الفصل الخامس
"لا أعرف كيف قررتِ هذا يا شذى .. حقًا لا أفهم .. من أين تثقين بها لتوظفيها هنا؟"
قالت روان مقطبة بينما زمت كريمة شفتيها راميةً إليها بنظرة محذرة .. ردت شذى بهدوء وهي تتابع تنسيق باقة من النرجس
"ومن أين وثقت بكِ قبل أن أوظفكِ معي يا روان؟"
مطت شفتيها بغير رضا ثم نفخت متمتمة
"فهمتكِ"
ثم عادت تهتف بعناد طفولي
"لكن هناك فرق .. شقيقتي كانت تعمل معك مسبقًا .. أما تلك الفتاة"
تدخلت كريمة بهدوء
"روان حبيبتي .. ركزي أنتِ في عملكِ .. شذى تعرف ما تفعله"
صاحت باعتراض
"ولما لا أقول رأيي فيما يخص العمل؟ .. من الطبيعي أن أخشى على المكان .. من أدرانا.."
قاطعتها شذى بحزم رقيق
"روان .. أنتِ تعرفينني جيدًا .. وكما قالت كريمة .. تعرفين أنني لن أضر بالعمل"
حاولت الاعتراض لكنّ شذى تابعت
"أولًا .. هي مجرد صبية صغيرة سيئة الحظ .. رأيتها أكثر من مرة في إشارة المرور تبيع الأزهار وبالتأكيد لا أعرفها ولا أعرف أخلاقها، لكن ما لفت نظري لها كان أهم من أي اعتراض عقلي"
رمقتها باستفهام أجابته مبتسمة
"كنت أراها تجلس جانبًا لتستريح وفي تلك الأثناء تدرس في كتبها بجدية شديدة"
صمتت قليلًا تفكر ثم تابعت
"من المؤلم رؤية طفلة مجتهدة مثلها تفقد فرصتها في العلم والحياة الكريمة .. يمكننا مساعدتها بهذا العمل"
تبادلت روان مع شقيقتها النظرات وابتسمت كريمة بحنان وهي تفكر في طفلتها .. أردفت شذى بنبرة آسفة
"هذا إن قررت أن تأتي .. بدت خائفة ومتوجسة مني"
ربتت كريمة على كتفها
"لا تقلقي .. إن شاء الله ستأتي"
أومأت بابتسامة باهتة بينما رددت روان بعد قليل وهي تتاول علبة وتبدأ في تنسيق الزهور داخلها مرفقة ببعض الهدايا وقطع الشكولاتة
"حسنًا، أقنعتماني .. عامةً لننتظر حتى تأتي وبعدها نرى إن كانت تستحق أم لا"
تبادلت شذى وكريمة نظرة يائسة قبل أن يقاطعهما دخول زبون فأسرعت الأخيرة لتستقبله بينما وضعت شذى باقة الأزهار التي انتهت منها فوق الرف وحركت رقبتها المجهدة بتعب، ودلّكتها وهي تتنهد بينما عقلها يشرد مجددًا إلى روض وهوسها بجارهم ذاك .. تخشى عليها بشدة .. لطالما خشيت عليها كونها تشبه أمها في شخصيتها وقلبها وطبيعتها الحالمة .. تصديقها للناس بسرعة وإيمانها بهم .. رغم كل المرات التي واجهت فيها المخادعين والمتلونين لم تفقد روض براءتها وحسن ظنها بالناس .. لو تعرف كيف تلجم تهورها وقلبها المندفع البريء لاطمأن قلبها عليها .. أحيانًا تخشى أن ترحل عن الدنيا وتتركها وحدها.
"شذى"
انتبهت على صوت كريمة تناديها فنظرت بتساؤل
"نعم .. كنتِ تقولين شيئًا؟"
ابتسمت كريمة مشيرة نحو الباب .. التفتت مع إشارتها ونهضت بابتسامة واسعة
"ياسمين .. تعالي حبيبتي تفضلي"
وابتسمت بحرارة للمرأة التي رافقتها إلى الداخل وقد تبينت هويتها من الشبه بينهما
"تفضلي سيدتي .. أنرتِ المحل"
أومأت الأم وهي تنقل بصرها بين ثلاثتهن بارتباك، فأسرعت شذى تقول
"تفضلي بالجلوس سيدتي .. أنا سعيدة جدًا لأنّكِ قررتِ المجيء بنفسكِ"
ونظرت لياسمين الواقفة بخجل وأردفت
"خشيت أن تكون ياسمين قد خافت وصرفت نظرًا عن عرضي"
تنحنحت أمها وقالت
"العفو يا هانم"
قاطعتها بابتسامة رقيقة
"شذى"
أومأت متمتمة
"تشرفنا يا آنسة شذى .. في الحقيقة .. أنا لم أكن موافقة لكن ياسمين فكرت كثيرًا وأصرت على الحضور لمقابلتك"
اتسعت ابتسامتها وهي تنظر لياسمين التي احمر وجهها
"ياسمين بنت رائعة يحق لكِ أن تفتخري بها سيدتي .. تبدو ذكية ولديها فرصة لتكون فتاة متفوقة، وصراحةً لم أحب أن تضيع فرصة دراستها .. وقوفها في الإشارات ليس جيدًا لفتاة مثلها"
تمتمت الأم بشحوب
"العين بصيرة واليد قصيرة يا آنسة شذى .. والدها تخلى عنا .. تركني أنا وإخوتها الصغار ورحل دون أن يسأل من أين سنعيش"
انقبض قلب شذى وشحب وجهها بينما تسمعها تكمل
"والنقود التي أحصل عليها من الخدمة في البيوت لا تكفي لطعامهم وملابسهم .. اضطررت لإخراجها من المدرسة"
قاومت شذى مشاعرها التي ضجت بالكراهية والنفور نحو أمثاله وأسرعت ترد
"لا تشغلي بالكِ من الآن فصاعدًا .. ياسمين ستعمل معنا .. المحل كبير وزبائننا كثيرون، وسنتفق أيضًا على الراتب قبل أن تقررا .. لكن أنا لدي شرط صغير"
تململت ياسمين بقلق وارتبكت نظرات أمها
"شرط؟ .. أي شرط؟"
ابتسمت للصغيرة بحنان وهي تجيب
"ياسمين ستعود للمدرسة ويمكنها العمل في المحل بعد انتهاء اليوم المدرسي، ستدرس وستقوم بواجباتها هنا كما كانت تفعل اثناء وقوفها في الإشارة"
رمقتها الأم بدهشة بينما لمعت عينا ياسمين وأشرق وجهها فاتسعت ابتسامة شذى
"ولو احتاجت أي مساعدة في الدراسة ثلاثتنا هنا لمساعدتها .. أنا ومدام كريمة وروان"
تمتمت مشيرة لهما ثم واصلت
"هكذا من ناحية ستدرس، وأيضًا ستتعلم وتكتسب عملًا رائعًا ومفيدًا مثل عملنا"
والتفتت للأم مردفة
"هه .. ماذا قلتِ يا سيدتي؟"
نظرت لابنتها التي ترجتها بنظراتها ووقفتها المتحمسة وتنهدت مرددة بابتسامة
"قلت على بركة الله"
***********************
حملت روض سلتها التي وضعت فيها علبة ملأتها بقطع الكعكة ومعها ترموس شاي الورد، واتجهت بخفة نحو الباب .. وضعت السلة أرضًا وضبطت حجابها ثم نظرت عبر العين السحرية لدقائق حتى كاد اليأس يتملكها.
هيا .. ألم يخرج أمس بملابسه الرياضية في نفس الساعة ونزل ليتريض صباحًا؟ .. لماذا لم يخرج حتى الآن؟ .. تراجعت مفكرة بتوجس .. أم أنّه خرج دون أن تنتبه؟ .. عادت تنظر وهي تفرك كفيها بتوتر ولم تلبث أن تهلل وجهها حين انفتح الباب ورأته في اللحظة التي فاجأتها شذى حين خرجت من غرفتها
"روض .. ماذا تفعلين عنـ .."
لم تكن تملك الوقت لتجيبها فهتفت
"صباح الورد يا شذى .. سلام"
وفتحت الباب وخرجت تاركة شذى تردد بغباء
"سلام؟"
هزت رأسها متمتمة بحسرة
"لقد فقدت عقلها تمامًا"
وزفرت في يأس وذهبت لتستعد لعملها بينما عضت روض شفتها ما أن قفزت للخارج .. توقفت بعد قفزتها بوجه محمر وقاومت حتى لا تذوب كالكريمة كما صار معتادًا في حضرته .. غمغمت بدهشة مصطنعة
"هذا أنت يا دكتور حسن ما هذه الصدفة السعيدة؟ .. صباح الورد"
نظرة عينيه وابتسامته سرقت أنفاسها وأنستها كل ما قررته وخططته وكادت تذوب مرة أخرى بينما يرد بلباقة
"صباح الورد يا آنسة روض .. كيف حالكِ اليوم؟"
أجابت بقلب يتقافز كالقرود
"بخير الحمد لله"
قاومت حتى لا تنظر لجسده الممشوق بملابسه الرياضية وأسرعت تشيح بوجهها مغمغمة
"يبدو أنّك ذاهب للتريّض .. تفضل لا أريد أن أعطلك"
تحرك نحوها فاضطربت أعصابها أكثر وقاومت ذلك الذوبان الأحمق بينما يسألها
"عطليني كما تريدين أنا لا أمانع"
أنقذني يا رب .. همست وهي تشيح عينيها عن عينيه اللتين أسرتاهما للحظة قبل أن يقول مشيرًا للسلم
"تفضلي أنتِ .. كنتِ تبدين على عجلة"
لم تسعفها الكلمات فهزت رأسها بارتباك
"لا تقولي أنّكِ ذاهبة في نزهة في الصباح الباكر؟"
سألها وهو ينظر للسلة فخانتها ابتسامتها ونظرت له مجيبة
"شيء من هذا القبيل"
تواصلت أعينهما للحظات تتبادلان حديثًا طويلًا، كان هو أول من قطعه حين تنحنح مشيحًا ببصره
"تفضلي آنسة روض"
وتقدم نازلًا يسبقها فتبعته مغمغمة بارتباك
"في الحقيقة أنا ذاهبة إلى أبـ .. أقصد إلى العم راضي .. وعدته أن أصنع له كعكة وبعض الـ"
توقف فجأة فكادت تصطدم به والتفت يسألها
"عم راضي جارنا؟"
أومأت فابتسم وهو يتأملها مليًا
"من الواضح أنّكِ صنعتِ صداقات خارج عمارتنا أيضًا"
ثم أكمل بمرح لكنّ عينيه كانتا تطلبان بجدية
"أتمنى أن أنال هذا الشرف أيضًا ذات يوم"
خانها لسانها وهتف دون تفكير
"لقد نلته مسبقًا و .."
عضت لسانها توقف اعترافها الأحمق، وابتسم هو وقرر رحمتها من الحرج فتابع نزوله مرددًا
"هذا يسعدني كثيرًا آنسة روض .. شكرًا لكِ"
تحركت شفتاها بغمغمات غير مفهمومة وهي تنزل بارتباك وعند باب العمارة التفت لها بابتسامته
"حسنًا، نفترق هنا .. يوم سعيد آنسة روض"
هزت رأسها بخجل وتابعته ينزل الدرجات القليلة التي تفصله عن الشارع قبل أن توقفه هاتفة بلهفة
"لحظة يا دكتور حسن"
التفت لها بتساؤل فأسرعت إليه وفتحت سلتها تخبره
"قلت أنّك أحببت شاي الورد .. هل يمكنني أن أقدم لك بعضه قبل أن تذهب؟"
كانت مشغولة بفتح الترموس فلم تنتبه لنظراته العميقة التي تأملتها على مهل، لكنّها حين رفعت وجهها انتبهت وتخبطت نبضاتها ليسرع هو مرددًا
"بالتأكيد"
ارتجفت يدها وهي تصب له كوبًا ناولته إياه، وأشاحت وجهها بتوتر تدير عينيها في الشارع الساكن ونسمات الصباح الباردة خففت قليلًا من احتراق وجنتيها .. أعاد لها الكوب بعد قليل يخبرها بابتسامة واسعة
"دعيني أحذركِ آنستي"
رمقته بحيرة وتساؤل لتتسع ابتسامته
"أنا على وشك إدمان هذا الشاي من يدك ولا أعتقدني قادرًا على صنع مثله .. لهذا أظنكِ ستضطرين لاحتمالي كصديق متطلب"
ابتسمت وقلبها يتراقص
"لا تقلق بشأن هذا .. يمكنني أن أصنعه يوميًا وأحضره لكم"
ران الصمت المربك بعد كلماتها قبل أن يتحرك هو مغمغمًا بابتسامته تلك
"إن كان هذا يعني أن نسعد برؤيتكِ كل يوم فأنا أدمنته بالفعل"
تابعته بابتسامتها وهو يبتعد وخانتها تنهيدة حالمة قبل أن تصفع نفسها هاتفة بحنق
"هل هذا ما اتفقنا عليه يا حمقاء؟ .. أنتِ كارثة .. الآن ماذا سيقول عنكِ؟"
وزمت شفتيها قبل أن تقلد أختها متمتمة بسخرية
"هل تعرفين ماذا يطلقون على حالتكِ هذه؟ … مدلوقة"
زفرت بحنق ثم هزت كتفيها
"مدلوقة مدلوقة .. المهم أن أصل لقلبه في النهاية"
وعادت تبتسم بهيام أحمق
"لقد أحب الشاي من يدي"
صفعت نفسها مرة أخرى بغيظ، قبل أن تنتفض على صوت البواب خلفها
"هل هناك شيء يا آنسة روض؟"
التفتت بوجه محمر
"لا شيء يا عم محمود"
تمتمت محرجة وأسرعت تنزل السلالم منطلقة إلى بيت العم راضي وقلبها عاد يتراقص في أمل بينما تتذكر كل ما دار بينهما.
***********************
"انتبهي لكلامي جيدًا ياسمين .. الزهور كائنات رقيقة جدًا وتحتاج عناية كبيرة لتعيش فترة أطول"
قالت شذى محدثة ياسمين التي أومأت بانتباه، فتابعت شذى مشيرة لمجموعات الزهور أمامها
"لا بد أنّكِ عرفتِ هذا أثناء بيعكِ لها .. هنا تأتي كميات كبيرة ونحتاج للحفاظ عليها لتبقى لأطول فترة في حالة جيدة"
عادت تومئ بينما اختلست شذى النظر خارجًا حيث كانت كريمة تقف بوجه محمر مرتبك مع أمين صاحب مشتل الزهور، تتابع إنزال الطلبية الجديدة بينما يحدثها أمين ونظراته لها تفضحه كُليًا .. قاومت لتركز مع ياسمين وانتبهت للنظرات الخبيثة التي تختلسها روان نحو شقيقتها وأمين فهتفت فيها
"ركزي في عملكِ يا روان"
انتبهت لها فضحكت وعادت تشذب سيقان الزهور وغمغمت بتنهيدة هيام
"اوعدنا يا رب"
لم تقاوم شذى ابتسامتها ورمقتهما ياسمين بحيرة فهزت رأسها وأسرعت تخبرها مشيرة للخارج
"الزهور تأتينا يومًا بعد يوم من المشتل الذي نتعاقد معه .. عندما تصل الزهور علينا تنظيفها من بقايا الطين العالقة بها والحشائش ثم تشذيبها"
وأشارت إلى روان متابعة
"كما تقوم روان الآن"
نظرت ياسمين إلى روان التي غمزت بمرح وأشارت لها بالمقص الذي تحمله مرددة
"هذه عملية مهمة جدًا يا فتاة .. انتبهي جيدًا"
ابتسمت ياسمين مرغمة بينما أكملت شذى
"كما قالت روان .. هذا مهم جدًا وعليكِ الانتباه ليديكِ أيضًا .. ولا تقلقي الأمر سهل وبسيط رغم أنّه يبدو متعبا قليلا"
وعادت تشير إلى روان
"ستقوم روان بشرح الأمر بالتفصيل وتدربكِ عليه"
"أنا مستعدة لكل شيء"
ردت ياسمين بهدوء فابتسمت شذى بحنان وهتفت روان
"واو .. لدينا متحمسين هنا"
ربتت شذى على شعر ياسمين
"أنا واثقة من هذا .. اسمعيني حبيبتي .. لا تجهدي نفسكِ .. كل يوم ستتعلمين شيئًا جديدًا .. ستعرفين أسماء الزهور وأنواعها ومعنى كل زهرة ولون"
وأشارت للباقات المتراصة بالمحل
"ستتعلمين تنسيق مثل هذه الباقات وأفضل منها أيضًا"
تدخلت روان في الحديث
"لقد أخذت وقتًا حتى سمحت لي شذى بالتعامل مع الزبائن مباشرةً"
ضحكت شذى وأخبرتها
"لم أكن أريد أن تتسببي في هربهم وخسارة المحل"
زمت شفتيها بتذمر بينما ضحكت ياسمين قبل أن تستمع لشذى تخبرها باهتمام
"وكما اتفقنا ياسمين .. لن تهملي دراستكِ وستوازنين بين الزهور والدراسة، تمام؟"
أومأت بحماس
"تمام يا أبلة شذى .. ولا تقلقي أنا أتعلم بسرعة وسأقوم بعملي على أكمل وجه"
ردت بحنان
"وأنا أثق بكِ حبيبتي .. والآن"
تناولت قفازات يد ومريولًا يحمل شعار المحل وأكملت بابتسامة واسعة
"يمكنكِ الذهاب لتبدأي درسكِ الثاني مع الآنسة روان"
أخذتهما بحماس شديد وأسرعت ترتدي المريول وروان تهتف محذرة
"انتبهي جيدًا يا فتاة .. أنا معلمة صارمة جدًا"
أسرعت لها ياسمين وقد استعادت روحها المشاكسة فهتفت وهي ترتدي القفازات
"وأنا تلميذة عبقرية جدًا بالمناسبة"
رمقتها روان بحاجب مرفوع بينما ضحكت شذى وهي تسترخي في مقعدها .. نظرت للخارج وهتفت بعد قليل بخبث
"كريمة .. الزهور تشتكي إهمالكِ وانشغالكِ عنها هذا الصباح"
التفتت لها بوجه تفجر بحمرة الخجل كما فعل أمين، وانفجرت روان ضاحكة قبل أن تغمغم بمسكنة مصطنعة
"لكِ الله يا روان يا عزباء يا مسكينة"
ورفعت صوتها المرح ليصل شقيقتها المغتاظة
"اوعدنا يا رب"
*********************
"ماكس .. لماذا أنت كسول هذا الصباح يا فتى؟"
هتفت روض محدثة الكلب الذي تمدد يستمتع بالدفء في بقعة مشمسة وسمعت العم راضي يضحك ثم يخبرها
"إنّها عادته المفضلة .. الاستمتاع بشمس الشتاء في هذه الساعة .. لا تحاولي معه"
ضحكت وهي تتابع إزالة الحشائش الضارة وقص الزهور التي ذبلت منها
"في العادة أحب القطط والجراء الصغيرة، لا أميل للكلاب الكبيرة كثيرًا، لكن حقيقةً وقعت في حب ماكس"
والتفتت له غامزة بمرح
"يكفي أنّه لم ينبح عليّ في أول مرة دخلت حديقتكما رغم أنه ينبح على بقية الناس"
ضحك قائلًا
"لأنّه كلبٌ ذكي ويفهم في النساء جيدًا .. لقد وقع في حبكِ من أول نظرة"
صدحت ضحكتها مسببة رعشة كهرباء بقلب حسن الذي كان قد عاد من جريه، ولم يقاوم مروره على بيت العم راضي ممنيًا نفسه برؤيتها هناك ولم يخب رجاؤه .. توقف قليلًا يتابعها جالسة أرضًا تتابع عملها بين الزهور التي كانت في عينيه أقل جمالًا من سحرها هي .. وشعر لحظتها أنّ الزهور تغار منها وتحبها في الوقت ذاته .. رآها تنحني لتتشمم وردة حمراء وتبتسم تلك الابتسامة التي سرقته منذ وقتٍ طويل .. أخذ نفسًا وتقدم نحو البيت ليلمحه العم راضي وهتف مُرحِبًا
"أستاذنا العظيم .. أنرت منزلي المتواضع"
التفتت روض وكادت تفقد توازنها بين الزهور وتقدم هو مبتسمًا وعيناه لا تفارقانها
"صباح الخير يا عم راضي .. كيف الحال؟"
لم تفت نظراته العم راضي الذي ابتسم بخبث وهو يرفع جريدته، وعدّل نظارته الطبية قائلًا
"الحال أروع ما يكون يا ولدي .. انظر .. لدي هنا .. الماء والخضرة"
تمتم مشيرًا نحو النافورة الصغيرة وسط حديقته ثم للزهورثم اتسعت ابتسامته الخبيثة وهو يشير إلى روض
"والوجه الحسن .. كيف لا أكون بأفضل حال؟"
ضحك حسن وهو يقترب ليأخذ المقعد المجاور له بينما كادت روض تذوب في جلدها
"لمن أدين بهذه الزيارة الصباحية يا دكتورنا المبجل؟"
سأله بتسلية فرفع حسن عينيه عنها لينظر إليه وأدرك أنّه مفضوحٌ أمامه فقال بمرح
"من يسمعك يقول أنني لا أزورك في العادة يا عمي؟"
هز رأسه وهو يقلب الجريدة مدعيًا البراءة
"لم أحظ بهذا الدلال مؤخرًا؟"
"أنسيت أنني كنت مسافرًا يا رجل يا طيب؟"
ضحك راضي وغمغم
"صحيح صحيح .. اعذرني يا ولدي .. حكم السن"
لم تحتمل هي البقاء هكذا ولا التركيز فيما تقوم به فنهضت متمتمة بارتباك
"سأكتفي بهذا لليوم و.."
قاطعها مبتسمًا بمشاكسة
"لم آخذ نصيبي من الكعكة بعد"
"نعم؟"
سألته بدهشة فابتسم مشيرًا للسلة
"أريد أن أتذوقها، هل يمكن؟"
والتفت لجاره المبتسم بخبث وأردف
"هذا طبعًا بعد إذنك يا عم راضي"
أخبره بغمزة خفية
"وهل أستطيع الرفض؟ .. نفسك تشتهيها .. لا أريد أن تموت من الشوق وأتحمل ذنبك"
ضحك حسن بينما احمر وجهها وهي تلتقط ما بين كلماته
"هه يا آنسة روض .. هل يمكنني؟"
"بالتأكيد"
هتفت بلهفة وهي تسرع لتحضر له طبقًا وضعت به قطعة كبيرة، وقدمته له فقال بابتسامة يخصها بها
"سلمت يداكِ .. هل لي ببعض شاي الورد أيضًا؟"
ارتجفت يداها وهي تصب فنجانًا وقدمته إليه فقال محدثًا العم راضي
"الآن لدينا الحلوى والمشروب اللذيذ إلى جانب الماء والخضرة والوجه الحسن"
أجابه ضاحكًا
"أحسنت القول"
مسدت ثيابها بارتباك وأسرعت تتناول السلة الأخرى التي ملأتها بالزهور
"عليّ الذهاب الآن .. لدي الكثير من العمل .. إلى اللقاء"
كاد ينهض ليلحق بها لولا أن أمسكه العم راضي قائلًا
"اجلس يا مفضوح"
تابعها بنظراته وهي تسرع بخطوات أقرب للركض وتنهد بحرارة مغمغمًا
"هل أنا مفضوح لهذه الدرجة"
قهقه العم راضي
"أنا أفهمها وهي طائرة يا حبيبي .. كما أن وجهك مكتوبٌ عليه بالخط العريض"
وأشار إلى جبينه متابعًا بمرح
"أنا واقع في حب هذه الجنية الصغيرة"
تراجع في مقعده متنهدًا
"وأيّ جنية؟ .. إنّها ساحرة"
"يا حبيبي"
تمتم العم راضي منغِمًا قبل أن يدعي الجدية ويقول
"حذار يا ولد .. روض ابنتي الآن ولن أسمح بأي سلوك مشين أو لعب بالذيل هنا .. إن لم تكن جادًا ابتعد عنها أنا أحذرك"
تحذيره الأخير كان جادًا فابتسم حسن وأخبره
"لا تقلق يا عم راضي .. مضى زمن اللعب … أنا جاد للغاية"
ونظر في إثر خيالها المختفي
"لم أكن جادًا في حياتي كالآن"
ربت على كتفه بابتسامة راضية
"إذن ماذا تنتظر يا ولدي؟ .. ادخل البيت من بابه واطلبها"
ابتسم مرددًا بخفوت
"أريد أن أتأكد من مشاعرها أولًا"
أخبره ضاحكًا
"أنت أعمى؟ .. البنت كانت ستتحول إلى شكولاتة ذائبة رغم أنّ الجو باردٌ"
ابتسم ولمعت عيناه بأمل
"ربما هي تخجل فقط .. لا أدري ربما .."
قاطعه ضاربًا على ظهره
"هل ستظل تضع الاحتمالات؟ .. اطرق الباب واطلب يدها .. اقتحم يا فتى واترك كل الهواجس والتحليلات لما بعد .. إن لم تكن قد وقعت في حبكِ بعد فستقع حتمًا"
وغمز له بمرح
"لا تقل أنّك لست واثقًا في نفسك"
ضحك وهو يرفع الفنجان ويرتشف القليل منه مغمضًا عينيه لتعيده النكهة والرائحة إلى ذلك الصيف وتلك اللحظة على الشاطئ ثم غمغم بعد ثوان
"لأول مرة أكون خائفًا لهذه الدرجة يا عم راضي"
والتفت له مردفًا بأسى
"لأنني لأول مرة أقع في الحب ولهذا أنا خائف"
أطرق شاردًا لبرهة في سنوات ماضية مثقلة وأردف بندم
"خائف أنّ أخسرها بسبب ذنوبي وطيشي في السابق"
تنهد العم راضي بأسف وقال
"أنت تبت يا ولدي والله يقبل التوبة .. كن صادقًا وإن شاء الله خير"
ونظر تجاه بيت روض وأكمل بيقين
"من يدري؟ .. ربما كانت هذه هي الإشارة إلى أنّ توبتك قد قُبِلت"
هز رأسه مرددًا بابتسامة
"هذا ما كنت أفكر فيه تحديدًا منذ قابلتها أول مرة .. شعرت أنّها استجابة دعواتي وقبول توبتي لكنني مع هذا يا عمي .. أجدني لا أستحق"
وتطلع عاليًا تجاه شرفة شقتها
"ربما لا أستحق فتاة رائعة مثلها"
ربت على كتفه رادًا بحزم
"دع هذه الوساوس جانبًا فهي من الشيطان يا ولدي .. توكل على الله واطلب يدها من أختها ولو أردت حضوري فهذا سيشرفني"
رمقه بابتسامة ممتنة ثم ضحك قائلًا بمرح مفتعل
"هذا ينقلنا للمشكلة الثانية"
"ماذا؟"
سأله بحيرة فمط شفتيه بتحسر
"أمي"
"ما بها الحاجة سهير؟"
تنهد بحرارة وأجابه
"الحاجة سهير يا عمي .. اختارت شقيقتها لتكون عروسي وهي الآن تنتظر مني أن أذهب وأطلبها للزواج"
ضرب كفيه ببعضهما ضاحكًا بينما يردف حسن
"وأنت تعرف أمي واستبدادها بآرائها .. ستقيم مناحة بالبيت إن أخبرتها بحقيقة مشاعري وبرفضي للفتاة التي اختارتها بنفسها"
ضربه بالجريدة هاتفًا بحزم مفتعل
"هل ستنخ من أولها يا ولد؟ .. اذهب وواجه أمك بمشاعرك وافرض حبك عليها"
تأوه بافتعال مع ضربته بينما أردف راضي بمرح
"ثم إنّها أصلًا ما كادت تصدق أنّك وافقت على الزواج لذا ستتمسك بأي عروس مهما كانت بأظافرها وأسنانها صدقني"
انفجر حسن ضاحكًا ورد
"أنت محق في هذه النقطة"
وتنفس بعمق وعيناه تتعلقان بشرفتها ثم همس
"إذن على بركة الله"
رمقه راضي بحنان مضيفًا
"على بركة الله يا ولدي .. تقدم ولا تخف وإن شاء الله يقدم ما فيه الخير لكما معًا"
أمّن على دعائه بينما يفكر في مواجهته القادمة ليس مع أمه فحسب .. بل مع أختها التي تبدو أنّها تكرهه بشدة ولا يفهم السبب، ويخشى أن تكون سببًا في فشل هذا الزواج قبل أن يحدث اصلًا.
***********************
نظرت روض لخديها المحمرين في المرآة وتمتمت
"كنتِ مفضوحة .. يا ربي .. بالتأكيد فهم الاثنان كل شيء"
اتجهت لفراشها وارتمت عليه
"يا الله .. كيف سأذهب إلى منزل العم راضي مرة أخرى؟"
هتفت في نفسها بحزم وهي تعتدل
"توقفي .. أنتِ لم تفعلي شيئًا خطأ .. ألم تقرري الاستيلاء على قلبه؟ .. إذن فلتتقدمي"
نهضت تشد جسدها باعتداد
"ما يهم لو فهم .. هذا هو المطلوب .. الفتي نظره واسرقي قلبه بأي طريقة"
ولمعت عيناها وابتسمت مداعبة قلادتها
"وكما يقولون .. كل شيء مباح في الحب والحرب"
واتجهت بسرعة نحو مختبرها وهي تواصل
"الآن لنزيح خصمنا الأول عن الجبهة .. خالتي العزيزة أم حسن"
ارتدت معطفها الأبيض وتوقفت أمام طاولة عملها وأدواتها مغمغمة
"إذن شذى هي من تريدين عروسًا يا خالتي أم حسن؟ .. للأسف لن ينفع أبدًا لأنني موجودة .. ويجب أن أجعلكِ ترينني ولو بالإجبار .. أنا مجنونة ومتهورة؟ .. هكذا ترينني فقط؟ .. بعد كل الدلال الذي عاملتكِ به"
أسرعت تتفحص معداتها والتقطت وعاءً مليئًا ببتلات الزهور
"لنرى ماذا لدينا هنا .. جيد .. لنبدأ على بركة الله"
عادت تتابع بعد دقائق من العمل
"انتظري فقط يا خالة أم حسن .. سأقفز لكِ في كل دقيقة … سأنزل لكِ حتى من صنبور المياه .. ستتلفتين حولكِ فلا ترين أحدًا غيري .. وفي النهاية ستحبينني وستطلبين يدي بنفسكِ لحسن"
وأطلقت ضحكات شريرة متقطعة، انقطعت على صوت شذى الساخر
"هل فقدتِ عقلكِ أخيرًا؟"
التفتت بوجه محمر ثم عادت تضحك رافعة علبة الكريم المعطر ورددت بشقاوة
"سلاحي السري في حربي ضد خالتي أم حسن حتى تتوقف عن رؤيتي مجنونة ومتهورة وترضى بي زوجة لابنها"
هزت شذى رأسها وضحكت مرددة
"قلبي يخبرني أن خططك ستنقلب عليك وستتأكد كليًا أنكِ مجنونة ومتهورة ولديكِ برج طائر أيضًا"
***************************
راقبت ياسمين باهتمام شذى وهي تقص الإسفنج المبلل بينما تشرح لها
"هذا الإسفنج يحفظ الماء ويُبقي الأزهار منتعشة"
وتابعت وهي تضع قطعة الاسفنج في إصيص
"سنضعها هكذا وبعدها تقصين الزيادات عن الأطراف لتناسب حجم الإصيص أو الوعاء"
أومأت وتابعتها بتركيز وهي تتناول الزهور، تغرسها واحدة بعد أخرى بترتيب خاص
"تضعين هذه هكذا لتسمحي بمساحة جيدة وترتيب أفضل لباقي الزهور"
قصت ساق إحدى الوردات وأعطتها إياها لتغرسها بنفسها وابتسمت وهي تتأملها ثم أكملت
"مع الوقت ستتعلمين أفكارًا جديدة لتنسيق الباقات وستبتكرين أخرى بنفسكِ"
هزت رأسها وبدأت تساعدها .. راقبتها شذى بعطف واهتمام وارتسمت على شفتيها ابتسامة لمحتها عينا الواقف على مقربة من المحل مستندًا لسيارته وابتسم قلبه قبل شفتيه وهو يستقبل سنا ابتسامتها ... لم يقاوم رغتبه هذه المرة وتقدم نحو المحل محاولًا تهدئة نبضاته الثائرة .. عبر من الباب دون أن يرى سواها .. لمحته ياسمين فتألق وجهها وهتفت
"ضياء باشـ …"
رفع سبابته لفمه فكتمت كلمتها .. خفض يده بسرعة عندما التفتت شذى بينما أسرعت ياسمين مصححة وهي تندفع إليه
"ضياء آبيه .. آبيه"
ضغطت على الكلمة وعيناها تلمعان بمشاكسة وقاوم نفسه حتى لا يشدها من ضفيرتها أو يخنقها
"أهلًا يا ضياء آبيه .. أنرت المحل يا ضياء آبيه"
ضحكت روان وهي تتبادل نظرة مع شقيقتها ومالت عليها هامسة
"متى رأيت هذا المشهد؟ .. لا أعرف لماذا أشعر بشيء ما ليس بريئًا هنا"
اقترب وهو يحذر ياسمين بنظرة من التمادي أكثر .. تبًا .. هذا جزاء من يقرر الاعتماد على طفلة .. تنهد داخله بأسى .. لم يكن أمامه سواها وقد وعدت بمساعدته ليتقرب من ساحرة الزهور ويستعيد قلبه منها أو بالأحرى يتركه معها لكن بعد أن يحصل على خاصتها ملكه.
طرد أفكاره واقترب مبتسمًا بينما توجه حديثها لشذى
"أبلة شذى … هذا آبيه ضياء"
مرة أخرى تضغط على الكلمة وهي ترمقه بنظرة ماكرة وابتسامة لا تقل مكرًا فابتسم لها بتشنج وتوعدها بنظراته .. انتبه على سؤال شذى التي قطبت
"حسنًا … ومن يكون آبيه ضياء؟"
لم تنس هي الأخرى أن تضغط على الكلمة فضحكت روان وكريمة .. قاوم ليحافظ على ابتسامته وقال وهو يخلع نظارته الشمسية
"مرحبًا يا آنسة شذى"
تململت في وقفتها عندما وقعت عيناها على عينيه، بينما صفّرت روان وغمزت لشقيقتها فلكزتها الأخيرة وهي تتابع ما يحدث
"مرحبًا .. لكن لم أعرف بعد من أنت"
وجدت نفسها تسأله بهجوم وعيناه تثيران فيها شيئًا غير مفهوم .. كانتا مألوفتين بشدة .. هو كله كان مألوفًا .. كانت تقترب من معرفة السبب حين هتفت ياسمين
"إنّه .. آ .. معرفة"
التفتت لها رافعةً أحد حاجبيها فارتبكت ياسمين واستنجدته بنظراتها ليتدخل بسرعة
"نعم معرفة .. يمكن أن تقولي .. مثل قريب أو صديق"
مطت شفتيها بغير رضا
"حسنًا يا سيد معرفة .. أقصد يا سيد ضياء .. كيف يمكنني خدمتك؟"
ورمقت بتجهم رفيقتيها اللتين كانتا تتابعان بتسلية مردفة بجدية
"هل تريد باقة من نوع معين أم تريد هدية ما .. لدينا …"
قاطعها مبتسمًا
"لم أقل أنني أتيت لشراء باقة زهور أو هدية آنستي"
هتفت بحدة دون أن تشعر وكل خلية فيها تصرخ بطرده
"لماذا يأتي الإنسان في العادة لمحل زهور برأيك؟"
اقترب حتى لم يعد يفصل بينهما سوى الطاولة الضيقة المليئة بالأزهار .. وجدت نفسها تحدق في عينيه من هذه المسافة ولوهلة شعرت بأنفاسها تتوقف وانتفض قلبها بفزع، بينما همس هو بنبرة شعرت بها تزحف على كل خلية من جسدها
"ليسرق أجمل زهراته مثلًا"
سقط قلبها بين قدميها، وشعرت فجأة أن الصيف قد عاد وحرارتها ارتفعت .. تراجعت بحدة للخلف هاتفة
"ماذا تقول؟ .. هل تمزح معي؟"
اعتدل في وقفته وضحك
"لا أمزح"
والتفت لياسمين المتابعة بمكر وتسلية وأحاط كتفيها مسببًا اختفاء بسمتها الماكرة
"كنت أقصد هذه الزهرة"
قطبت شذى بينما تصفع نفسها داخليًا على انزعاجها لثانية واحدة لاكتشافها ما يقصده حقًا، وسمعته يردف وهو يشد ياسمين من ضفيرتها
"أنا هنا لأطمئن عليها .. عرفت أنّها بدأت العمل هنا"
هتفت بحدة وهي تشد ياسمين إليها
"وهل تعتقدها تعمل في ملهى ليلي يا حضرة؟ .. نحن محل محترم ومعروف و"
قاطعها برفق
"على مهلكِ يا آنسة شذى لم أقصد سوءًا .. كل ما هنالك أنني أردت الاطمئنان عليها .. أعرف أنّ هذا مكان محترم لكن أنا أعتبر نفسي مسؤولًا"
كتفت ذراعيها مندفعة بهجوم
"هي مسؤوليتك إذن؟ .. وعندما كانت تقف بالساعات في إشارات المرور؟"
تدخلت ياسمين وقد شعرت بالأمور تخرج عما خطط لها ضياء
"آبيه ضياء لم يعرف بعملي إلا مؤخرًا وقال أنّه سيساعدني لأعود للمدرسة"
قطبت شذى وهي ترمقه شذرًا وكأنما لم يعجبها دفاع ياسمين التي تابعت
"لقد عاتبني على عملي وقال أنّه سيبحث عن عمل جيد لأمي لكن بعدها أنتِ تحدثتِ معي عن العمل في محلكِ .. هذا كل شيء .. وهو أراد أن يأتي ليرى المكان ويطمئن عليّ"
زفرت وهي ما زالت ترمقه بحدة، وابتسم هو بتسامح أثار أعصابها أكثر
"لا بأس يا ياسمين .. يبدو أن رئيستكِ صارمة للغاية"
"ماذا قلت؟"
صاحت بغضب فاتسعت ابتسامته وقال وهو يستعد للمغادرة
"توقعت أنّكِ لستِ هكذا في الواقع، لكن اتضح أنّكِ أكثر شراسة مما ظننت"
فغرت فاهها بينما تابع و هو يخرج نظارته
"سأذهب قبل أن أجد مشرطكِ مغروسًا في يدي كما فعلتِ بذلك المتحرش"
ختم جملته بغمزة ارتدى بعدها نظارته وغادر تاركًا إياها تحدق في إثره بعينين متسعتين وقلب منتفض .. تذكرته .. إنّه هو .. ذلك الرجل الذي تدخل تلك المرة في الحافلة .. لهذا كان مألوفاً بشدة.
"شذى .. من يكون القنبلة الرجولية تلك؟"
التفتت على هتاف روان وهتفت باستنكار
"قنبلة رجولية! .. روان .. دعي يومكِ يمر على خير .. أنا روحي في أنفي"
تمتمت روان
"ما الذي قلته خطأ أنا؟ .. أليس قنبلة رجولية يا كريمة؟ .. هه يا ياسمين، صحيح؟"
حدجتها بنظرات قاتلة قبل أن تنظر إثر خياله الراحل وقلبها المنتفض أنذرها أنّه ربما لن تكون هذه المرة الأخيرة التي تراه فيها .. نظراته وكلماته تحمل لها رسالة واحدة .. هو ينوي القدوم مرات ومرات .. وهذا ليس جيدًا على الإطلاق.
**************************
وضعت روض زجاجات العطر بعناية في الصندوق الكرتوني قبل أن تغلقه وتغلفه جيدًا .. وضعته فوق الصندوق الآخر الذي وضعت فيه مستحضرات العناية بالبشرة والكريمات المعطرة التي تصنعها بنفسها.
خلعت معطفها وغادرت المختبر لتبدل ثيابها مدلِكةً عنقها بتعب .. لقد أرهفت نفسها كثيرًا لتتمكن من إنهاء الطلبيات في موعدها .. شذى محقة .. يجب أن تبحث عن أحد ليساعدها .. صحيح أنّها تعتبر مختبرها وعملها قدسيًا لها ولا تحب الدخلاء لكن إن هي نظرت للأمور بعقلانية ستجد أنّها كما تحاول إسعاد الآخرين بعطورها، فهي لا يجب أن تبخل بما لديها من خبرة .. يمكنها تعليم هذا لغيرها .. تحتاج لنشر ثقافة العطور والروائح بحقيقتها التي تعرفها .. تعيد حب الناس لها وسط مادية العصر التي انتزعت الروح من البشرية والحياة.
ابتسمت مع أفكارها ولم تلبث أن غلبها مرحها فتمتمت بنبرة تمثيلية
"كوني شمعة تحترق من أجل الآخرين"
هزت رأسها ضاحكة وأسرعت تبدل ثيابها وخلال دقائق كانت تغادر غرفتها وتتجه لتحمل الصندوقين .. لهثت وهي تضعهما أرضًا وقطبت متمتمة
"كيف سأحملهما لأسفل الآن؟ .. هل أنزل واحدًا وأصعد لأجلب الآخر؟"
فتحت الباب وأخرجتهما وهي تواصل غمغماتها
"ربما أنادي عم محمود ليحملهما أفضل و .."
"صباح الخير آنسة روض"
لم تنتبه لانفتاح الباب المقابل وخروجه فجأة
"أراكِ تتحدثين مع نفـ .."
قطع جملته عندما رآها تترنح بالصناديق التي تحملها فأسرع نحوها
"احترسي"
أسند الصندوقين قبل أن تسقطهما، بينما كادت هي تموت خجلًا بعد أن فقدت سيطرتها وارتبكت كالحمقاء ما أن سمعت صوته .. تنفست بسرعة ونظرت له هامسة
"شكرًا لك"
التقت أعينهما فأسرعت تشيح خاصتيها بارتباك وهو يرد
"لا شكر على واجب"
حاولت شد الصندوقين لكنّه تمسك بهما قائلًا بحزم
"دعيهما .. أنا سأحملهما"
"لا أريد أن أتعبك معي"
"لا يوجد أي تعب آنسة روض"
رد مبتسمًا وتقدمها لينزل مضيفًا
"كيف تحملين أشياء ثقيلة هكذا وحدكِ؟"
لحقته وهي تقاوم حتى لا تخونها عيناها إليه
"كنت سأنادي عم محمود ليساعدني"
نظر لها من فوق كتفه وابتسم
"عم محمود وأنا هنا؟ .. سامحكِ الله"
احمر وجهها
"لم أعرف أنّك هنا و .. حسنًا .. لم أحب أن أزعجك"
تابع نزول السلالم، ووصلتها نبرته مثقلة بكلمات لم يقلها
"قلت لكِ أزعجيني في أي وقت"
والتفت لها مرة أخيرة قبل أن يصلا للطابق الأرضي
"إن لم أكن أنا من يقدم يد العون لأميرة العطور فمن يفعل؟"
غمغمت بارتباك
"أميرة الـ .. ما الذي .. أعني كيف تعرف عن"
أجابها ضاحكًا
"لا داعي للتواضع .. العمارة .. لا بل المنطقة كلها تتحدث عنكِ الآن"
وغمز لها
"خاصةً أمي"
لمعت عيناها وسألته بلهفة
"حقًا؟"
أومأ بتأكيد
"بالطبع .. كانت تمدحكِ وخاصةً ذلك الكريم المعطر الخاص بالتدليك .. أعجبها كثيرًا"
اتسعت ابتسامتها وما أن نظر أمامه حتى قبضت كفها وهمست بسعادة في رقصة انتصار
"أجل .. وهدف .. هدف .. هدف لصالح .."
قطعت كلماتها واعتدلت سريعًا عندما التفت فجأة، وكاد الخجل يميتها وهو يسألها ضاحكًا
"ماذا تفعلين؟"
اشتدت حمرتها ورفعت رأسها باعتداد مصطنع وخشّنت صوتها بافتعال
"ماذا أفعل؟ .. لا شيء"
وأسرعت تنزل الدرجات المتبقية مرددة بحزم مصطنع
"هيا .. لماذا توقفت؟ .. سنتأخر"
عضت شفتها حين ترددت ضحكته خلفها وضربت جبينها هامسة
"حمقاء .. غبية .. مئة مرة قلت انتبهي لتصرفاتكِ"
توقفت فجأة عندما وجدت شمس ابنة البواب تغادر مسكنهم الصغير في الدور الأرضي هاتفة ببكاء شديد
"لا أريد .. لا أريد يا أمي .. سأهرب من هنا لو أصريتم"
اندفعت أمها تتبعها هاتفة بجزع
"تهربين؟ .. إياكِ أن يسمعكِ أبوكِ تقولين هذا الكلام .. والله يقتلكِ ويقتلني"
جلست شمس على سلم العمارة تصيح
"دعيه يقتلني لأرتاح من هذه الحياة .. ارحموني"
انتبهت أمها لروض وحسن الواقفين وأسرعت تمسح دموعها بطرف وشاحها، لتسرع روض نحوها بقلق
"ما الأمر يا أم شمس؟ .. هل هناك مشكلة؟"
"لا يا بنتي .. لا مشكلة"
نهضت شمس وعادت للداخل هاتفة
"لا مشكلة؟ .. لماذا لا تخبرينها الحقيقة؟ .. هل تخجلين؟ .. أنا من يجب أن تخجلي من أجلها هنا؟ .. لماذا لا تدافعين عني و"
صمتت حين دوى صوت والدها صارمًا
"بنت .. اخفضي صوتكِ وأنتِ تتحدثين مع أمكِ"
أشفقت روض على الفتاة التي شحب وجهها وتراجعت بينما تقدم أبوها قادمًا من الخارج ولمحت روض ملامحه المرهقة المهمومة رغم صرامته .. تعرف أنّه رجل طيب ويحب أبناءه .. هناك مشكلة ما .. سمعت شمس تغمغم كلمات غير مفهومة ودموعها تكاد تسيل بينما أبوها ردد
"هل هذا هو ما تريدين أن تتعلمي لأجله؟ .. لترفعي صوتكِ علينا وتعتقدي أنّكِ كبرتِ على مقامنا"
اقتربت روض بسرعة منها حين وجدتها ستنفجر باكية .. أحاطتها بذراعها قائلة
"ما الأمر يا عم محمود؟ .. لماذا أنت غاضب من شمس هكذا؟ .. هذه أول مرة أراك تقسو عليها"
تحرك بخطوات مهمومة ليجلس على الأريكة الخشبية مطرقًا، بينما بكت شمس فضمتها روض مواصلةً
"أليست هذه شمس التي تفتخر بها دائمًا وتصمم أن يناديكِ الناس أبا شمس لأجلها؟"
لم ينطق بحرف ولا زوجته فمطت شفتيها بأسف، وتدخل حسن أخيرًا بعد أن وضع الصناديق جانبًا واتجه ليجلس بجواره
"ما الأمر يا عم محمود؟ .. الآنسة روض محقة .. هذه أول مرة نراك تعامل إحدى بناتك هكذا"
هز رأسه بخجل غريب على رجل قوي مثله وسأله حسن
"هل أخطأت في شيء؟"
هز رأسه نفيًا ثم همس
"أنا المخطئ يا ولدي .. لكن .. ما باليد حيلة"
وعاد لصمته فتنهدت روض ملتفتة لشمس
"أخبرينا أنتِ يا شمس .. ماذا حدث ليغضب والدكِ هكذا؟"
شهقت بالبكاء ثم تمتمت بنبرة متوسلة
"يريدني أن أترك المدرسة و .. وأعود للقرية لـ"
انفجرت باكية لتضمها روض وقلبها منقبض
"كيف تتركين المدرسة؟ … عم محمود كان فخورًا بتفوقكِ"
حانت منها نظرة لوجه الرجل الذي زاد همًا على همه وفتحت فمها لتتحدث عندما تابعت شمس بانهيار
"يريد أن يزوجني لأحد أقاربنا هناك"
"ماذا؟"
هتفت روض باستنكار وصدمة والتفتت إليه
"ماذا تقول شمس يا عم محمود؟ .. هل هذا صحيح؟"
هتفت شمس مع صمت والدها
"صحيح يا أبلة روض .. وأنا لا أريد الزواج الآن .. ليس قبل سنوات حتى"
تدخل حسن مرددًا
"شمس صغيرة جدًا يا عم محمود كيف تفكر في هذا؟"
رددت أمها
"ليست صغيرة .. الفتيات يتزوجن أصغر منها"
قطبت روض هاتفة بحنق
"إنّها لم تكمل السادسة عشر بعد .. كيف تريدون تزويجها هكذا؟ .. هي أصلًا لا تريد .. لديها مدرستها ومتفوقة وذكية وأمامها فرصة لتصبح في مكانة أفضل وعندها ستستطيع الاختيار من عشرات الأشخاص الذين يناسبونها"
تمتمت أمها باعتراض
"وماذا أخذنا من التعليم غير طول اللسان؟"
زفرت روض بقوة وهي تضم شمس الباكية
"لا تقولي هذا يا أم شمس .. أنتِ تعرفين ابنتكِ جيدًا وطيلة الأشهر التي قضيتها هنا لم أسمع لها صوتًا والكل يشهد بأخلاقها هي وأخواتها .. شمس ذكية وابنة يفتخر بها أي أبوين .. لا تضيعي فرصتها في أن تكون في مكانة أفضل ومع شخص يقدرها"
أشاحت أمها بغير رضا وغمغمت
"يا مخلفة البنات"
حوقلت روض وهي تحاول التحكم في أعصابها وقالت
"البنات هن المؤنسات الغاليات .. إنّهن نعمة ورزق من الله وستر من النار إن أحسنتم تربيتهن وأكرمتوهن .. أليس هذا كلام نبينا عليه الصلاة والسلام؟"
رددوا الصلاة والسلام بخفوت لتتابع هي بحزم رفيق
"كيف تقولين هذا الكلام وانتِ امرأة يا أم شمس؟ .. المفروض أن تقفي خلف ابنتكِ وتفتخري بها وتساعديها لتحقق طموحها .. الزواج يمكنه الانتظار بضع سنوات حتى تنضج فكريًا ونفسيًا وتدرك قيمته"
عادت أم شمس تردد
"نحن ناس بسطاء يا دكتورة .. لا نعرف هذا الكلام الكبير الذي تقولينه .. البنت ليس لها إلا بيت زوجها في النهاية"
هزت روض رأسها بقلة حيلة
"يا أم شمس .. حتى لو كما قلتِ ليس لها إلا بيت زوجها .. هل يعني هذا أن ترميها لأول طالب حتى مع رفضها؟ .. ما المانع أن تكون في بيت زوجها الذي هو بيتها هي أيضًا بالمناسبة .. ما المانع أن تكون متعلمة وواعية لحقوقها؟ .. واعية لتكاليفها وواجباتها .. حقوقها كزوجة وحقوقه هو عليها .. مدركة لحقيقة الزواج .. الزواج ليس لعبة يا أم شمس"
ظلت المرأة مقطبة بغير رضا، فقررت روض استهداف قلب العم محمود الذي تعرف حبه لبناتها ويبدو من الأساس غير راضٍ بالأمر .. التفتت له قائلة برفق
"يا عم محمود .. صل على النبي"
تمتم بالصلاة والسلام وهو يعتدل ليسمعها فابتسمت وهي تضم شمس
"أنت تريد الأفضل لشمس ولبناتك كلهن، صحيح؟"
أومأ بصمت فتابعت بثقة أكبر
"وأنا أخبرك أنني مستعدة لتحمل أي تكاليف تحتاجها لتتابع شمس تعليمها .. إن كان المال هو ما يقلقك ويدفعك لرفع حملها عن كاهلك فأنا مستعدة لمساعدتك"
هتف معترضًا
"لا يا بنتي .. أنا لا .."
قاطعه حسن
"وأنا في الخدمة في أي شيء تحتاجه أنت والبنات يا عم محمود لا تحمل همًا"
دمعت عيناه بتأثر لكن كرامته أبت أن يقبل صدقتهم فرفض بإصرار
"وماذا لو عملت شمس وحصلت على المال بنفسها؟"
سألته روض فنظروا لها بحيرة لتضم شمس مبتسمة
"أنا كنت أبحث عن مساعدة لي ولا أظنني سأجد أفضل من شمس بذكائها وأمانتها"
أشرق وجه الفتاة فاتسعت ابتسامة روض وعادت تلتفت للعم محمود
"الأجر مناسب جدًا والعمل أروع ما يكون وأيضًا لن تهمل دراستها وأنا سأضمن لك هذا .. هه، ماذا قلت يا عم محمود؟"
********************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا