الفصل الثامن
جرت أصابع ضياء بسرعة على لوحة المفاتيح محاولًا إنهاء عمله ليتفرغ بعدها للاتصال بشذى .. شرد مبتسمًا يفكر فيها .. لا يُصدق أنّها فتحت له الباب وأنّه يخطو كل يوم مقتربًا أكثر وأكثر من قلبها .. صحيح أنّها خطوات صغيرة تتحسس طريقها لكنّها تكفيه.
"قريبًا يا ضياء .. لا تيأس ستكون لك قريبًا"
همس لنفسه مشجعًا قبل أن يتدخل عقله ملوحًا بالعائق الآخر الذي يهدد اجتماعهما، فبهتت ابتسامته وفقد تركيزه كُليًا .. تطلع للشاشة واختلطت أكواد البرمجة التي يعمل عليها بجداله المحتد مع أبيه وشقيقه.
توقفت أصابعه تمامًا وعاوده اختناقه .. أغلق حاسوبه حين فقد كل تركيزه ونهض مرددًا بحزم
"لن يتدخل في هذا أيضًا"
ارتمى على الأريكة متنهدًا لتقع عيناه على نبتة الصبار قربه .. تناولها بحنين وأسى .. لماذا لا يريد أبوه أن يفهمه؟ .. لماذا يُصر على انتزاع أحلامه واحدًا بعد آخر؟ .. لقد غضب كثيرًا حين زارهم الشهر الماضي بعد أن عرف بتركه لوظيفته وازداد غضبه حين أخبره أنّه يريد خطبة فتاة أخرى غير التي أرادها له.
انقبضت كفه بحنق .. كُله من زوجة زاهر شقيقه .. هي من زرعت فكرة زواجه من شقيقتها في عقل زاهر ودفعته ليقنع والده بها .. يعرف جيدًا ما تفكر فيه وما هدفها من هذا .. لن تتوقف حتى تحقق ما تريده، والدليل أنّه رغم رفضه منذ عامين لا زال والده مُصرًا على إرغامه عليها ووصل الأمر لتهديده.
"لن أعود وليفعلوا ما يريدون"
غمغم بحدة وإصرار قبل أن ينهض متجهًا إلى فراشه ليرتاح قليلًا .. لمح هاتفه الموضوع على الجارور يهتز فاتجه إليه وقطب حين رأى اسم شقيقه .. قرر عدم الرد حانقًا .. بالتأكيد سيتحدث في نفس الأمر .. لقد سئم حقًا وسينفجر قريبًا .. توقف الرنين ليجد بعدها عشرات المكالمات من أشقائه ووقع قلبه أرضًا .. وقبل أن تحاصره الوساوس رن الهاتف ثانية فأسرع يرد ليأتيه هتاف زاهر غاضبًا
"أين أنت يا ضياء؟ .. هل تعرف منذ متى نحاول الوصول إليك؟ .. مليون مرة قلت لك احتفظ بهاتفك اللعين قربك"
قطب مغمغمًا
"زاهر أنا متعب، وإن كنت تتصل لنفس الـ .."
قاطعه هتافه
"أبي مريض يا ضياء"
توقف قلبه منقبضً وشقيقه يواصل
"لقد مرض فجأة وساءت حالته سريعًا"
"ماذا؟ .. كيف؟"
لم يجب أسئلته وهو يأمره بحزم
"لم يتوقف عن السؤال عنك يا ضياء .. تعال حالًا فوضعه ليس مبشرًا"
ارتجف قلبه وشعر بحرقة في عينيه وتمتم مصدومًا
"سآتي في الحال .. أرجوك يا زاهر ظل على اتصال معي حتى أصل"
"أسرع فالوقت ليس في صالحنا"
أغلق معه واندفع بسرعة ليبدل ثيابه وقلبه يرتعد بجنون محاولًا تصديق أنّ والده الذي تركه قبل شهر واحد وهو في صحته قد وقع طريح الفراش.
**************
قطبت شذى وهي تلقي نظرة على هاتفها .. لم يتصل كعادته .. هل قرر التوقف عن إزعاجها باتصالاته .. ردد قلبها معاندًا إياها ومساندًا ضياء
"كاذبة .. أنتِ تحبين اهتمامه وحبه لكِ ولا تنزعجين أبدًا"
تمتمت بحنق
"وها هو لم يتصل أصلًا"
"لا بد أن شيئًا حدث"
همس لها بقلق فتنهدت ونهضت تتحرك في غرفتها بتوتر .. قرضت أظافرها وذلك الشعور داخلها يزداد .. هي قلقة عليه بالفعل وإحساسها يقول أنّه ليس بخير.
نظرت بتوتر إلى هاتفها تقاوم ترددها ورغبتها في الاطمئنان عليه .. رفضت أن تطاوع قلبها فارتمت على مقعد مكتبها .. تعلقت عيناها بنبتة الصبار التي أهداها إياها ورق قلبها ككل مرة تنظر إليها ووجدت نفسها تبتسم.
أمسكت الإصيص بكفيها تقربه إليها وهمست
"أريد أن أثق به حقًا .. أريد بشدة أن أتخلى عن خوفي لكن .. الأمر صعبٌ للغاية"
كأنّها تجتث نفسها من جذورها لتعيد غرسها في عالمٍ غير الذي اعتادته وأعدت نفسها للعيش فيه لآخر عمرها.
حين تراه وتسمعه تشعر أنّ الأمر سهلٌ .. وهو دائمًا متفهمٌ ومراعٍ .. صبورٌ كما لم تتوقع ويصمم على أن يخطو رويدًا رويدًا معها ومع هذا هي ..
