بعد أن أغلقت الشرفة

"طبعاً يا حبيبتي، تعالي"

أسرعت طيف إلى الفراش بينما أزالت رواء وشاحها، ثم اتجهت إليها وجاورتها 

"لا تستطيعين النوم؟"

هزت طيف رأسها وعيناها تدمعان وقالت بغصة

"لا أستطيع التوقف عن التفكير في سمراء"

ازدادت الغصة في حلقها بينما طيف تكمل

"أنا خائفة جداً عليها يا رواء"

اقتربت تضمها إليها بحنان، وربتت عليها

"لا تخافي، ستكون بخير، ألا تعرفين سمراء؟"

مسحت طيف دمعاتها وأومأت

"لكن الأمر صعب، لا أصدق حتى الآن"

تنهدت مغمغمة بألم

"إنّه قدرها وهي تقبلته برضا وإيمان كعادتها ونحن سنكون في ظهرها دائماً حتى تتجاوزه"

ران الصمت قليلاً قبل أن تسألها

"هل اتصلتِ بأمي؟"

"نعم، لا تقلقي طمأنتني على سمراء، لكنّها كانت نائمة فلم أستطع التحدث معها"

ومسحت على ظهرها بحنان

"حاولي النوم الآن فعندكِ كلية غداً"

"لن أذهب"

تراجعت رواء تنظر لها مقطبة وقالت بحزم

"طيف، لن تهملي دراستكِ لأي سبب. سمراء ستغضب منكِ إن عرفت هذا"

زفرت مطولاً ثم قالت باستسلام

"تمام يا رواء هتلر"

ابتسمت مرغمة قبل أن تضرب كتفها 

"هتلر في عينكِ"

بادلتها ابتسامة شاحبة واقتربت فضمتها رواء أكثر

"كل هذا سيمر يا رواء، صحيح؟"

أخبرتها وقلبها يؤمّن على كلماتها

"بالتأكيد، مهما كان ما يكتبه القدر لنا خير وسنواجهه بإيمان كما علمّنا أبي، تمام؟"

أومأت موافقة وهي تغمض عينيها بينما بقيت رواء تحدق في الظلام لوقتٍ طويل وعقلها مشتتٌ بين شقيقتها التي تقبع في الظلام يتمزق قلبها عليها، وبينه، 

ذلك الذي يصر قلبها على تذكره، يشدها بينما تقاوم الهوة السحيقة التي انفتحت في ثقب الزمن لتعيدها مرة أخرى لرواء التي ترفض عودتها،

رواء التي تمقتها.

 

****************

 

الوحدة،

أفضل وأسهل سبيل للانزلاق في شرك الذكريات الذي نحاول الهرب منه، إن كنت لا ترغب في التذكر فلا تبقى وحيدًا فحتمًا ستقع نهبًا لها.

وإن كانت حالته مستعصية لدرجة أن تخونه الذكريات وهو مشغول فالأجدر ألا يبقى وحيدًا كما هو الآن، حيث هو في أضعف حالاته.

يفتح قلبه صناديق الماضي المغلقة ولا يجد حرجًا من الغرق في أعمق ذكرياته وينبشها إلى السطح ليزيده عذابًا.

هذه الليلة مثلًا يدفعه دفعًا ليرمي بكل شيء عرض الحائط، عذاب ضميره، وأسامة، وجِدهما، يخبره أن المقاومة تعب لا جدوى منها،

فليأخذ قسطًا من الراحة وينعم ببعض من نعيم الذكرى قبل أن يعود إلى شقاء الواقع،

ونفسُه لم تقاوم،

رغم إدراكه أنّه كما كل مرة، سيكون ثمن الضياع في لذة الذكريات أشد مرارة وألمًا.

لكن لماذا عليه أن يقاوم؟

أليست هذه الذكريات جزءًا منه؟ لماذا لا يحق له تذكرها؟

 

بطريقة ما يوهمه قلبه ويعطيه المبررات ليغرق عائدًا إلى ثمان سنوات مضت،

إلى أول يوم رأى تارا فيه.

******

 

مجنونة، ساحرة، مفعمة بالحياة بينما كان هو بائسًا ناقمًا على كل شيء، يتعذب بين ماضيه وكراهيته لوضعه وغيرته من سالم بالذات.

 سالم الذي هرب غاضبًا، وازداد الوضع سوءًا بتضاعف تسلط جده، بينما هو قرر رمي كل شيء خلفه، حتى دراسته أهملها ولم يعبأ لغضب جده حين أعاد عامه الدارسي الأخير.

هاربًا كعادته من محاضراته وفي مكان منعزل من حديقة الجامعة، مستلقيًا أسفل شجرة وارفة الظلال، مغمضًا عينيه وفي أذنيه سماعات هاتفه تتسلل عبرها موسيقى عالية. 

عقله مسرح لصراع دام بين ماضيه وذنبه الذي لا يغتفر، دوامة التمرد التي لا تنتهي ولن يوقفها هو يومًا... هل يعاقب نفسه الآن أم يعاقب جده؟

راوده شعور مفاجئ أنّه مراقَب، ففتح عينيه، ليحدق مصدومًا في الوجه المطل عليه وتاه لثوان في عينين بندقيتين امتزجتا بخضرة خفيفة وشفتين حمراوين، لوهلة خُيل إليه أنّه يتوهم لكنّها ابتسمت فجأة فانتفض من رقدته 

"تبًا، ما الـ"

أمسك قلبه زافرًا بقوة ثم هتف  

"أنتِ مجنونة؟ ماذا تفعلين فوق رأسي؟"

اعتدلت مبتسمة بعذوبة قبل أن تنطلق متحدثة بحماس وهي تشير لما تحمله من لوحات وأوراق، تواصل شرحها بينما عيناه تتأملانها من شعرها البني المضموم في ذيل حصان وبلوزتها البيضاء المتدلي فوقها سلسلة ذات قلب ذهبي، وبنطالها الجينز الذي رسمها برشاقة، قاوم أفكاره وعاد لوجهها ليتوقف عند شفتيها وشتم نفسه مرة أخرى على التواء تفكيره، قبل أن ينتبه لصمتها ووقوفها تضم أوراقها لصدرها ترمقه بترقب كأنما تنتظر رده، عندها رفع يده يزيل إحدى سماعتيه لتتسع عيناها بصدمة 

"عفوًا؟ ماذا كنتِ تقولين؟"

استمرت على صدمتها لثوان ثم همست بنظرات قاتلة

"أنت لم تسمع حرفاً مما قلت؟"

جلس متربِعًا يرمقها باستخفاف

"آسف، لا أنتبه جيدًا حين يفزعني أحدهم ويقتحم خلوتي ليخبرني بشيء لا أهتم له"

قطبت بغيظ ثم لوحت بقبضتها

"أنت..."

صمتت وتنفست بعمق ثم ابتسمت بمرح وتقدمت خطوة ممسكة ببطاقتها التعريفية المعلقة حول عنقها

"مرحبًا، أنا تارا، من اتحاد الطلبة لجنة الـ"

"لست مهتمًا"

رد بعجرفة فاشتعلت عيناها بغضب سرعان ما وأدته لتقول بتسامح

"هل قررت من سترشح في انتخابات الـ"

عاد يقاطعها بسماجة

"قلت لست مهتمًا"

قبضت كفها بقوة لكنّها حافظت على ابتسامتها 

"ألا تحب المشاركة في أي نشاط طلابي؟"

"أي جزء من جملة "لست مهتمًا" لم تفهميه بالضبط؟"

كادت تهتف فيه لولا أن ارتفع صوت يناديها فالتفتا نحو صديقتها التي اقتربت

"أنتِ هنا وأنا أبحث عنكِ؟"

واندفعت إليها دون أن تنتبه له مردفة وهي تناولها كوبًا

"تفضلي الهوت شوكليت، عدي هذه الجمائل"

تألق وجهها بسعادة وأشرقت ملامحها بطريقة أسرته دون شعور

"شكرًا يا جيجي، لا تعرفين كم أحبكِ"

انتبهت جيجي تلك إليه فرفعت حاجبًا ومالت عليها بخبث

"إذن هذا ما تفعلينه هنا يا خبيثة؟ من الوسيم؟"

قالتها غامزة فلكزتها تارا في خصرها هاتفة بوجه محمر

"توقفي، أنا كنت أعرض عليه الأنشطة الطلابية لأرى إن كان"

قاطعها بسماجة 

"وأنا أخبرتكِ أنني لست مهتمًا"

التفتت إليه بحنق

"خلاص، عرفت أنّك لست مهتمًا"

والتفتت لصديقتها لتشدها من ذراعها

"هيا بنا قبل أن أفقد أعصابي وأقتل أحدهم"

ناداها بعد أن ابتعدت خطوات

"أوقعتِ بعض أوراقكِ يا عضوة اتحاد الطلاب النشيطة"

حدجته بغل ثم تحركت عائدة بعصبية وانحنت تلتقط أوراقها، تعثرت في خطوتها الأخيرة وشهقت، لم يجد الوقت ليبتعد بينما يتلقى جسدها فوقه وقبله مشروبها الساخن ليهتف منتفضًا

"ماذا تفعلين؟ هل سلّطكِ أحدهم عليّ اليوم؟"

ضحكات صديقتها ارتفعت لتزيدهما ارتباكًا وحاولت هي النهوض بعصبية لتتخبط وتسقط فوقه مرة بعد أخرى، السائل الساخن يحرق صدره وهي بحركاتها الغبية تزيد الأمر سوءًا، هتف ممسكًا كتفيها 

"لحظة، توقفي"

تجمدت ورفعت عينيها بارتباك، تاه فيهما لثوان متناسيًا احتراق جلده قبل أن يبعدها منهيًا الأزمة ببساطة. نهضت بسرعة ووجهها يحترق، وتوقع اعتذارًا لكنّها صدمته حين صاحت بحسرة

"أرأيت ما فعلت؟ ضاع مشروبي بسببك"

حدق فيها ببلاهة ثم هتف وهو يمسح السائل عن قميصه

"أنتِ مجنونة؟ هذا بدل أن تعتذري، لقد أحرقتِني"

زمت شفتيها بطفولية وردت مغيظة

"لست مهتمة"

حدجها بغيظ فأخرجت له لسانها 

"تستحق ما أصابك"

أسرعت صديقتها تشدها حين رأت وجهه يتغير من الصدمة إلى الغضب  

"أعتذر بالنيابة عنها، صديقتي مجنونة قليلًا، سامحها"

"أنا لست مجنونة، هو البارد السخيف، يستحق أن يحترق أكثر من هذا"

زفر بقوة وهتفت صديقتها

"اخرسي يا تارا وتحركي معي"

تابعهما حتى رحلتا وغمغم وهو يمسح قميصه

"مجنونة، من أين خرجت لي؟"

لم تلبث أن خانته ابتسامته وهو يستعيد الموقف ليضحك بتسلٍ

"مجنونة ولديها برج طائر أيضًا"

ويومها أدرك قلبه أنّها ليست مقابلتهما الأخيرة، قلبه عرفها وانجذب لها كما الفراشة ترنو إلى النار دون أن تأبه لمصيرها... وهو انجذب بقوة ثم احترق.

*********

لسعة حريق مؤلمة نزعته بالقوة من الذكرى فانتبه زافرًا، أسرع يطفئ نار الموقد ويخمد النار التي اشتعلت بسبب شروده قبل أن يندفع إلى الصنبور ليضع يده أسفل الماء البارد لتهدئ قليلًا من لسعة النار بينما يحدث نفسه غاضبًا

"تستحق يا أحمق"

تراجع بعد ثوان ينظر لاحمرار كفه بشرود استعاد نفسه منه سريعًا ليقطب متحركًا بجمود نحو الثلاجة ويخرج مرهمًا للحروق فيضعه على كفه قبل أن يغادر متجهًا إلى غرفته، ارتمى على الفراش وتعلق بصره بالسقف لبعض الوقت لا يرى إلا شريط تتقافز فوقه محطات مختلفة من حياته.

أغلق النور وأمسك الوسادة يضعها على رأسه كأنه هكذا سيضغط على عقله ليتوقف عما يفعل ويعود إلى رشده.

لا فائدة من بقائه في شقته أو في السراي.

هذا العذاب رفيقه أينما وجِد.

 

**********************

 

تجنب المواجهة كان مستحيلًا،

مهما طال الوقت ومهما تهرب كان حتميًا أن تأتي اللحظة،

وها هو يجلس أمام جده كمذنب، غارق في عرقه، يحاول بلا جدوى تمثيل الهدوء والبراءة بينما جده يسأله بصوت هادئ كان يخيفه أكثر مما لو كان غاضبًا أو مهددًا

"لقد التقاها سالم، صحيح؟"

رفع رأسه بجزع لتقابله عينا جده متألقتين بينما يضيف مؤكدًا ما خطر بباله

"الفتاة التي صدمتها بسيارتك وترقد في المشفى هي شقيقة تلك الحشرة رواء العزايزي التي كان سالم على علاقة بها، صحيح؟"

انقبض قلبه بضيق، رغم كراهيته لرواء لم يعجبه وصفه لها وتخيل موقف سالم إن سمعه. أومأ مرغماً لتفاجئه الابتسامة المتسلية على شفتيّ جده وهو يتراجع مسترخياً في مقعده

"جيد"

ارتفع حاجباه بدهشة قبل أن يصدمه جده مرة أخرى 

"وكيف حالها؟"

"رواء؟"

لوح بكفه

"بل شقيقتها"

"بخير"

تمتم بخفوت 

"كانت في غيبوبة واستيقظت، لا أعرف بعد نتيجة الإصابة وإن كانت"

"لا يهم"

صمت مقطبًا فسأل جده بعد ثوان

"كيف كان رد فعل سالم؟"

ادعى عدم الفهم وهو يجيبه

"حمداً لله أنني اتصلت به وهو أسرع للمشفى وقام بكل اللازم من أجلها"

قاطعه بمكر

"تعرف أنني لم أقصد سؤالك عن هذا يا يوسف، لا تراوغ وأخبرني... ما كان رد فعله على رؤيتها؟"

أجابه مرغمًا بضيق

"كيف تتوقع يا جدي رد فعل شخص يرى حبيبته بعد عشر سنوات من الفراق؟"

تمتم وهو يطرق بأصابعه على المكتب 

"حبيبته"

تضاعف وكل الإشارات المنبعثة من جده كانت تثير توجسه، لماذا لا يشعر أنّه معترض على تجدد لقاء سالم وحبيبته، بل العكس، يبدو سعيدًا كأنما أتت الأمور في صالحه.

ما الذي يخطط له جده بالضبط؟

تساءل بتخوف قبل أن ينتبه على صوته 

"أنت ترافقه إلى هناك في كل زيارة، أليس كذلك؟"

قطب رادًا بإيماءة

"إنها مسؤوليتي في النهاية"

"بالطبع... بالطبع"

وتأمله قليلاً ثم قال

"أريدك أن تستمر في هذا"

"في ماذا؟"

سأله بشك 

"أريدك أن تستمر في مرافقته إلى هناك وتبلغني بكل ما يحدث بينه وبين تلك المرأة"

نهض هاتفًا باستنكار

"تريدني أن أتجسس على شقيقي؟"

رفع حاجبًا بسخرية

"لماذا تدعوه تجسساً؟ هذا لصالح عائلتك"

أشاح مقطبًا في ضيق بينما جده تابع

"أنت لا تريد أن تعود تلك المرأة وتدمر حياة شقيقك وتجعله يتخلى عنكم مرة أخرى"

منع نفسه بصعوبة من إخباره من السبب الرئيسي في كل ما حدث، عوضاً عن هذا واصل الإنصات له يردف وقد أخذ صمته موافقة على رأيه

"نحن نتفق إذن، ولهذا ستبلغني بكل شيء مهما كان صغيرًا... شقيقك في طريقه ليتمم خطبته رسميًا مع الفتاة التي اخترتها له"

ارتفع حاجباه بغير تصديق 

"لن يكون جيدًا أن تتدخل تلك المرأة مجددًا وتفسد زواجه. ستكون عيني يا يوسف وبالمقابل"

صمت قليلاً يثير قلقه وشكوكه أكثر قبل أن يخبره

"سأغض الطرف عن كل ما تفعله في حياتك الخاصة رغم أنه لا يرضيني"

في لحظة واحدة شعر بالهواء ينسحب من حوله، 

بكلمات أخرى، جده يخبره بوضوح أنّه يعرف عن جايدا، يعرف كل شيء ولا يتدخل لأن الأمور ما زالت في نطاق سيطرته ولا خطر منها…

حتى الآن.

في اللحظة التي ستشكل فيها جايدا خطرًا أو يرى علاقتهما تهديدًا لمستقبله أو لسمعة العائلة أو يحاول هو التمرد بسببها، عندها سيتدخل بطريقته، 

وطريقة جده في معالجة الأمور لا تنتهي بخير أبدًا.

وكأن جده شعر أنّ أعصابه لن تحتمل أكثر أو أنّه اكتفى من شد الخِناق حوله، أنهى الجلسة آمرًا إياه بالخروج، لينهض هو متحركًا بخطوات متثاقلة نحو غرفته.

كانت لديه شكوكه لكنّه الآن تأكد.

كان يتمنى أن سالم سيكون الوحيد الذي سيقف لجده لكن تبين أنه بالفعل في نصب مخططاته، ربما عودته نفسها كانت بداية لمخطط يحبكه جده بعناية وعودة رواء تخدم مخططه بطريقة ما.

*******************

 

الطريق مظلم والخطوات خلفها تتردد بصدى مخيف،

بينما تمد هي خطاها والخوف يكاد يشل أطرافها لكنها تُسرع ومن خلفها تتسارع الخطوات بالتبعية. هي لا تتوهم، هناك من يتبعها ومنذ فترة.

تسارعت أنفاسها حين لمحت ظلًا على الأرض وتحولت خطواتها للركض محاولة عبور الشارع حين امتد الظل وجذبها نحوه كاتمًا فمها بكفه.

شهقت رويدا منتفضة بعنف قبل أن يصدم النور الساطع عينيها. غطتهما بذراعها في ألم، وصداع شديد يضرب في رأسها. مضت برهة قبل أن تنتبه للفراش أسفلها، تحركت يدها فوق المفرش الحريري لتعتدل شاهقة بفزع، 

تطلعت حولها لتتسع عيناها مع رؤية الغرفة الغريبة. رفعت كفيها تمسك برأسها مرددة

"ماذا حدث؟ أين أنا؟"

شعرت بالدوار ما أن نهضت لتقف فمالت لتجلس على حافة الفراش، تمتمت وهي تطرق غارسة أصابع كفيها في شعرها

"ماذا حدث؟ لا أفهم"

تحاول التذكر ورأسها يكاد ينفجر 

"ماذا حدث؟ كيف أتيت هنا؟ لا أتذكر شـ"

لحظة، 

آخر ما تذكره أنّها كانت وحيدة في تلك الشقة، واستنجادها بجون الذي أتى بسرعة عندما انقطعت الكهرباء و…

لم يكن جون.

رفعت رأسها تحدق أمامها بصدمة، لم يكن حلمًا. كان ذلك الرجل.

كان هناك وفاجأها، هل هو من كان يتعقبها؟ أمسكت صدغيها وهي تميل للأمام محاولة التذكر.

عاد المشهد يتمثل أمام عينيها حيًا.

**

حين تراجعت بفزع وكادت تصرخ لولا كفه التي كتمت فمها. جُن جنون نبضاتها وأعصابها وضربته بقبضتيها في صدره ليخترق صوته القوي بتحيته العابثة بالأسبانية. همهمت بغضب ومقاومة بينما اتسعت ابتسامته العابثة وهو يواصل

"لا داعي لمقاومتكِ، لا فائدة منها سنيورا فوفري مجهودكِ"

توقفت عن المقاومة ترمقه بحقد، توحشت نظراتها ورفعت ساقها لتنزل بها على قدمه بكل قوتها لكنّه أسرع يبعد قدمه لترتطم قدمها هي بالأرض، جحظت عيناها بألم، وضحك هو مزيدًا غضبها ونقمتها.

بهتت ابتسامته واختفى عبث نظراته بينما تنخفض من وجهها إلى ثيابها فانتبهت برعب أنّها ترتدي قميص نومها. صحيح كان محتشمًا عن فساتين ارتدتها سابقًا في عروضها وحفلاتها لكنّه يبقى قميص نوم. 

احمر وجهها وعادت تقاومه بشراسة 

"لا أعتقد أنّ ملابسكِ هذه مناسبة لمقابلة مدير أعمالكِ"

وألقى نظرة نحو الساعة مردفًا بسخرية

"ولا هذه الساعة المتأخرة من الليل أيضًا مناسبة للقائه"

قاومته بكراهية وضربت ساقيه بكل قوتها لكنّها لم تهز شعرة منه.

"على مهلكِ يا فراشة"

لم يدر كم كان محقًا في وصفه، إحساسها القاهر الآن بينما تقاومه، أنّها فراشة مسكينة سقطت في شباك عنكبوت ضخم. همهمت بشتائمها التي زادت من لمعة عينيه لا أكثر بينما يردف قائلًا بأسف مصطنع

"لا أعرف رأي سالم بهذا الموضوع"

وانقلبت نظراته لأخرى سوداء قبل أن يستعيد عبثه

"بالنسبة لي، لا أحب لامرأتي أن تقابل الغرباء بهذه الثياب ولا في هذا الوقت المتأخر"

حركت فمها بعنف لتتمكن في النهاية من غرس أسنانها في كفه. تأوه وهو يرفعها عنها وتراجع مرغمًا فدفعته بكل قوتها في صدره هاتفة

"اللعنة عليك، ماذا تظن نفسك فاعلًا؟"

ضحك وهو يلوح كفه قبل أن يلامس أثر أسنانها ويقول بسخرية

"فراشة مفترسة كما توقعت"

ثم غمز بوقاحة وهو يتحرك نحوها

"وكما آملت في الحقيقة"

ومط شفتيه متمتمًا بأسف

"لا أحب الصيد السهل لحسن حظي وحظكِ"

تراجعت بحذر تختلس النظر إلى هاتفها

"ابتعد. إياك والاقتراب، سأصرخ والجيران سوف"

ضحك ساخرًا

"اصرخي ميا آمور، لا أحد على بعد أميال من هنا سيستطيع سماعك للأسف"

لفظة التحبب الأسبانية زحفت على جلدها بطريقة أثارت أعصابها أكثر، لترتكب أكثر أخطائها غباءً حين أعطته ظهرها تريد الوصول لهاتفها. شعرت بحركته خلفها وقبل أن تلتفت شعرت بضربة قوية على مؤخرة رأسها. آخر ما شعرته كان اختفاء الأرض من أسفلها وارتفع جسدها في الهواء ليستقر رأسها فوق نبضات قوية ثم اختفى كل شيء.

**

أوقفت ذكرياتها بعنف وهي تنهض من مكانها لتندفع نحو باب الغرفة وحاولت فتحته، حركت مقبضه بعصبية قبل أن تضرب الباب بقدمها بعنف. جرت بعدها إلى الشرفة التي كانت ستائرها تتطاير مع النسيم، فتحتها واندفعت داخلها لتشهق بحدة وهي ترى ما حولها.

كانت في طابق مرتفع، تحيط بها أشجار عالية لكنّ ما صدمها كان الشاطئ القريب ومياه البحر الممتدة على اتساع الأفق. تراجعت بشحوب حتى اصطدمت بمقعد فسقطت عليه.

"هذا كابوس"

ظلت تردد لبرهة قبل أن تعود وترفع عينيها لتنظر إلى البحر أو المحيط، أيًا كان... 

ليس كابوسًا، إنه واقع ولا شك فيه،

هي مختطفة ومحبوسة في مكان ربما بعيد جدًا. 

هل عرف سالم وجون باختفائها؟ كم مضى على وجودها هنا أصلًا؟ ربما أفقدها الوعي لأيام. 

عادت النار تشتعل بقلبها فاندفعت عائدة للداخل، ضربت الباب بكل قوتها وركلته صارخة بكل لغاتها ولعناتها قبل أن تتهالك قواها وتسقط أرضًا. 

لقد ضاعت، لن يعرف أحد بوجودها هنا، مؤكد لم يترك دليلًا خلفه.

أطرقت دافنة رأسها بين كفيها تفكر في مصيبتها برعب وعقلها يرسم عشرات الاحتمالات لما يريده منها ولأجله أتى بها هنا.

*****************

كانت تخرج من الغرفة تبتسم لشيء قالته لها سمراء قبل أن تتركها لكن بتسامتها سقطت وتجمدت هي مكانها فور رؤية سالم أمامها واقفًا هو وشقيقه يتحدث مع أمها.

التفت لها بابتسامة وتعبير بدا كأنه كان في انتظار ظهورها فقطبت بتجهم وتجاهلته، تحركت تلتقط حقيبتها 

"أنا ذاهبة يا أمي، هل تريدين شيئاً قبل أن أذهب؟"

قالت أمها معترضة

"ذاهبة أين؟ ألم أقل أنّكِ ستقبين مع سمراء وأنا سأعود للبيت لأطمئن على أبيكِ؟"

احمر وجهها ورمقتها بلوم بينما ابتسم سالم ونظراته أخبرتها أنّه يدرك لمحاولة تهربها

"طيف يمكنها أن تبقى حتى أعود"

قالت باندفاع وقبل أن ترد أمها سارع هو

"ﻻ بأس، لن نبقى طويلاً على أية حال. جئنا لرؤية الآنسة سمراء ويوسف أراد الاعتذار لها بنفسه عما حدث"

ألقت رواء الحقيبة على الكرسي 

"بك الخير والله. جئت أنت وشقيقك لتريا ضحيته التي فقدت بصرها بسبب رعونته"

كز يوسف على أسنانه بينما رمقها سالم بضيق 

"رواء، اصمتي"

نهرتها أمه فصمتت وهي ترمقه بحقد بينما تلتفت أمها إليه

"شكراً يا بني، لم يكن هناك داع لكل هذا التعب"

ونظرت ليوسف مردفة بهدوء

"ﻻ داع للاعتذار، إنّه قدر الله والمكتوب على الجبين تراه العين"

"ونعم بالله"

رد بخفوت وعادت أمها تنظر لها وتأمرها

"رواء، ادخلي لتخبري شقيقتكِ لتستعد"

رمقتها بدهشة حانقة فكررت بصرامة

"رواء"

حدجت سالم بنظرة قاتلة اندفعت بعدها إلى غرفة سمراء هاتفة بانفعال

"صحيح، يقتل القتيل ويمشي في جنازته"

"ماذا حدث؟ من قتل من؟"

سألت سمراء بمرح لم يغب عنها افتعاله، فغمغمت بكلمات غير مفهومة لتبتسم شقيقتها

"ما بكِ؟ ما الذي قلب مزاجكِ في ثوان هكذا؟"

"ذلك الوغد الذي صدمكِ وشقيقه"

قطبت سمراء 

"ماذا حدث؟"

هتفت وهي تلف لها حجابها بعناية

"إنّهما بالخارج، سالم المنصوري وشقيقه"

قطبت أكثر

"سالم المنصوري؟ من؟ لحظة، هذا الاسم..."

انتبهت رواء أنّهم لم يخبروها بهوية من صدمها منذ استيقظت. ارتمت على حافة الفراش زافرة بقوة بينما همست سمراء بتوجس

"رواء... أليس سالم هذا هو"

قطعت جملتها فأجابتها بمرارة

"إنّه هو"

حركت سمراء يدها في الهواء بحثاً عن كفها لتمسكه هامسة 

"أنتِ بخير؟"

قاومت اختناقها لترد بنبرة لا تظن أنّها نجحت في خداع سمراء

"أنا بخير طبعاً، لم يعد يعني لي شيئا. لقد انتهى من حياتي تماماً"

تنهدت سمراء بحرارة 

"هل هو من صدمني؟"

"لا، ليس هو. شقيقه الأحمق، هو من صدمك"

ابتسمت وربتت على كفها

"وهو أيضاً من أحضرني للمشفى. لم يهرب من مسؤوليته، وأنقذ حياتي"

"كيف تقولين هذا؟"

هتفت حانقة فضحكت سمراء ثم قالت برضا

"أنا لم أنتبه أثناء عبوري وما حدث كان قدراً مكتوبًا. الحمد لله أن نجاني من الموت، وهذا يكفيني لأسجد شكراً. أنا لست ناقمة عليه لذا لا تغضبي هكذا"

"لست غاضبة"

رددت بتذمر جعل سمراء تضحك أكثر

"هذا واضح"

وحركت يدها لتلامس كتفها مربتة

"ناوليني النظارة وساعديني لأجلس ثم أدخليهما"

زفرت بحنق لكنّها ناولتها النظارة السوداء، رمقتها بألم وكأنما شعرته سمراء فابتسمت بمرح

"ما رأيك؟ أبدو فاتنة، صحيح؟"

ابتسمت بقلة حيلة واقتربت تداعب خدها

"أجمل فتاة على الأرض"

"آه، لا تبالغي بالله عليكِ ، ستفسدين تواضعي"

قالت ضاحكة قبل أن تسألها

"هل هناك مشكلة بملابسي؟"

"ﻻ يا حبي، كله تمام"

صفقت كفيها رافعة رأسها بحركة تمثيلية

"حسناً، ادخلي الضيوف"

ابتسمت مرغمة قبل أن تمسح بسمتها وهي تفتح الباب بوجه بارد

"سمراء مستعدة يا أمي"

تقدمت أمها للغرفة وقالت مشيرة لسالم

"تفضلا يا بني"

تحاشته رواء لكنّ عينيه ظلتا عليها، تأففت مشيحة وجهها بينما تبتعد لتقف قرب النافذة وتدعي الانشغال بالنظر للخارج، تختلس النظر كل برهة لتراقب شقيقتها وكأنها تبلغهما أنّها ليست مطمئنة عليها معهما وترفض وجودهما من الأساس،

وليته يدرك رسالتها ويتقبل رفضها ولا يعود من جديد.

*******

 

استمعت سمراء للخطوات التي تقترب منها ورغمًا عنها كانت خلاياها متحفزة وكأنما انتقلت إليها العدوى من رواء، هدأت نفسها بنيما تسمع أمها تقدمهما ورحبت بهما بهدوء

"أهلاً وسهلاً بكما"

"حمداً لله على سلامتكِ يا آنسة سمراء"

توقعت أنه سالم فشكرته بامتنان وران صمت مربك لثوان قبل أن يخبرها

"هذا أخي يوسف أتى ليعتذر لكِ خصيصاً"

صفحة بيضاء تحول إليه عقلها فجأة وتجمد كل جسدها عدا قلبها الذي انتفض بعنف وتحركت شفتاها بهمس غير مسموع

"يوسف!"

لم يبد على أحدهم أنّه انتبه لجمودها ويوسف يقترب بحرج

"حمداً لله على سلامتكِ ، أعتذر بشدة عما حدث... أنا حقاً آسف"

رددت بشرود 

"ﻻ باس. كان قدري، وأنا أتحمل جزءاً مما حدث، لا تضغط على نفسك أنا لا ألومك"

لم يرد وداخلها شعور أنّه اندهش من ردها قبل أن تشعر به يقترب ويقدم لها شيئًا التقطت عطره قبل أن يلامس يداها، كانت باقة زهور

"تقبلي هذه مني إذن وأرجو أن تسامحيني"

تسربت دموع سريعة إلى عينيها فحمدت الله أنّها ترتدي نظارتها وقاومت حتى لا يتحشرج صوتها 

"شكرا يا أستاذ يوسف، لا يوجد ما أسامحك عليه. في النهاية قمت بواجبك وأنقذت حياتي"

وأطرقت تأخذ نفسًا عميقًا من الزهور، وتدفن فيها وجهها عنهم جميعًا

عاد صوته يتسلل إليها 

"أنا شاكرٌ للغاية موقفكِ ، وحمداً لله على سلامتكِ مرة أخرى. إن احتجتِ أي شيء أنا في الخدمة"

سمعت رواء ترد عنها بغلظة

"شاكرين أفضالك لكن سيكون من الأفضل ألا تأتي مرة أخرى ربما تتحسن حالتها أسرع"

ضغطت سمراء شفتيها بلوم قبل أن تسمع أمها تقول باعتذار

"مرحباً بكما في أي وقت يا بني"

"أمي، هلا توقفتِ عن إحراجي أمامهما؟"

هتفت رواء ويبدو أن أمها كالعادة هزت رأسها بيأس لأن رواء تابعت بحنق

"تمام، سأذهب من هنا فلم أعد أطيق المكان"

أنصتت لخطاها تبتعد من الغرفة فكتمت تنهيدة آسفة على شقيقتها قبل أن تنتبه على صوت سالم

"كما قال يوسف يا آنسة سمراء، نحن متكفلون بكل شيء حتى تقومي بالسلامة"

تمتمت بصعوبة

"شكرًا لكما، لا داعي لكل هذا التعب"

"هذا واجبنا"

تحمدا لها بالسلامة مرة أخرى ثم اعتذرا وغادر الغرفة برفقة أمها، شعرت بطيف تقترب وكأنها انتبهت لحالتها

"سمراء، أنتِ بخير؟ سمارا"

انتفضت مع لمستها لكتفها

"نعم"

"ماذا حدث؟ هل أغضبكِ حضورهما؟"

أسرعت نافية

"لا، لم أغضب. الأمر فقط... ظننت"

أطرقت وهي تضم باقة الزهور إليها ثم قالت بابتسامة مرتجفة

"انسي الأمر، لا شيء مهم"

ربتت طيف على كتفها فهمست بتثاقل وهي تعطيها الباقة

"خذيها، أنا أشعر بالتعب وسأنام قليلاً"

أخذتها منها ثم ساعدتها في الاستلقاء بفراشها ومسحت على رأسها بحنان

"سأكون في الغرفة الأخرى، ناديني لو احتجتِ شيئاً"

أومأت وهي تغمض عينيها تدعي النوم، عشرات الأفكار حاصرتها في دوامة من الحيرة والارتباك. تحسست قلبها المتوجع

"هل كنت أتوهم كل شيء بالفعل؟"

همست بألم بينما عقلها يغرق  في ذكريات بعيدة منحت نفسها لأول مرة حرية استعادتها رغم الألم الذي أيقظته،

ألم هو آخر ما ينقصها وسط الظلام الذي تتخبط فيه.

***********************

 

تحركت نيروز بخطوات سريعة نحو كافيتريا الجامعة حيث تنتظرها صديقتها، رفعت رأسها تلتقط بعض الأنفاس، وقتها المستقطع خارج سجن المنصوري حيث تتنفس بحرية.

من الحماقة أن تعترف أنّها تحسد الطلبة الذين حولها لكنها سرعان ما تخبر نفسها أن كل إنسان يخفي من الهموم ما لا يتخيله الناس، والدليل هي وأسرتها.

الناظر لهم من الخارج يحسدهم على ما يعتقدونه نعيمًا بينما هي على استعداد أن تبادل هذا كله بلحظة حرية واحدة.

 

لم تنتبه في شرودها لما أمامها فاصطدمت بأحدهم 

"انتبه يا أحمق"

"انتبهي يا هذه"

التفتا لبعضهما بغضب وهتفت فيه

"لمن تقول يا هذه؟ هه؟"

كاد يهتف فيها لولا أن اندفع أحدهم ليشده معتذراً منها

"أعتذر منكِ يا آنسة، صديقي لم يقصد"

التفت له بنظرات نارية بينما رن هاتفها ليمنعها من مواصلة الشجار

"هل جُننت يا محمد؟ هذه الحمـ.."

توقفت لتلتفت له بتجهم بينما أسرع صديقه يشده

"تعال يا شاهد، ألم تقل أنّك مستعجل؟ لا أعرف ماذا أتى بك من كُليتك إلى هنا أصلاً؟"

سمعته يهتف وهما يبتعدان

"لأصطبح ببعض الأغبياء الذين يعكرون المزاج"

رن هاتفها مرة أخرى فالتقطته هاتفة بحدة

"أنا قادمة يا نهلة، كنت أعلم أنّ خروجي اليوم سيء"

"ما بكِ؟"

هتفت وهي تسرع إليها

"اصطدمت بثور أحمق"

"ثور؟"

"انسي ما قلت، دقائق وسأصل الكافيتريا"

أغلقت معها وعادت تسبه ولم تنس أن تضم معه إيهاب ككل مرة يحدث ما يغضبها.

خلال دقائق كانت تجلس أمام صديقتها التي تنهدت ناظرة لها بيأس

"رائع، ما زلتِ مشتعلة بالغضب لكن اعذريني، لن تذهبي لتدخني سيجارة أخرى ثم تعودي كأنّ شيئاً لم يكن"

رمقتها بتجهم وتجاهلت الرد فهي تعلم عدم رضا نهلة عن مسألة تدخينها

"حسناً، لماذا ننتظر هنا الآن؟"

نظرت في ساعتها وعادت تدير عينيها خارج الكافيتريا

"انتظر شقيقتي العزيزة، لقد أصرت أن تأتي هي وصديقتيها"

اعتدلت مقطبة

"لم نتفق على هذا نهلة، تعرفين أنني لا أحب الخروجات الجماعية ومع أشخاص لا أعرفهم"

ونظرت في ساعتها

"كما أنني لن أستطيع التأخر"

"أعرف، ثم لا تقلقي، لا يوجد غرباء. إنّها شقيقتي"

"وصديقتاها"

أضافت مصححة فضحكت نهلة

"وصديقاتاها، لا تغضبي"

رمقتها بنزق ثم قالت بعد لحظات

"ماذا؟ هل سيتأخرن؟"

أجابتها بابتسامة يائسة

"ربما لو هدأتِ قليلاً لن تخسري شيئا"

حركت أصابعها فوق الطاولة بينما نهضت نهلة لتطلب لهما مشروبين وعادت بعد قليل 

"اشربي لتروقي بالكِ"

تناولت العصير مرددة

"آسفة، كلما تذكرت ذلك الثور الأحمق احترق دمي"

ضحكت نهلة وارتشفت من مشروبها

"أخيراً رأيت نيروز هانم تغضب كبقية البشر"

رمقتها شذراً بينما هتفت نهلة وهي تنظر في اتجاه ما

"آه، ها قد أتوا"

نظرت نيروز للثلاث فتيات اللاتي اقتربن وتوقفت عيناها على السمراء بينهن، بدت مألوفة لها بشدة. سمعت نهلة تقدمهن لها حين توقفن قربهما. 

"طبعاً تعرفين لبنى، شقيقتي العفريتة… وهذه الرقيقة هنا صديقتها آية، وهذه الهادئة... سامحني يا رب"

قالت ضاحكة لترمقها السمراء بحدة مفتلعة فصححت نهلة

"هذه العاصفة الصغيرة، طبيبتنا المستقبلية طيف"

أمسكت طيف ياقتها وانتفشت بغرور مفتعل فضحك ثلاثتهن بينما اكتفت نيروز ببسمة مجاملة.

نظرت لصديقتها مع جلوسهن، تخبرها بعينيها أنّها ستتأخر هكذا لكنّها لكزتها قبل أن تنهض

"ﻻ بد أنّكن جائعات، سأطلب لكن بعض الشطائر"

قالت طيف

"ﻻ تعملي حسابي. لن أبقى طويلًا، لا أريد التأخر على سمراء"

عادت لمقعدها تسألها بقلق واهتمام

"صحيح، كيف حالها؟ إن شاء الله أصبحت أفضل حالاً"

تنهدت طيف

"إنّها بخير، ستخضع لعملية وإن شاء الله يكون فيها الشفاء"

تحرك صدر نيروز بهاجس غير محبب مع حديثهما

"ﻻ تقلقي، إن شاء الله ستقوم لكم بالسلامة"

"آمين يا رب"

تمتمت طيف بحرارة ثم تابعت

"لولا أنّ رواء أصرت على ذهابي للكلية لما تركت سمراء لحظة واحدة"

قطبت نيروز والاسمان يترددان معًا في عقلها وطيف تواصل بهزة كتف

"لكن كما تعرفون، إنّها رواء هتلر وأوامرها الصارمة"

ضحكن عدا نيروز التي غمغمت بتساؤل بعد ثوان

"رواء؟"

ردت لبنى

"أليس اسماً جميلا؟ ليت والديّ أطلقا عليّ هذا الاسم"

لم تسمع نيروز حرفًا منها، سألت طيف بتوجس

"شقيقتاكِ اسمهما، رواء وسمراء؟"

أومأت طيف بتقطيبة حائرة فتراجعت نيروز في مقعدها

"ﻻ تقولي أنّك طيف العزايزي"

"نعم، أنا طيف العزايزي لكن... من أين تعرفينني؟"

لم تجبها وانتفضت واقفة بعصبية

"أنا ذاهبة"

أسرعت نهلة تقبض على ذراعها هاتفة

"ماذا أصابكِ فجأة؟"

ردت وهي ترمي طيف بنظرة كارهة

"آسفة يا نهلة، لن أستطيع البقاء أكثر"

نهضت طيف تواجهها 

"مهلاً يا آنسة، لو كان لديكِ كلام يخصني فتقيأيه قبل أن تذهبي"

"أتقيأه؟"

هتفت بذهول فتخصرت طيف 

"نعم تقيأيه، من الواضح أنّ لديكِ الكثير من الكلام المسموم فمن الأفضل أن تتقيأيه قبل أن تموتي من كتمه"

قبل أن تهجم عليها شدتها نهلة كما فعلت لبنى مع طيف

"ماذا تفعلين يا نيروز؟"

"طيف، ماذا دهاكِ؟"

التفتت الاثنتان في وقت واحد

"ألم تسمعي ما قالته؟"

عادتا تنظران لبعضهما وهتفت نيروز

"أنا لم أقل شيئاً يا هذه، أنتِ من قمتِ مثل الثور لتهاجميني"

اشتعلت عينا طيف وبحثت بجوارها عن أي شيء كأنما لتضربها به

"أنا ثور يا أنثى العنكبوت؟"

"أنثى عنكبوت؟"

"آسفة جداً، أنا أعتذر لأنثى العنكبوت فهي ألطف منكِ بمراحل"

"طيف توقفي، يكفي فضائح"

رددت آية وهي تشدها بتوسل فانتزعت ذراعها هاتفة

"أنا من أسبب الفضائح؟ هي من غضبت وهاجمتني دون سبب، من أنتِ يا هذه أصلاً؟"

رفعت نيروز رأسها بترفع

"أنا نيروز المنصوري"

تراجعت طيف مصدومة فأكملت ببرود

"يبدو أنّكِ فهمتِ الآن"

والتفتت لصديقتها

"أنا ذاهبة يا نهلة، لقد ساء مزاجي ولن أستطيع الذهاب لأي مكان"

لم تبتعد سوى خطوات حين وجدت طيف تلحقها وتوقفها هاتفة 

"مهلاً يا عصا المقشة... أنا لم أنته من كلامي بعد يا بنت المنصوري"

انتزعت نيروز ذراعها واشتعلت عيناها بغضب مماثل

"إن كنت أنا عصا مقشة فأنتِ (سلعوة) ابتعدي عني أحسن لكِ"

كادت طيف تهجم عليها لولا أن كبلتها صديقتاها

"أنا سلعوة؟ انظري لنفسكِ يا هذه"

رفعت نيروز سبابتها

"لن أرد عليكِ، في الحقيقة لا أريد رؤية وجهكِ هذا في أي مكان، أنتِ وشقيقتكِ لا يأتي من روائكما سوى المصائب"

بادلتها الاتهامات بعنف

"بل أنتِ وعائلتكِ كلها سبب المصائب والبلاء، لم تكتفوا بكل المصائب التي حلت علينا بسببكم ليأتي شقيقكِ الحقير ويصدم شقيقتي بسيارته"

"ماذا تقولين يا هذه؟ ما علاقة شقيقي بـ.."

قاطعتها بشراسة

"يوسف المنصوري، أليس شقيقكِ؟"

قطبت نيروز بتوتر وطيف تكمل بكراهية

"ماذا؟ لم يخبركم بجريمته؟ بسببه فقدت شقيقتي بصرها والله أعلم هل ستُشفى أم لا"

شحب وجه نيروز لكنّها لم تلبث أن ردت 

"ﻻ بد أنّ شقيقتكِ الحمقاء هي السبب، من يدري... ربما ألقت نفسها على سيارته لتحصل على تعويض مالي أو لتنصبوا عليه"

شهقت طيف وقاومت قبضة آية ولبنى صارخة

"ننصب عليه؟ هل تقولين هذا عنا؟ أنتِ ، لا تلعبي في عداد عمركِ"

"أقصى ما في خيلكِ اركبيه"

ولوحت بكفها بعجرفة

"لن أضيّع وقتي مع أمثالكِ"

"نهلة، أبعدي هذه الملعونة عن وجهي وإلا سأشوه وجهها"

صاحت طيف بشراسة قبل أن يقاطعها صوت

"طيف، ماذا يحدث؟"

التفتن إلى مصدر الصوت لتتسع عينا نيروز مع رؤية نفس الشاب الذي صدمته

"ما الأمر؟ لماذا تتشاجرين هكذا؟"

لدهشتها ردت طيف بهجوم

"وما شأنك أنت؟"

تراجعت نيروز للخلف وقد لاحظت أن الطلاب يراقبون ما يحدث بتسل وفضول كما فعل شاهد الذي قال

"طيف، أنتِ تلفتين الأنظار هكذا وهذا لا يصح"

كتفت نيروز ذراعيها وقالت ساخرة

"كان يجب أنّ أخمن أنّكما تنتميان لنفس الفصيلة"

التفت شاهد نحوها ليقطب في الحال

"هذا أنتِ؟ ماذا تريدين يا هذه؟ هل تتحركين في كل مكان وتناطحين البشر؟"

"ماذا تقول أيها الثور الأحمق؟"

"ثور؟ اسمعي يا هذه، لقد احترمت نفسي معكِ في المرة الأولى لكن أقسم بالله إن لم تتأدبي سـ"

"ماذا ستفعل، هه؟"

أمسكه محمد قبل أن يتهور بينما اندفعت طيف

"مهلاً، هل تعرف هذه العنكبوتة؟"

اندفعت نيروز بكراهية

"أنتِ هي العنكبوتة يا ذات لسان الأفعى"

"تهذبي معها يا هذه"

هتف بها شاهد فرددت نيروز بتهكم وهي تنقل بصرها بينهما

"من الواضح أنّكما تقربان لبعضكما"

"إنّه ابن عمها"

كان الرد من لبنى التي حدجتها طيف بنارية وشاهد بابتسامة بينما يكمل

"وخطيبها"

"خطيبتك في عينك"

هتفت بها طيف فلم تقاوم نيروز ضحكتها الساخرة 

"لماذا تضحكين يا هذه؟"

هتف فيها شاهد فنهرته طيف

"لماذا تتحدث معها؟"

قاطعته نيروز قبل أن ينطق

"وما شأنكِ أنتِ؟ هل وجه لكِ الحديث؟"

"هل أنتِ مجنونة يا هذه؟ هل تسمعين ما تقولينه أصلاً؟"

"أنتِ هي المجنونة وخطيبكِ أيضاً"

صرخت فيها

"ليس خطيبي"

"هل ستكتفيان من الفضائح في هذا اليوم؟"

التفتت هي وطيف لتصرخا فيه في وقتٍ واحد

"اخرس أنت"

نظرتا لبعضهما بكراهية بينما تدخل محمد مصفقاً

"وقت مستقطع يا شباب"

واقترب من صديقه

"لحظة يا شاهد، تمالك أعصابك"

همس له مترفقاً قبل أن يتلفت لآية المصدومة

"آنسة آية لو سمحتِ، هل يمكن أن تأخذي الآنسة طيف بعيداً حتى تهدأ؟"

أسرعت مع لبنى تشدان طيف الناقمة والتي لم تنس أن ترمقها بكراهية فبادلتها نيروز إياها ثم اندفعت مغادرة بخطوات عنيفة دون أن تستمع لنداءات نهلة التي تحاول اللحاق بها.

"مستحيل، مستحيل"

تمتمت وقلبها مشتعل بغضب، لا يمكن أن تكون قد عادت.

ألهذا السبب عاد سالم؟ مؤكد.

لا، لن تعود لتقلب حياتهم مرة أخرى. لا يجب أن يحدث،

لا يجب.

 

*****************

 

كيف يمكن أن تكره مكانًا كان يومًا عالمك الصغير ومهربك من مرارة واقعك؟

لطالما تساءلت تارا كلما وجدت نفسها في غرفتها القديمة، هذه الغرفة التي كانت ملجأها، المكان الذي ترسم فيه خيالات تعيش فيها وأصدقاء خيالين يعوضونها يُتمها وأبواها على قيد الحياة، أب لم تر في عينيه نظرة حب أو عطف، وأم كان كل همها طموحها وشهرتها وثروتها، أمها التي لم تفوت فرصة تشعرها فيها أنّها لم تكن الابنة التي رغبتها.

ابنة باهتة لا تليق بمن كانت يومًا نجمة سينمائية شهيرة ثم سيدة أعمال متألقة.

لكن لماذا تستغرب وهي تعرف إجابة سؤالها؟

هذه الجدران شهدت عذابها وذلها، وشهدت مذبحها وخيانتها، غرفة طفولتها وصباها تحولت إلى شرك خانق من الذكريات والآلام.

تراجعت تجلس بشحوب على الكرسي المقابل لمرآتها، تمسح على قلبها كأن لمستها قد تخفف عنه.

هي لم ترغب أبدًا في هذا العالم، جاهدت لتنجو، لتعوض جوعها إلى الحنان.

بذلت كل ما لديها في دراستها، بذلت كل طاقتها لتنال رضا أمها. تفوقت في دراستها وتعلمت الموضة والإتيكيت وكل شيء يؤهلها لتليق بسيدة مجتمعة راقية كأمها ووزير سابق كوالدها، لكنّها لم تنجح.

ومع هذا استمرت... أغرقت نفسها في أنشطتها الجامعية لتحصل على حب الجميع هناك... ونجحت.

الكل كان يشهد لها بالنشاط والطاقة والحياة وهي نسيت نفسها في تلك التمثيلية وأدمنتها حتى...

 

انتفضت من أفكارها على انفتاح الباب بعنف لتدخل أمها بعصبية

"لماذا لم يصل زوجكِ حتى الآن؟ ألم تخبريه أنّه يجب أن يتواجد قبل كل الضيوف؟"

رفعت لها عبر المرآة عينين باهتتين

"اتصلت به وأخبرني أنّه قادمٌ في الطريق"

قابلها انعكاس أمها المتأنقة في ثوب سهرة أسود، مكشوف الذراعين والصدر، يعانق جسدها الرشيق، وعلى جيدها الأبيض استقرت قلادة ماسية تخطف الأبصار، أنيقة كعادتها، عندما تراها تارا تشعر أنّها بجوارها منطفئة باهتة وأنّها محقة في رأيها عنها.

اكتسحت الثلوج قلبها وهي تسمعها تقول متأففة

"ﻻ أعرف متى ستتعلمين، كان يجب أن أفقد الأمل فيكِ منذ وقتٍ طويل"

واقتربت على كعبيها المرتفعين مقطبة بتحذير

"إياكِ أن تكوني قد أخبرتِه ذلك الهراء الذي قلتِه لي"

هل تقصد بذلك الهراء تقصد به طلبها للطلاق؟ مؤكد.

سمعتها تواصل باستخفاف

"وجهكِ يقول أنّكِ لم تنجحي حتى في تنفيذ نصيحتي"

وأرجعت خصلاتها للخلف زافرةً بيأس،

"ليس لديكِ ذرة عقل واحدة في رأسكِ . لم تنجحي في استمالته كالعادة"

انطلقت من حلقها ضحكة ساخرة قطبت لها أمها، واستدارت تارا تواجهها، ضحكت لثوان بمرارة ثم أخبرتها

"أخبرتكِ مليون مرة، أسامة لا يراني. هل سمعتِ؟ لا يراني... أنا هواء، أنا لا شيء في نظره"

وغرست كفيها في ساقيها تقاوم ارتجافها، وتردف كطائر ينتفض مذبوحاً

"ست سنوات... ست سنوات أحيا معه في قبر بارد. أختنق بحثاً عن الهواء وكل ما يهمكِ خططكِ اللعينة واسم المنصوري وثروته"

صرخت بآخر كلماتها في حرقة ثم واصلت بتحشرج

"ست سنوات وأنا أموت أمامكِ . أموت في كل لحظة"

أطرقت لثوان تحاول التحكم في أنفاسها، ثم رفعت رأسها لتخبرها بصوت استعاد بروده

"سمعت نصيحتك مرة. مرة واحدة ودفعت مقابلها ست سنوات عذاباً وقهراً، ولا أنوي تكرارها. لن أذل كرامتي أكثر تحت قدميّ رجل لا يراني"

حدجتها أمها لثوان قبل أن تقول بقسوة

"امرأة أخرى أقل منكِ جمالاً كانت جعلته من أول ليلة خاتماً في إصبعها، لكن لا فائدة منكِ . ستبقين فاشلة طيلة حياتكِ"

ابتسمت تارا بيأس 

"ﻻ فائدة، أنا أتحدث مع نفسي"

لوحت بسبابتها تخبرها بصرامة

"اسمعيني جيدًا. اسم المنصوري الذي تستخفين به ويخنقكِ هكذا، هو ما يفتح لنا كل الأبواب المغلقة وهو من سيهدم كل شيء على رؤوسنا إن تغابيتِ، وأنا لن أسمح لكِ"

وضاقت نظراتها بشدة وهي تحذرها

"لن أدعكِ تدمرين كل ما حققته في حياتي. ضعي هذا حلقة في أذنكِ ونفذي ما قلته وإلا لا تلومي سوى نفسكِ"

تحركت بترفع لتغادر لكنّها التفتت من عند الباب قائلة بصرامة

"اتصلي بزوجكِ . الضيوف على وشك الوصول والصحافة ستكون موجودة … أريد أن تظهرا للجميع كزوجين سعيدين لا تطيقان الابتعاد عن بعضكما، مفهوم؟"

تابعت خروجها ببرود حتى اختفت وحل الصمت عليها يشوشه صخب الذكريات من حولها، غطت أذنيها بكفيها بقوة ودموعها تسيل.

التفتت تنظر لوجهها الباكي في المرآة، 

وتشوشت صورتها لتحل محلها أخرى لها قبل سنوات، صورتها تسألها بقسوة

"حتى متى تبقين بهذه السلبية؟ حتى متى ترضين بكل هذا؟"

ترد عليها همسًا بمرارة

"وما الفائدة؟ إن كان هناك مخرج قولي لي"

رن هاتفها فأسرعت تمسح دموعها، نظرت لاسم المتصل لثوان قبل أن تجيبه بجمود

"نعم يا أسامة، هل وصلت؟ تمام وأنا سأنتهي خلال دقائق"

 

أغلقت معه وأسرعت تمسح زينتها التي فسدت لتعيد وضعها، كانت تعيد أدوات الزينة مكانها حين وقع بصرها على أحد الأدراج المغلقة، ظلت تحدق فيه بتشتت قبل أن تهزمها نفسها فتفتحه.

كم مرة أخذت عهدًا على نفسها ألا تفتحه؟

لو كانت تملك القوة لأحرقت كل هذه الذكريات، لكن من قال أنّها بهذه القوة.

من قال أنّها بهذه القسوة لتحرق جزءًا غاليًا من نفسها مهما كان الألم الذي يسببه، كيف تبتر نفسها من نفسها؟

أخرجت الألبوم بيد مرتعشة، لامسته بحنين، تتذكر تارا القديمة، تفتح الصور لتتأمل نفسها كأنها بذلك تستعيد بعضًا من قواها لتواصل المقاومة.

دمعت عيناها وهي تقلب في صور الجامعة تلامس وجهها المشرق المبتسم وأوجه رفاقها. رباه، كم تشتاق لتلك الأيام، تشتاق لتارا هذه و...

تجمدت يدها وعيناها تقعان على وجهه، أسرعت تقلب باقي الصفحات تتحاشى النظر إليه لكنّ في كل صفحة ترى صورة لهما معًا، في الجامعة وفي مناسبات أخرى. 

توقفت عند صورة لهما في المكتبة، فخانتها ذكرياتها إلى لقائهما الثاني، كان بنفس المكتبة.

تتذكر لحظتها كأنّها تعيشها للتو...


كانت تقف أمام أحد الأرفف، تلتقط كتابًا أخيرًا لتضيفه إلى مجموعة الكتب التي ضمتها إلى صدرها بحذر ثم حملت  كوب مشروبها المفضل وتحركت دون أن تنتبه للواقف مستنداً للحائط قربها 

"مرحباً يا عضوة الاتحاد النشيطة"

التفتت شاهقة وتعثرت خطواتها، انسكب السائل الساخن على كفها لكنّه أسرع يتناول الكوب منها قائلاً بمرح

"يبدو أن التعثر عادة لديكِ"

احمر وجهها بينما ساعدها لتعتدل في وقفتها، نظرت حولها بحرج ترى كم شخصاً رأى ما حدث ثم التفتت له مقطبة

"للمرة الثانية كنت ستجلعني أخسر مشروبي"

أسرع يرفع سبابته لشفتيه هامساً

"انتبهي، نحن في المكتبة"

وقدم لها الكوب فانتزعته منه ليضحك بتسامح

"يبدو أنكِ من النوع الذي يحمل الضغائن"

حدجته بنظرة جانبية وردت بحنق

"ماذا تريد؟"

"إيهاب عامر"

أخبرها مبتسمًا وهو يمد لها يده فرفعت رأسها ببرود

"لست مهتمة"

سحب يده وانفجر ضاحكاً، وخسر قلبها عدة نبضات قبل أن تنخفض ضحكته ويقول

"أخبرتكِ أنكِ تحملين الضغائن"

تحركت من أمامه بارتباك 

"ويبدو أنك من النوع المزاجي، تارة متعجرف كئيب وتارة خفيف الظل بشكل لا يطاق"

أسرع يلحق بها في ممرات المكتبة 

"كنتُ في مزاجٍ سيء ذلك اليوم، وأنتِ زدت الطين بلة. أعتذر بشدة"

التفتت له بحدة 

"ماذا تريد بالضبط يا أستاذ إيهاب؟"

ابتسم لها برقة 

"أتيت أمد غصن الزيتون يا آنسة تارا"

رمقته بشك فتابع واضعاً يده على قلبه

"أقسم لكِ غرضي شريف تماماً. أتيت أعتذر... وثانياً، أتيت أجيب عن سؤالكِ الآخر"

"أي سؤال هذا؟"

سألته بحيرة فابتسم بخبث 

"عن النشاط الطلابي الذي أرغب في الانضمام إليه"

عاودها حماسها في لحظة

"هل تريد الانضمام إلينا؟ أي أسرة نشاط؟"

"أنتِ عضوة في أي أسرة؟"

احمرت مجيبة

"ما علاقة هذا بك؟ أخبرني أي الأنشطة تفضل"

ظل يتأملها لثوان مربكاً إياها قبل أن يقول مبتسماً

"لماذا لا نجلس في مكان هادئ لتخبريني بكل التفاصيل التي لم أسمعها جيداً المرة السابقة"

احمر وجهها بغيظ وأسرعت تصحح له

"بل لم تسمعها إطلاقاً"

وضع يده على قلبه متأوهاً بمسرحية

"جرحتِني بشدة، لم أخطئ حين قلت أنكِ حاملة للضغائن"

ومد يده ينتزع الكتب منها لتهتف

"ماذا تفعل؟"

غمز وهو يلتقط الكوب منها

"تحسباً لأي حركة تعثر مفاجئة منكِ . هيا الحقي بي"

وابتعد تاركاً إياها تحدق في إثره بدهشة قبل أن تلحقه وقلبها يخبرها أن هذا المتقلب سيثير جنونها كثيراً الأيام القادمة.

******

صوت ارتطام انتزعها من ذكرياتها فانتبهت لتجد الألبوم واقعًا جوارها على الأرض، انحنت تلتقطه وأغلقته بحدة، أعادته إلى محبسه وأغلقت الدرج بعنف وكادت تندفع نحو الشرفة لترمي بالمفتاح بعيدًا لكنها تراجعت.

واجهتها عيناها فهالتهما لمعة الدموع فيهما، أخذت نفسًا قويًا علّها تتحكم في مشاعرها قبل أن تنظر لوجهها في المرآة تهمس لنفسها بحزم وصرامة

"ﻻ تعودي إلى هناك يا تارا، لا تعودي مرة أخرى، لا تفعلي"

****************

 

تقلبت فلك في فراشها كأنّها على جمر، حدقت في الظلام في خوف قبل أن تعتدل وتشعل الإضاءة الجانبية. نظرت حولها باضطراب تفتش في الجدران التي لا تدري من أيها ستنبعث الأشباح لتهاجمها. أردات النهوض لتسرع غرفة سالم كما كانت تفعل في صغرها، تختبئ في حضنه من أشباح كوابيسها، لكنّ خوفها كبلها فظلت مكانها.

ضمت ركبتيها إلى صدرها وأحاطتهما بذراعيها، دفنت وجهها فوقهما تهمس داخلها بارتجاف

"لن يأتي، لا تخافي. لن يأتي"

جسدها يتحرك للأمام والخلف في حركة رتيبة، عقلها ينسحب رويدا لذكرياتها المريرة... الضرب المبرح وخصلاتها المقصوصة تسقط صريعة أسفلها، وتامر...

تامر ينزف من كل جسده يرقد هامداً بلا حراك، والدها يقف كجلمود صخر يحدجها بنظرات متهمة .

ازدادت حركاتها اضطراباً وسرعة

"أنتِ مثلها، أنت أيضاً خيبت أملي. ظننتِني لن أعرف ما يدور خلف ظهري؟"

غطت أذنيها تصمهما عن ذكرى صوته القاسي، صوت ضربات العصي التي انهالت على جسد تامر، صرخاتها وهي تتوسل والدها أن يوقفهم قبل أن يقتلوه. الصفعة التي نالتها، جرح وجهها النازف، صرخاتها باسم سالم.

سالم ليس هنا... رحل. سالم تركها لمصيرها ورحل، تركها ورحل

سالم لن يعود.

جسدها يزداد اهتزازاً والكلمات لا تتوقف. سالم لن يعود، تخلى عنها. انغرست أصابعها في شعرها تشده بقوة كما فعل أبوها يومها

"شعركِ هذا كان يتغزل به في رسائله إليكِ، صحيح؟"

هزت رأسها نفياً ودموعها تسيل بحرقة وواصلت شد خصلاتها 

 

"قصه لها"

تقاوم صارخة بعنف بينما يقيدها اثنان بقوة في مقعدها وجرح وجهها ينزف، لا تتوقف عن الصراخ تناديه مستعطفة تارة ومستنجدة بسالم أخرى، تصرخ وتصرخ، خصلاتها تتساقط أسفلها، صوته الجامد يخبرها بقسوة

"لم تفرقي شيئاً عنها، كلتاكما خذلتني. خنتماني. وأنتِ ستنالين عقابكِ مثلها يا فلك"

صرخاتها تتلاشى، تهالكت مع آخر خصلة سقطت ذبيحة عند قدميها بينما تامر في ركن الغرفة ما زال هامداً

"خذوه وألقوه في أي مصيبة"

متهالكة تتابعهم بتشوش يحملون جسده الغارق بالدم، حاولت الهمس بشيء فلم تقدر، لم تجد صوتًا ولا قوة. استسلمت للظلام متوسلة ألا تستيقظ أبداً. ..

******

رفعت رأسها تحدق في الظلام المطل من خارج نافذتها، بدا لها أن عشرات الأشباح تطرق خارجها تحاول الدخول. أسرعت تندس أسفل الغطاء منطوية على نفسها كجنين 

"لن يأتي. لن يأتي الليلة... لن يأتي"

لم تعرف متى سرقها النوم لكنّها استيقظت فجأة منتبهة لتجد المصباح مغلقاً والغرفة غارقة في الظلام، تنفست برعب وصوت صوت الباب ينفتح أكثر. فتحت عينيها ليقابلها الحائط المقابل وقد تجسد الخيال فوقه كشيطان قادم من الجحيم. دارت ببطء لتقابل زائرها المعتاد، كان عند الباب، كياناً أسود بلا ملامح. تقدم بسرعة كأنما يطير في الهواء فشهقت برعب وصوته العميق يتردد مظلمًا

"لقد عدت يا فلك"

انتفضت خلايها وجاهدت لتجد صوتها دون جدوى بينما يقترب أكثر 

"جئت لآخذكِ معي، هيا تعالي"

هزت رأسها وهي تتراجع أكثر برفض، اقترب رافعاً كفيه وهو يميل نحوها، جحظت عيناها رعباً ويداه تحيطان عنقها ليخنقها

"تعالي معي إلى الجحيم... أنا أنتظركِ هناك كل ليلة"

شهقت وهي تضرب بيديها حولها لترتطم بالمصباح وتسقطه، الصوت يردف عميقاً مرعباً

"سنذهب الليلة يا فلك، سآخذك إلى الجحيم الذي تستحقينه"

شعرت بالهواء ينسحب من صدرها فأغمضت مستسلمة للموت علّه يرحمها من عذابها الطويل.

************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

وردة وقلبُك

اقرأ المزيد