زفرت بحرارة وهي تهمس للصبارة
"هل من حل؟"
"الحل بسيط للغاية يا زوزو"
أجفلت مع الصوت والتفتت لتجد روض عند الباب مبتسمة بخبث
"قولي نعم وتزوجيه .. لن ينتهي العالم صدقيني"
حدجتها بتهديد فرفعت روض كفيها هاتفة
"طرقت الباب صدقيني لكنّكِ كنتِ هائمة في عالم آخر"
رددت كلماتها الأخيرة وهي تبتسم بشقاوة
"روض .. ليس وقت مشاغبتكِ"
اقتربت لتقف خلفها ومالت تحتضنها قائلة
"لا وقت محدد لشقاوتي يا زوزو .. لماذا لا تعترفين وتريحين نفسكِ؟"
"اعترف بماذا؟"
قبلت خدها بقوة ثم ابتعدت تجلس على الفراش
"أنّكِ عاشقة"
"لست كذلك"
"بل أنتِ كذلك"
"قلت لكِ لست كذلكِ"
"بل أنتِ كذلك"
أخبرتها بتحد فزفرت شذى
"لن ألعب معكِ هذه اللعبة السخيفة"
ضحكت روض محركة ساقيها في الهواء
"طبعًا لأنكّ تعرفين أنني من ستفوز"
"ماذا تريدين يا روض؟"
اتسعت ابتسامتها وهي تردد
"أريد الاطمئنان عليكِ أنتِ وضياء .. لا تواصلي تعذيب الفتى المسكين فربما هرب"
ارتجف قلبها لمجرد الفكرة لكنّها قالت بعناد
"فليهرب .. سيكون قد أراحني"
هتف فيها قلبها "كاذبة" لكنّها تجاهلته ثم انتبهت لنظرات روض وابتسامتها المكذبة
"حسنًا .. حتى لو اختار الهرب فهذا يعني أنّه لم يكن صادقًا معي"
"يا ربي على رأسكِ العنيد هذا"
لوت شذى شفتيها وتعلقت عيناها بهاتفها .. ألهذا لم يتصل؟ .. هل مل حقًا وبدأ يفكر في الانسحاب؟ .. لم تنتبه لنظراتها الحزينة إلا حين هتفت روض بخبث
"آه لهذا أنتِ بهذه الحالة!"
التفتت لها بنظرة نارية، لتحرك روض حاجبها
"لم يأت للمحل اليوم ولم يتصل، صحيح؟"
"روض لست في مزاج لهذا الهراء"
تمايلت روض متراقصة بدندنة مرحة
"أخبرتكِ أنكِ عاشقة"
"روض"
هتفت محذرة وهي تهم بالقيام لتضربها، لكنّها توقفت حين رددت روض ضاحكة
"هذا يعني أنّ تعويذتي نجحت أخيرًا"
"أي تعويذة؟ .. هل تهذين يا روض؟"
هزت رأسها بشقاوة
"لا .. عنيت تعويذة الحب التي عطرت بها وشاحكِ"
تذكرت الوشاح بأسى بينما روض تردد بتنهيدة هيام
"لم أعرف أنّها ستنجح بهذه السرعة وستجدين حبيبًا رائعًا مثله"
هتفت بحنق
"روض .. لا تدعي عشقكِ لعطوركِ يفقدكِ ما تبقى من عقلكِ"
مالت روض مستندة بكفيها للفراش وقالت مشاكسة
"أنا بكامل عقلي .. لقد صنعتها من قلبي وروحي، على أمل أن ينفك نحسكِ"
"روض"
صاحت وهي تنهض مندفعة إليها لكنّ روض راوغتها في الغرفة ضاحكة
"هذا بدل أن تشكريني"
"كُفي عن هذه الحماقة يا روض"
"أنا أقول الحقيقة"
هتفت وهي تتفادى الوسادة التي رمتها بها ثم تخصرت تسألها بخبث
"بالمناسبة أين الوشاح؟ ... لم أعد أراكِ ترتدينه ولم أجده في ثيابكِ .. هل أضعتِه أم ماذا؟"
ارتبكت وأشاحت نظراتها حتى لا تكشفها روض، وأسرعت في ثانية متهربة تقلب الدفة إليها
"صحيح .. ماذا فعلتِ مع حسن؟"
توقفت روض مرددة
"أخبرني أنّه يريد تحديد موعد الزواج و ..."
قاطعت تهربها
"قصدت أمر والدكِ"
"لم أفعل"
ردت بشفتين مرتعدتين فزفرت شذى
"روض .. لقد وعدتِني .. ليس من مصلحتكِ الكذب عليه"
"أنا لا أكذب"
رددت مدافعة فقالت شذى
"حسن يظننا شقيقتين يا روض وهذا .."
تحشرج صوتها
"لا .. إنّه يعرف أننا أختين من الأم فقط"
نظرت إليها بترقب فتابعت همسًا
"فقط لم أخبره عن .. لم أقل له أنّه لا زال حيًا وهو ظنّ أنّه .."
"ومتى تقررين إخباره يا روض؟ .. هل تتخيلين موقفكِ أمامه إن عرف من غيركِ؟"
"لكن أنا لا أريده أن .."
قاطعتها بحزم رقيق
"إن لم تخبريه يا روض سأخبره أنا"
رفعت رأسها بوجل فربتت شذى عليها بحنان
"ألم تقولي أنّكِ تثقين به؟ .. إذن يجب ألا تخافي منه .. هل تحبين أن تكتشفي أنّه يخفي عنكِ أمرًا خطيرًا في ماضيه؟"
رمقتها بحيرة ثم هزت رأسها نفيًا فابتسمت لها
"جيد .. هو أيضًا لن يحب أن تخفي عنه شيئًا مهمًا هكذا .. يجب أن يعرف .. مهما كانت الحقيقة مُرة ومؤلمة لنا يا روض"
"تمام سأخبره هذا الأسبوع"
وعدتها همسًا فاحتضنتها شذى
"جيد حبيبتي .. ولا تخافي من شيء أنا معكِ"
استكانت في حضنها وأومأت بعينين غامتا بمشاعر دفنتها لسنين داخلها وعليها الآن أن تفتح ذلك الجرح للعلن وتحتمل وجعه وحرقته لمرة أخيرة.
*****************
نزل ضياء من سيارته واندفع إلى داخل البيت الكبير بخوف .. لم ير أحدًا من الوجوه التي تجمعت في الردهة، ولم يسمع أي كلمة منهم بينما يندفع إلى الطابق العلوي حيث غرفة والده .. توقف حين وقعت عيناه على زوجة شقيقه الأكبر تغادر الغرفة مطرقة .. رفعت وجهها الدامع حين ناداها وأسرع إليها هاتفًا
"كيف حاله يا زوجة أخي؟"
مسحت دموعها مغمغمة
"إنّه يغيب عن الوعي ويهذي كل فترة والطبيب قال أنّه .."
عضت شفتها تكتم بكاءها فشحب بارتعاب .. أكملت تخبره قبل أن تبتعد
"ادخل إليه .. كان يطلبك بإلحاح"
خطا بقلبٍ مرتعد وعقله يسترجع شريط طفولته وذكرياته مع والده السعيدة منها والسيئة التي سارع بإبعادها بينما يطرق الباب ويفتحه... قابلته وجوه أشقائه واتجه إليه أكبرهم
"ضياء .. وصلت أخيرًا"
بادله عناقه وعيناه على وجه أبيه الشاحب الذي تحرك بضعف مع سماع اسمه، ورفع يده مناديًا بصوتٍ لا يكاد يسمع .. حدق فيه مذهولًا لا يُصدق كيف التهمه المرض بسرعة هكذا .. ترك شقيقه واندفع راكعًا جوار الفراش
"أنا هنا يا أبي .. آسف لأنني تأخرت"
دارت عيناه على وجهه لثوان ثم همس
"المهم أنّك أتيت يا ولدي"
ردد بغصة شديدة
"سامحني يا أبي .. ما كان يجب أن أتركك و .."
قاطعه بإجهاد
"أنا السبب .. يكفي أنّك عدت"
حاول الكلام لكنّه أشار له بالصمت ثم نظر لبقيتهم متمتمًا بضعف
"هناك ما أريدكم أن تعرفوه وتسامحوني عليه"
خفقت قلوبهم بتوجس وهمس ضياء
"نسامحك على أي شيء يا أبي؟"
واقترب أكبرهم محيي الدين منه
"لا تجهد نفسك يا أبي .. أنت .."
قاطعه مشيرًا للخزانة بيد ترتجف
"اسمعوني .. لا أريد أن يفوت الأوان"
وقبض على كف ضياء مضيفًا بأنفاس متقطعة
"أحضر لي الصندوق من الخزانة بني"
أسرع ينفذ الأمر، وفتح الخزانة ليقابله الصندوق الخشبي المطعم بأحجار ملونة، حمله وعاد لأبيه الذي همس
"افتحه .. هناك مظروف به بعض الأوراق والصور"
فتحه بحيرة وأخرجه تحت أنظارهم القلقة
"ما الأمر يا أبي؟ .. ما به هذا المظروف؟"
سعل أبوه لثوان ثم رد بضعف
"لم أفكر أنني سألقى الله هكذا .. لقد تجبرت كثيرًا وفات أوان إصلاح خطأي"
سقط قلبه وتبادل معهم نظرة متوجسة
"أي خطأ يا أبي؟"
"افتحه بني"
تردد بخشية قبل أن يفتحه ويخرج الأوراق والصور .. خفق قلبه وهو يرفع ورقة لشهادة ميلاد قديمة واتسعت عيناه بذهول ... ارتجفت يده وهو يمدها لأشقائه الذين تبادلوها بصدمة ونظر هو للصور .. كانت إحداها لامرأة مألوفة الملامح تحمل رضيعًا، وباقي الصور لطفلة صغيرة ضاحكة .. تأمل الصور قبل أن ينتزعها منه أشقاؤه وهمس غير مصدق
"أبي .. هذه .."
نظر بذهول لأبيه الذي تضاعف شحوبه، وهمس بدمعات خائنة
"ابحث عنها بني .. اطلب منها أن تسامحني"
حدق فيه غير مصدومًا بينما والده يهمس بصوتٍ يزداد خفوتًا
"ابحث عن أختك يا ضياء ... أعيدوها واطلبوا منها أن تسامحني"
سقط مروان على المقعد والأورق في حجره
"ماذا تقول يا أبي؟ .. كيف لم نعرف عنها؟ .. كيف لم تخبرنا؟"
وهتف زاهر شقيقه الثاني
"متى تزوجتها؟ .. هل كانت أمي تعلم؟"
أغمض بألم ثم رد
"إنّها الخطأ الذي لا يمكنني غفرانه لنفسي .. كنت نذلًا وخذلتها هي وأمها"
"لماذا لم تخبرنا؟ .. كان يمكننا أن .."
ردد ضياء بتحشرج، فتنهد أبوه مجيبًا بتقطع
"لم أستطع .. جدك لأمك هددني .. وهي كانت مجرد نزوة .. لم أهتم لها .. طلقتها حتى لا تترك أمكم البيت .. خفت كلام الناس و .."
توقف عن اعترافه المخزي، وارتجفت شفتا ضياء بصدمة .. كان يعرف أنّ والده قاس ومتجبر في كثير من الأوقات، وارتكب أخطاءً كثيرة لكن أن يرمي طفلته.
"لقد رميتها يا أبي .. كيف فعلت هـ .."
هتف باختناق، فضغط مروان على كتفه بحزم
"لا تضغط على أبيك يا ضياء .. يكفي ما هو فيه"
ارتجفت يد والده
"كنت أرسل لها نفقاتها شهريًا .. لم أنقطع عن إرسال المال لها"
عض شفته بقوة مانعًا كلماته القاسية ولكنّه لم يستطع منع تمتمة مختنقة
"المال! .. ماذا ستفعل بالمال بعد أن رماه أبوها؟"
"ضياء"
هتف أخوه الأكبر بحدة فغمغم بألم
"سامحك الله يا أبي .. سامحك الله"
سالت دموع أبيه تجبره على احترام ضعفه ومقام الموت الذي يوشك أن ينتزعه من بينهم بينما قال أبوه بعد لحظات طويلة
"هناك ظرف آخر في الصندوق به صورتها وهي شابة وعنوان جدتها .. أرسلت من يبحث عنها لكن لم يجدها .. انتقلت لمكان آخر .. لا أحد يعرف أين"
أخرج ضياء الظرف وأبوه يردف بتقطع
"لا أعرف إن كنت أملك الوقت حتى تحضرها .. لكن .. أحضرها لبيتها .. أعطوها حقها في الميراث"
والتفت لأبنائه الكبار
"لا تحرموها حقها ولا تظلموها .. لقد ظلمتها وأمها كثيرًا .. أمها رحلت لربها وسألتقيها هناك وسيقتص لها مني لكن هي .. لم يبق لها سواكم .. لا ترموها مثلما فعلت ولا تأكلوا حقها في ميراثها"
غامت عينا ضياء بالدموع وهو يفتح الظرف، وهز أشقاؤه رؤوسهم بوعد صامت .. انتفض هو واقفاً بصدمة ما أن رأى الصورة والتفت لأبيه هاتفًا
"هذه الفتاة ... هل .."
نطق أبوه بينما يتذكر هو الاسم الذي قرأه في شهادة الميلاد
"إنّها أختك يا ضياء .. هذه صورتها"
هتف مصعوقًا
"روض! .. هذه روض"
"هل تعرفها؟"
سأله عزمي، وانتبه أبوه كأنما ردت إليه روحه وأومأ ضياء بذهول
"أعرفها وقابلتها وتحدثنا كثيرًا .. أعرفها معرفة شخصية"
قطبوا بتوجس بينما قال محدثًا والده
"الفتاة التي أتيت لأخبرك أنني أريد خطبتها وأنت رفضت و"
قاطعه مروان برعب
"لا تقل أنّها هي"
ضحك بمرارة
"إنّها أختها ... شذى التي رفضتها يا أبي بعد أن توسلتك أن تفهم مشاعري .. تكون أخت روض"
لمعت عيناه بالدموع بينما يتذكر طفلة صغيرة ذات خصلات قمحية وأعين بريئة تشبه المرأة التي تزوجها .. الصغيرة التي كانت تخافه، وتكرهه وكانت محقة .. هي أيضًا رماها مع أمها بعد طلاقه لها .. سالت دموعه وغمغم
"لن ترسلها"
رمقه ضياء بتساؤل من فهمس
"سترفض إرسالها .. لن تسامحني على ما فعلته بأمها .. لن تدع أختها لتزورني"
نهض ضياء قائلًا
"سأقنعها يا أبي .. سأحضرهما وآتي … لن أعود إلا بهما"
ومال مقبلًا جبينه
"اصمد أنت حتى أحضرها لك"
توجع قلبه وهو ينظر له وقد فتك المرض بقوته .. رغم كل ما فعله وكل قسوته وتحكمه في حياته يبقى أبوه وهو على وشك أن يفقده للأبد.
***********************
ضربت سهام زوجة زاهر بكفيها على ساقيها هاتفة باستنكار
"هذا ما كان ينقصنا .. بنت تشارككم في الميراث"
رمقها زاهر بحدة
"اصمتي يا سهام ودعي ليلتكِ تمر"
مصمصت شفتيها وقالت
"ليلتي تمر؟ .. أي ليلة ستمر بعد هذه المصيبة التي رميتها في وجهي؟ .. هذه وكسة"
ضرب كفيه صائحًا
"يا امرأة دعيني أكمل طعامي بهدوء قبل أن أعود لأبي"
حركت شفتيها يمينًا ويسارًا لتعاود ندبها
"والسنيورة إن شاء الله عندما تعود ستقيم في الدار أم ستعطونها شقة كاملة بمفردها؟"
ألقى الملعقة ونهض هاتفًا
"سددتِ نفسي عن الأكل .. حسبي الله ونعم الوكيل"
واندفع مغادرًا الغرفة والشقة بأكملها صافعًا الباب خلفه بقوة فعادت تحرك شفتيها وتندب
"أتت الحزينة تفرح"
ونهضت بسرعة تتناول الهاتف وتتصل .. هتفت ما أن انفتح الخط
"مصيبة يا ريم يا أختي .. مصيبة وحلت على رؤوسنا"
اتاها صوت شقيقتها بوجل
"أي مصيبة؟ .. هل مات حماكِ؟"
ردت بتحسر
"مات؟ .. لا يا أختي ما زال متشبثًا بالدنيا بأظافره وأسنانه .. ينتظر المحروسة لتصل"
"أي محروسة؟"
أجابتها وهي تندب
"محروسة الوكسة والندامة .. بنته"
شهقت هاتفة
"بنت من؟"
"بنت حماي يا حبيبتي"
أخبرتها بتهكم فرددت ريم بغباء
"بنته من أين؟"
"من بنك الحظ يا عين أمكِ"
ردت ساخرة ثم هتفت بحدة
"ستكون ابنته من أين؟ .. كان متزوجًا من أخرى في السر وأنجب منها بنتًا وطلقها بعد فترة قصيرة"
استمعت لها بغير تصديق ثم قالت
"وما الذي أعادها بعد كل هذه السنين؟"
ردت ساخرةً
"ضميره استيقظ يا حبيبة أختكِ"
صمتت هُنيهة ثم تابعت
"وليست هذه المصيبة الوحيدة"
"هناك مصائب أخرى؟"
رددت بتهكم فقالت سهام وهي ترجع خصلاتها للخلف وتعدل من القلادة الذهبية التي تملأ صدرها
"هذه المصيبة تخصكِ أنتِ يا فالحة"
"تخصني أنا؟"
ردت بدهشة لتخبرها سهام بحدة
"مئة مرة أقول لكِ تعالي معي للشيخة المبروكة .. كانت ستعمل لكِ حجابًا يجلب رأس ذلك المغرور إلى الأرض ويجعله راكعًا تحت رجليكِ"
شهقت بجزع
"ضياء"
أخبرتها بسخرية
"نعم ضياء يا حبة عيني .. أصريتِ على رأيكِ وعملتِ فيها المتعلمة المتنورة .. لا يا سهام .. لا ألجأ للسحر يا سهام .. لن أسحر له ليحبني يا سهام .. فلتوكسي على خيبتكِ يا نور عين سهام"
هتفت وهي تكاد تبكي
"ماذا تقولين؟ .. ماذا حدث لضياء؟"
مطت شفتيها بحنق
"حضرته وقع في حب ساحرة من المدينة يا فالحة"
وصلتها شهقة موجوعة لتتابع بقسوة
"وهذه الساحرة تكون أخت المصيبة التي ستأتي لتشاركنا في الميراث .. وضياء ذهب ليحضرهما وقال أنّه سيتمم زواجه عليها وأبوه وافق بعد أن كان رافضًا تلك الزيجة الشهرالماضي وكان مصرًا على زواجكما"
وصلها بكاء شقيقتها فقالت بجمود
"تبكين الآن يا قلب أختكِ؟ .. ابكي يا حبيبتي .. ابكي حتى تسمعي كلام أختكِ عندما تنصحكِ"
هتفت فيها ريم
"سأغلق يا سهام .. شكرًا على مساعدتكِ"
أغلقت في وجهها فمصمصت شفتيها
"أنا المخطئة لأنني فكرت في مصلحتكِ"
وقست نظراتها بضيق
"كيف سنحل هذه المشكلة؟"
لمعت عيناها بعد ثوان واعتدلت
"كيف لم أفكر في هذا؟ .. طبعًا ... هو من سيحل كل شيء"
لم تكد تتم جملتها حتى ارتفعت صرخات عالية من سلفاتها معلنة الخبر الذي كانت تنتظره بفارغ الصبر .. تنفست بارتياح قبل أن تنهض بعد قليل راسمة الحزن على وجهها وتتجه إلى الخارج لتشارك بالصراخ، تندب فقيد العائلة الغالي.
*******************
وقف ضياء يتلقى العزاء بوجه شاحب وقلب مثقل .. لم يكن موجودًا حين فاضت روح أبيه .. كان في منتصف الطريق عائدًا إلى المدينة ليعيد روض لكنّه لم يلحق .. سبقه الموت إلى أبيه.
تنهد بحرارة .. كانت أمامك الفرصة يا أبي .. كانت أمامك سنين طويلة لكنّك لم تستغلها .. كان يسلم بشرود على المعزيين وشرد ذهنه إلى شذى .. كيف سيقنعها؟ .. كيف سيواجهها أساسًا؟
هز رأسه لأحد المعزيين وشفتاه تتحركان بغمغمات غير مفهومة .. شذى لن تقبل بترك أختها تأتي لتعيش وسطهم .. ستكرهه إن عرفت علاقته بالرجل الذي تزوجته أمها وخذلها .. شعر بسكين حامٍ تشق قلبه .. الآن يعرف سبب كراهيتها للرجال .. لم يكن والدها فقط بل والده أيضًا .. ستكرهه ولن ترى فيه سوى صورة أبيه.
انتهى من مصافحة الناس فاستأذن من أشقائه ليرتاح قليلًا .. دخل البيت وقلبه يأن وخطواته بطيئة مثقلة .. انتبه على صوت يهمس بخجل
"البقاء لله يا ضياء .. كيف حالك؟"
رفع عينيه المجهدتين ليقابله وجهها الصبوح وابتسم بشحوب
"شكرًا لكِ يا ريم .. أنا بخير"
عاد يتحرك فقاطعت طريقه بلهفة
"هل تريد مني شيئًا؟ .. هل تحتاج لـ .."
قاطعها بتعب
"شكرًا يا ريم .. أنا ذاهب لأرتاح قليلًا .. تسلمي"
تمتمت بهمسٍ حزين لم يصله
"سلمت يا غالي"
انتفضت على ضربة شقيقتها لكتفها والتفتت هاتفة
"لماذا تضربينني يا سهام؟ .. هل جُننتِ؟"
قلدتها بسخرية
"هل تريد مني شيئًا؟ .. هذا ما قدّركِ ربنا عليه؟"
قطبت مرددة وهي تتركها لتغادر ساحة البيت
"دعيني وشأني يا سهام .. لا ينقصني شماتتكِ الآن"
هتفت من خلفها
"شماتتي؟ .. الآن شماتتي يا بنت أمي وأبي .. تمام .. لا تعودي باكية عندما تأتي السنيورة من مصر وتخطفه منكِ"
توقفت خطواتها والتفتت بعينين تألقتا بدموع مكتومة
"عندها سيكون هذا نصيبي وأنا راضية"
ضربت صدرها بهلع واندفعت تقبض على ذراعها فتأوهت ريم
"ماذا قلتِ؟ .. راضية؟"
وهزتها بعنف
"لا يا عيني .. أنا لم أصبر كل هذا وأخطط لتكوني من نصيبه لتأتي وتقولي هذا لي"
غمغمت بألم وهي تتلفت حولها
"ماذا تفعلين؟ .. الناس حولنا"
دفعتها بغلظة ثم مالت تهمس في أذنها
"قسمًا عظمًا يا ريم إن لم تنفذي ما أقوله لكِ ستعرفين حسابكِ معي جيدًا"
واعتدلت ترفع وشاحها الذي سقط على كتفيها فقالت ريم بأسف
"أنا لم أرد ضياء من أجل أطماعكِ يا سهام .. ونصيحة أخيرة مني .. توقفي عن تفكيركِ هذا وإلا ستخسرين كل ما بيدكِ بسبب أطماعكِ"
ابتسمت بسخرية ورمقتها باستخاف قبل أن تتركها عائدة إلى مجلس النساء تاركة ريم خلفها بقلبٍ مهموم مثقل يكاد يوقن أنّها لن تصل لقلب الرجل الذي أحبته مهما فعلت.
***********************
تحركت شذى بتوتر وهي تحاول تهدئة نبضات قلبها المتوترة .. لهذا كانت تكره الارتباط .. ها هي تكاد تُجن قلقًا عليه .. صوته في الهاتف كان مهمومًا .. اتصل بها ذلك اليوم ليطمئنها عليه وأخبرها بموت أبيه .. سألته عن مكان بلدته لتأتي وتقدم واجب العزاء لكنّه رفض.
شيء ما في طريقة كلامه أقلقها وأشعرها بعدم ارتياح .. لم تستطع حتى الذهاب للمحل .. لم تكن لتستطيع العمل وتعرف أنّ مشاعرها ستفضحها أمامهم .. بالكاد نجت من ملاحظات روض ولولا مرور حسن ليأخذها ليتناولا الغداء في الخارج لما نجت من أسئلتها وقلقها البالغ.
ابتسمت بسخرية .. انقلبت الأدوار وباتت روض هي من تقلق عليها .. ارتمت على الأريكة زافرة بحرارة .. لقد وقعت وانتهى الأمر .. كان يجب أن تعلم منذ ذلك اليوم الذي رأته فيه أول مرة وأربكتها عيناه أنّه سيعود ليتغلغل ببطء في عالمها ويسحبها إليه .. لقد انتصر .. قلبها الذي يتوجع الآن وهي تتخيل ألمه ووجع فقدانه لأبيه يخبرها أنّه لم يعد ملكها .. افتقادها له واشتياقها لرؤيته بعد غياب أيام قليلة يؤكد هذا .. هل سيضحك الآن لو أخبرته؟
أغمضت لترتسم صورته وابتسامته الحانية المليئة بوعود كانت ترفض تصديقها وما زالت تخشى أن تفعل ... لقد طلب فرصة .. وهي وعدت أن تمنحه إياها .. لماذا لا تجرب؟ .. ماذا ستخسر؟
اقتحمت صورة أمها خيالها تصفعها من أحلامها فهمست لنفسها بمرارة .. لن تقتصر خسارتها على قلبها وحسب .. ستخسر نفسها وحياتها واحترامها لنفسها .. أطرقت تدفن رأسها بين كفيها
"رباه .. سأفقد عقلي"
عاد قلبها يردد .. هل ستعيشين في الخوف طيلة عمركِ يا شذى؟ .. ربما كان حظ أمكِ سيئًا لكن هذا لا يعني أنّكِ ستكررين خطأها .. ضياء مختلف .. هي باتت تدرك هذا وقلبها يصدقها .. لن يكون مثل أبيها مطلقًا.
انتبهت من أفكارها على رنين جرس الباب فقطبت .. توقعت أنّها أم حسن فتنهدت ناهضة بتثاقل .. لا تريد رؤية أحد الآن .. فتحت الباب لتتراجع بدهشة ودون أن تشعر انتفض قلبها وغادر صدرها مندفعًا إليه بلهفة، وغمغم هو بصوتٍ متعب
"مرحبًا يا شذى"
لم تجب تحيته وسألته بدهشة
"كيف عرفت عنواني؟"
تمتم بابتسامة باهتة
"ذهبت للمحل وعرفت أنّكِ تغيبتِ اليوم وروان تطوعت بمنحي العنوان"
هزت رأسها بغير تركيز بينما نظر للباب بتساؤل
"هل يمكنني الدخول؟"
تراجعت بارتباك
"آسفة .. روض ليست هنا .. أنا وحدي"
"ليست هنا؟"
ردد بيأس فرمقته مستغربة نبرة الخذلان في صوته قبل أن يخبرها معتذرًا
"حسنًا .. لن آخذ من وقتكِ كثيرًا .. هل تسمحين لي؟"
ترددت بارتباك فتابع متوسلًا
"أرجوكِ .. الأمر هام ولا أستطيع الحديث على الباب"
تراجعت تسمح له بالدخول إلى الصالة، وتركت الباب مفتوحًا والتفتت له متمتمة
"ما الأمر؟ .. لقد أقلقتني كثيرًا"
ابتسم بشحوب فهمست
"أنت بخير؟"
هز رأسه نفيًا فغمغمت بمواساة
"أنا آسفة بشأن والدك .. البقاء لله"
أومأ بابتسامته الشاحبة وشعرت هي لوهلة بعجزه عن الكلام فكررت بقلق
"ضياء .. أنت لست بخير .. ماذا حدث؟ .. أخبرني"
نظر لها بطريقة زادتها قلقًا قبل أن يخرج من سترته أوراقًا مدها إليها فرمقها بتوجس
"اقرأيها"
أخبرها وهو يهز الأوارق يستحثها على تناولها فمدت يدًا بتردد وأخذتها .. قرأت أول ورقة واتسعت عيناها قبل أن تنظر للتالية .. كانتا شهادة ميلاد روض وعقد زواج أمها وأبيه .. أزاحت الورقتان بارتجاف لتكشف عن صور روض رضيعة في حضن أمها وصورة لها وهي طفلة وصورة أخيرة لها قبل سنتين من الآن .. ظلت تقلب في الأوراق والصور بذهول قبل أن ترفع عينيها له ملوحة بما في يدها
ماذا يعني هذا؟ .. ومن أين أتيت بهذه الأوراق؟"
أجابها بخفوت وتوتر
"كانت بحوزة أبي"
هتفت فيه وقلبها يعتصر في صدرها
"ماذا تعني بحوزة أبيك؟ .. ماذا تفعل هذه الأوارق مع .."
توقفت فجأة وعقلها يربط الخيوط ببعضها .. تذكرت اسمه الثلاثي الذي أخبرها به مازحًا ذات يوم .. لم تنتبه .. كيف لم تنتبه؟ .. كانت مرتبكة ومشغولة في شيء آخر .. لم تربط بين الاسمين .. نظرت له من بين دموعها فابتسم بمرارة
"أبي .. صلاح الغمري .. والد روض"
ونظر لدموعها التي سالت دون شعورها وأكمل بصوتٍ متحشرج مرير
"أختكِ"
************************
"ما رأيكِ؟ .. لذيذ، أليس كذلك؟"
سألها حسن وهما يجلسان في المطعم الفاخر المطل على النيل فابتسمت
"لم أتوقع أنّ يكون لذيذًا هكذا"
وأدارت عينيها في المكان مواصلة
"ولو أنني كنت أفضل لو ذهبنا لمكان أكثر تواضعًا"
ضحك بشدة وقال
"أنتِ خطيبة غير مكلفة"
بادلته ضحكته ثم رددت
"أنا فقط لا أحب هذه الأماكن كثيرًا"
تراجع في مقعده قائلًا
"لا تحبين منظر النيل؟"
"بالطبع أحبه .. قصدت المطعم نفسه .. لا تغضب مني"
أخبرها بابتسامة هادشة
"لست غاضبًا .. تمام أخبريني .. أي الأماكن تحبين أكثر؟"
رقت نظراتها وهي ترد
"نزهة في حديقة زهور .. يوم مثل معرض الربيع"
ضحك متمتمًا
"كان يجب أن أخمن"
تابعت هي بعاطفة
"نزهة صباحية على رمال الشاطئ"
لمعت عيناه بالذكرى وابتسم بحب
"هذه بالذات أوافقكِ عليها .. أعرف الشاطئ وجمال الشاطئ وسحر الشاطئ و"
احمرت مع نظراته وهتفت تقاطعه
"تمام .. فهمت أنّك تحب الشاطئ"
ضحك هُنيهة ثم سألها بجدية
"صحيح .. لم أسألكِ .. ماذا كنتِ تفعلين في تلك اللحظة؟"
ابتسمت بحنين بينما يردف
"شعرت أنّكِ تعانقين الطبيعة .. قلبي يحدثني أنّها لم تكن مجرد جلسة يوجا غريبة ولا شيء للاسترخاء"
وغمز بمرح
"لدي إحساس أنّ الأمر متعلق بهوسكِ بالعطور"
"أحسنت التخمين"
أخبرته ضاحكة فسألها بدهشة
"حقًا؟ .. وما علاقة هذا بعطوركِ؟"
أخبرته مبتسمة
"كنت أريد تصميم عطر بنغمة نسيم البحر"
"نغمة نسيم البحر؟"
سألها بدهشة فأومأت قائلة
"نعم .. كانت أول مرة أزور فيها تلك المنطقة ووقعت في حب المكان والبحر .. أحببت أن أحتفظ برائحته لتذكرني به دائمًا"
رمقها بابتسامة مندهشة بينما تواصل
"العطر مثل بساط سحري .. عندما أغمض عينيّ ينقلني في غمضة عين إلى المكان الذي أريده .. يمكن لرائحة مميزة أن تعيد لك ذكرى من الطفولة .. الروائح عادةً ترتبط في أذهاننا بذكريات وأصوات ولحظات من حياتنا وتربطنا بأشخاص أيضًا"
تمتمت كلماتها ويدها تحتضن القلادة التي لفتت نظره كثيرًا ورفضت إخباره بسرها ومازحته أنّها ستعترف له بعد زواجهما.
كاد الفضول يغلبه فيسألها مجددًا لكنّها تابعت
"لهذا كما رأيتني وقتها .. كنت أختزن روائح الهواء وأصنفها داخلي .. أحفظها وأبحث بين الروائح التي داخلي عن تصنيفاتها"
استمع لها بانبهار .. لم تكن المرة الأولى التي تتحدث أمامه عن العطر وشغفها به لكن هذه المرة كانت هائمة، مسحورة وكان هو مسحورًا بها هي أكثر من أي وقتٍ مضى
"لا أعرف كم وقفت هناك أحفظ رائحته قبل أن تقاطعني وأتيت في لحظة لتحطم فقاعتي"
هتف معترضًا
"كدت تسقطين من أعلى الصخرة"
ضحكت مرددة
"وأنا ممتنة لك"
واحمر وجهها وهي تنظر له وقلبها في عينيها
"في الحقيقة .. تلك اللحظة لم أسقط من فوق الصخرة"
وابتسمت بخجل محتضنة قلادتها وهمست بنعومة
"لقد سقطت فيك أنت"
خفق قلبه بينما أشارت للقنينة الصغيرة
"رائحتك"
"ماذا تقصدين؟"
غامت عيناها بهيام
"ليست رائحة عطرك وحدها .. هو مزيج منك ومن عطرك .. امتزجا سويًا وشكّلا نغمة خاصة بك .. هذه النغمة لامستني .. شعرت أنّها نغمتي أنا .. مكملتي"
قلبه كان يرتجف بغير تصديق بينما تردف مغمورة في ذلك السحر الذي يخصها في عالمها ذاك الذي يتمنى لو ولجه وشاركها فيه
"رائحتك انطبعت داخلي وعندما عدت حاولت كثيرًا لأستحضرها .. أعددت عشرات التجارب حتى وصلت لنتيجة مقاربة ومن يومها وأنا أحملها لأشعر بك وأستعيد تلك اللحظات القصيرة التي مرت بيننا، وظننتها لن تعود"
غامت عيناه واختنق صوته تأثرًا ليهمس
"روض أنا .."
قاطعته ناهضة بارتباك
"يا ربي .. ماذا .. آه .. آسفة سأذهب إلى الحمام وأعود فورًا"
وجرت من أمامه بحرج وهي تتحسس خديها المحمرين .. لقد أخبرته .. كانت تنوي إخباره بعد الزواج لكنّها أفشت سرها .. ماذا سيقول عنها؟
حدق هو في إثرها وقد اختلطت دهشته بنشوته وسعادته .. لا يصدق ما قالته .. هل هناك محظوظ مثله؟ .. عطارته الساحرة .. مجنونته .. اتسعت ابتسامته العاشقة بينما ينظر أمامه منتظرًا عودتها.
صوت خطوات نبهته فرفع رأسه بلهفة تلاشت فور أن رأى وجها مألوفًا .. كانت إحدى الفتيات اللاتي رافقهن قديمًا .. قطب ناظرًا لثيابها وزينتها بضيق وقارن داخله بينها وبين روض .. كيف كان يعيش ويفكر؟ .. أي ذوق في النساء كان يمتلك؟ .. في الحقيقة هو لم يهتم لذوق .. كان طائشًا ويرى النساء كلهن شيئًا واحدًا .. سمعها تهتف بدلال لاذع
"مرحبًا يا حسن .. أراك لم تتغير .. ما زلت كما أنت"
نهض مقررًا الابتعاد بروض قبل أن تراها وتتسبب في مشكلة، فأسرعت تمسك ذراعه مرددة بسخرية
"هل هذه صيدك الجديد؟ .. تبدو بريئة جدًا وليست من ذوقك"
انتزع ذراعه منها هاتفًا بحدة
"ابتعدي لو سمحت عن طريقي .. لا أريد أي مشاكل"
ضحكت بطريقة أصابته بالغثيان وفاتته نظرتها الثعبانية وهي تنظر خلفه بينما تقترب منه أكثر وداعبت رابطة عنقه
"أوحشتني أيامنا كثيرًا يا حبيبي .. لم يشعرني رجل بعدك بما كنت تمنحني إياه"
أبعدها بقرف هاتفًا
"ما الذي .."
أسرعت تقاطعه بميوعة
"هل نعيد تلك الأيام؟ … سأنتظرك اليوم في شقتي .. لم أغير عنواني"
دفعها بحدة وكاد يصرخ فيها لولا أن انتبه لنظراتها خلفه
"سأرتدي لك ذلك القميص الذي كنت تعشقه علي"
التفت خلفه بقلب منقبض سقط بين قدميه حين رأى روض تقف مصدومة .. دموعها تسيل على خديها .. قبل أن ينبس ببنت شفة أطلقت أطلقت ساقيها للريح .. انطلق خلفها يناديها بجزع، وخلفه ارتفعت ضحكات الأخرى صاخبة شامتة بعد أن نجحت في هدفها الذي دفعها إليه غضبها وقهرها لرؤيته واقعًا في عشق فتاة كما لم تره من قبل وكما تعترف أنها لن تراه يومًا.
*********************
سقطت شذى على الأريكة وارتخت يدها عن الأوراق لتسقط أرضًا، ولم يتحرك ضياء قيد أنملة وعيناه معلقتان بها بمرارة شديدة .. كانت مخاوفه على وشك أن تتحقق .. همست هي بضياع بعد لحظات
"روض .. أ .. أختك؟"
تنهد بقوة مرددًا
"نعم أختي"
هزت رأسها برفض
"روض أختي أنا .. تكون أختك؟"
وأردفت دون انتظار رده
"مستحيل .. هذا مستحيل .. لا يمكن"
ردد بجمود
"ليس مستحيلًا يا شذى .. هذه الحقيقة"
صاحت برفض شرس
"هذه مزحة سخيفة .. لا يمكن أن يكون هذا حقيقيًا"
وغرست أصابعها في شعرها مغمغمة بضياع
"هذا مستحيل .. لن أصدق"
لم يقاوم أكثر قلبه الذي يتمزق لألمها واقترب خطوة
"شذى حبيبتي .. أرجوكِ"
انتفضت مع كلمته وهبت مبتعدة عنه
"توقف .. لا تقترب مني"
تعلقت يده في الهواء قبل أن تسقط بيأس وعادت هي تردد
"لا يمكنني أن أصدق .. ذلك الرجل .. يكون أباك .. لا يمكن"
سالت دموعها دون وعي بينما هتف متوسلًا
"أرجوكِ يا شذى"
"ترجوني ماذا؟"
رددت بذهول قبل أن تصيح
"ترجوني ماذا؟ .. تريدني أن أصدق هذا الهراء"
وانحنت تلتقط الأوراق ملوحة بها
"هذه المزحة اللعينة"
وطوحت بها في وجهه وابتلع هو الإهانة مقدرًا حالتها
"اهدأي واسمعيني شذى"
هتفت بحدة
"حسنًا صدقتك .. ماذا جئت تريد الآن؟"
حدجها مليًا ثم تمتم
"أريد مقابلة روض و.."
"لن تقابلها"
أخبرته برفض قاطع، فتراجع هاتفًا
"ماذا تعنين لن أقابلها"
"يعني لن تقابلها ولن تخبرها شيئًا من هذا الهراء"
هز رأسه مستنكرًا
"إنّها أختي أنا أيضًا يا شذى"
صدحت ضحكتها غير طبيعية
"أختك؟ … أختك التي لم تعرف عنها إلا قبل أيام"
عض شفته بينما تتابع بمرارة وقسوة
"أختك التي رماها حضرة المحترم والدك بعد أن طلق أمي .. رمانا ثلاثتنا بعد أن أخذ من أمي ما يريد"
غصة رهيبة وقفت في حلقه وشوحت هي بيدها مواصلة
"أبوك الذي وصم أمي أمام الناس بخطافة الرجال وجعلها عرضة لألسنتهم بعد أن طلقها ونبذها كخرقة بالية .. بعد أن حطم ما تبقى من قلبها المحطم أساسًا"
صمتت لحظة تلهث وكل خلية منها تنتفض حتى باتت على وشك الانهيار .. أشفق عليها بشدة فقترب محاولًا تهدئتها لكنّها صرخت
"لا تقترب مني"
تجمد مكانه وهتفت هي بشراسة
"أنت مثله"
رفع رأسه مجفلًا وصاح
"أنا لست مثله .. لا تساويني بأي رجل .. أنا .."
قاطعته صارخة بقهر
"بل أنت مثله ومثل ذلك النذل الذي أتى بي للدنيا .. كلكم نسخة واحدة .. كلكم تبحثون عن متعتكم ومصلحتكم ثم تلقون بنا كالكلاب الجرباء"
هتف اسمها بحدة لكنّها فقدت أعصابها كُليًا ولم تعد تراه .. كانت ترى صورة أبيها وأبيه .. وجهان لعملة واحدة .. أحدهما آذى أمها بدنيًا ونفسيًا وحطمها لخمس سنوات قبل أن يرميها وهي معها، والآخر آذاها نفسيًا وضرر بسمعتها ثم رماها بطفلة أخرى أتت للحياة لتحمل نصيبها من الذل.
"يكفي .. ابتعدوا عنا .. ابتعدوا عن حياتنا .. كنا في سلام من دونكم"
لم يحتمل انهيارها فاندفع يمسك بكتفيها يهزها
"اهدأي يا شذى .. انتِ لا تعرفين ماذا تقولين"
قاومته بشراسة بينما ارتفع صوت خلفه يهتف
"من أنت؟ .. ماذا تفعل؟ .. اتركها وإلا صرخت و.."
التفت لصاحبة الصوت وخمن أنّها جارتها .. حماة روض .. أسرع يخبرها
"أنا صديق حسن يا سيدتي .. ساعديني .. شذى ليست بخير"
قطبت بشك بينما دفعته شذى بشراسة في صدره تدفعه بعيدًا
"أنا بخير .. ابتعد عنا أنت وأبوك وسنكون بخير .. لا نريد شيئًا منكم"
هتف محاولًا تهدئتها
"شذى .. أبي مات وما عاد يملك نفعًا ولا ضرًا .. الله سيحاسبه على ما ارتكبه بحقكن و .."
قاطعته بقهر
"لا سامحه الله أبدًا .. أنا لا أسامحه بحقي ولا بحق أمي وأختي"
"شذى أرجوكِ"
توسلها وقلبه يختنق أكثر بينما اقتربت أم حسن بقلق
"اسم الله عليكِ يا حبيبتي .. اهدأي"
ابتعدت عنها ولوحت بيدها صارخة
"اتركني وارحل .. ليس لك شيء عندنا"
هتف رافضًا
"روض أختي شئتِ أم أبيتِ يا شذى"
اتسعت عينا أم حسن بصدمة بينما هتفت شذى
"قلت لك ليس لك أخت هنا .. روض أختي أنا .. لن تأخذها مني"
تنفس بقوة ليتمالك نفسه بينما سالت دموعها وهي تردد
"أين كان أبوك حين تركنا نتعرض لإيذاء الناس وألسنتهم بعد أن قلب حياة أمي؟"
وحدجته بمرارة وهي تردف
"هل تعرف كم طاردها واستغل ظروفها ووحدتها، وانكسارها بعد أبي ليجبرها على الزواج منه رغم كونه متزوجًا؟ .. هل تعرف كم رفضت وقاومت حتى لم تجد مفرًا من الموافقة؟ .. وجدتي المسكينة ظنت أنّها تنقذها من المجتمع القاسي الذي ينهش في المطلقة"
أمسكت بقلبها وكاد هو يندفع ليحتضنها رغمًا عنها يهتف فيها أن تتوقف .. أنّ كل هذا انتهى .. يتوسلها أن تنسى وتتابع حياتها .. يعدها أنّه لن يعرضها لكل هذا .. هتفت هي بلوعة
"هل تتخيل وضعها؟ .. مطلقة مكسورة خرجت من تجربة زواج لعينة شوهت روحها، ثم يأتي أبوك ليطاردها ويستغل ضعفها وتضطر للموافقة على أمل أن تحظى بالأمان وترعى ابنتها تحت مظلة لا تصلها أعين وألسنة المجتمع التي لا ترحم؟"
أغمض بألم هامسًا داخله .. سامحك الله يا أبي .. ماذا فعلت؟ .. كيف يداوي كل هذه الندوب داخلها؟ .. سمعها تنتحب بشدة ثم تهمس
"لن أسامحكم أبدًا .. لن أسامحه ولن أسامح الآخر .. لن أغفر لكم"
تصاعدت جلبة في الخارج تلاها صوت حسن يهتف مناديًا روض، ليلتفت ثلاثتهم .. صُدِموا بروض المجمدة مكانها بوجه شديد الشحوب أغرقته الدموع، بينما اقتحم حسن المكان هاتفًا بلهفة
"روض .. اسمعيني أنا .."
توقفت الكلمات في حلقه عندما رأى حالتها وانتبه بعدها للوضع المضطرب فهتف بقلق
"ما الأمر؟ .. ماذا يحدث هنا؟"
ما كاد يكمل جملته حتى توقف قلبه وارتفع صياح الثلاثة حين ترنحت روض وعيناها تغمضان .. اندفع هو بسرعة ليلتقطها بين ذراعيه في اللحظة التي اندفع فيها ضياء هو الآخر هاتفًا اسمها ممتزجًا بصرخة ملتاعة من شذى التي أدركت لحظتها أنّ روض سمعت كل شيء.
******************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا