الفصل السادس

الهروب من المعارك الخاسرة،

شجاعة وحكمة أم جُبن وحمق؟ 

ربما يختلف الحكم من الزاوية التي تنظر منها للأمور،

لكن ماذا عن هروبها هي؟

ماذا يُحتسب؟

 

أغلقت راقية مصحفها وأعادته مكانه قبل أن تتمدد على فراشها بشرود. صلاتها ومصحفها فقط كانا سلوانها في سنوات سجنها الطويلة لكنّ عقلها يواصل لومها دون توقف، يخبرها أنّ الله لا يرضى عن هروبها كل هذه السنين.

لكنّها ما عادت تملك أي قوة لمزيد من الحرب والمقاومة، خسرت كل شيء مع خسارتها لأولادها الثلاثة واحدًا بعد الآخر.

الغصة في قلبها شديدة والهوة عميقة للغاية، الألم ينهشها في صحوها وليلها، ضميرها يعذبها لأنّها تركت أحفادها يحاربون بمفردهم وهربت، لكنّها تعبت، انكسرت ولم يعد في داخلها نفس.

 

مدت يداً مرتجفة تخرج ألبوم الصور من الدرج، بينما تفكر في سالم وعودته التي أخرجتها قليلًا من سكونها، سالم حفيدها الأول وأكثر من خافت على مصيره.

عرفت منذ لحظة حمل جده بين يديه، ومنحه اسمه، عرفت أنّه وضع عليه آماله وسيجعله نسخة منه. حاربته في صمت وجاهدت لتزرع في حفيدها مبادئ أخرى غير التي كان يلقنه إياها كما فعلت مع أبنائها من قبل، بذلت ما لديها لتغرس بعض المقاومة فيهم، علّهم ينجحون فيما فشلت فيه، النجاة والحرية من هذا الأسر.

هل كانت هي السبب في موتهم؟ هل كانت أفكارها هي ما دفعتهم للتمرد الذي انتهى بموتهم كما اتهمها هو؟

سالت دموعها وعيناها تمر على صورهم، ابتساماتهم وهم صغار، ابتسامات بهتت مع كل سنة تمر، يكبرون فيها ليعرفوا واقعهم ويفهموا أنّهم مختلفون، مقيدون، يحكمهم أب مسيطر لا يعرف كيف يمنحهم العاطفة وسراي تحكمه لعنة استبداد وقسوة.

 

لامست وجه ابنها يحيى، أول فرحتها ونسمة الرحمة التي امتدت من القدر لتمنحها بعض السعادة، بقدر ما كرهت أباه أحبته هو وتمنت لو تبعده عن قسوته وتربيه على الحب والرحمة.

انتقلت عيناها بعد ثوان لابنها الثاني عامر وتجدد الوجع على مصيره هو وأسرته. لم يبق منه سوى ذكرى واحدة، إيهاب حفيدها الذي كادت تخسره هو الآخر، ولكم تؤلمها رؤيته، كلما رأته تذكرت مصيبتها في ابنها، تذكرت ذنبها وعجزها عن إنقاذه وأسرته.

ضمت الألبوم إلى صدرها ودموعها تسيل بحرارة، عادت تبعده بعد برهة لتنظر لحسرة قلبها وآخر عنقودها التي رحلت في زهرة شبابها، حسناء، ابنتها التي كسرتها بموتها وحُرِمت من وداعها بفرمان ظالم منه.

"آه يا راقية آه. ليتكِ متِ قبل هذا وكنتِ نسيًا منسيًا"

آهة محملة بالوجع واللوعة ترددت من أعماقها

"خسرتِ يا راقية، خسرتِ وانتصر عليكِ،  انتصر وحطم غروركِ وكسر روحكِ"

انتبهت على طرقات هادئة تتردد على باب سجنها الذي اختارته طوعًا

"جدتي، أنتِ مستيقظة؟"

كان سالم، خفق قلبها براحة لم تزرها لسنين، راحة لم تعرفها إلا حين عاد، وأعاد لها بعض القوة.

ناداها مجددًا فأسرعت تمسح دموعها وتضع الألبوم أسفل وسادتها، ضغطت زر الجرس تأذن له، ففتح سالم الباب وأطل بابتسامته التي خففت آلامها قليلًا.

"حمداً لله أنتِ مستيقظة"

ردد وهو يقترب ليجلس جوارها ومال مقبلًا جبينها بحب

"كيف حالكِ اليوم؟"

تنهدت وهي تربت على خده بينما نظر هو بقلق إلى عينيها

"هل كنتِ تبكين؟"

غالبت دموعها ورمقته في صمت مؤلم، فزفر بحرارة واقترب يضمها إليه

"أنا آسف، ليت بيدي محو السنين التي رحلتها وتركتكم بمفردكم. ليتني لم أرحل"

رفعت يدها تربت على قلبه تخبره أنّه ليس ذنبه، هو قدرهم جميعًا، كيف تلومه وهي من دفعت أولادها قبله للهرب لكنّهم جميعًا عادوا موتى؟

وكم خشيت أن ينكسر ويعود مرغمًا كما فعل أبوه.

"ماذا أفعل مع رواء يا جدتي؟ أشعر أنني أدور في متاهة"

انتبهت على صوته بينما يميل ليضع رأسه على صدرها، ضمته برفق بينما تتذكر تلك اللحظة في الماضي حين أتى ليشاركها سره،

"عشقت يا جدتي"

جملته التي هزت قلبها بسعادة مبتورة، كانت تعرف جيدًا ماذا سيحدث حين يعرف جده.

أطرقت تنصت له بينما يكمل بتحشرج

"لم أعمل حساب عودتها، قلبت كل موازيني وخططي… عاادت في أسوأ وقت، والأسوأ أنّها عادت كارهة. عيناها صارتا باردتين قاسيتين، لم تعد رواء التي أحببتها، لم أعد أر حبها في عينيها"

وزفر بحرقة فواصلت مسحها على شعره ودموعها تترقرق بألم

"ماذا أفعل؟ والدها يرفض لقائي وأعرف أنّه يحملني ذنب ما أصابها. هي نفسها تكره رؤيتي، كما أن جدي عرف بلقائنا وسيقلب الطاولة عليّ قريبًا"

رفع رأسه بعد لحظات قائلا بحزم استعاده سريعًا

"لكنني لن أسمح له بتفريقنا مرة أخرى، لن أدعه ينتصر هذه المرة"

احتضنت وجهه بكفيها ونظرت في عمق عينيه، أومأت بدعم صامت، وقلبها يدعو له رغم خوفه مما تدرك جيدًا ما ينتظره مع جده. هو لم يشفق لحظة وهو يدمر حبه كما فعل سابقًا مع أبيه، حين فرقه عن حبيبته وزوجه لسمية محطمًا ثلاثة قلوب بريئة بضربة واحدة.

سالم الكبير سيفعل ما يلزم حتى لا يرى قصة حب واحدة في هذا السراي.

*********************

 

تنهدت رواء بأسى  وهي تضع بعض ثياب سمراء في الحقيبة لتأخذها لها، ما زالت تشعر بالقلق وتخشى أن يكون الضرر أكبر ولا تفلح العملية في إصلاحه.

"ﻻ اعتراض على حكمك يا الله"

همست ويدها تلامس وسادة سمراء قبل أن تمدها لتلتقط كتابًا قرب الفراش، كان آخر ما قرأته سمراء قبل الحادث، وقد طلبت منها إحضاره لتكمله.

اختنقت بعبراتها بينما تفتحه على الصفحة التي توقفت عندها، هل ستستطيع إكماله بنفسها يومًا؟

نهضت لتضعه في الحقيبة ونظرت لمكتبتها الصغيرة قبل أن تقرر اختيار بعض الكتب الأخرى. كانت تتناول أحد الكتب حين صدمت آخرًا فأسقطته.

انحنت لتلتقطه، وتجمدت حين لمحت طرف صورة يخرج من بين أوراقه، أخرجت الصور بيد انتقلت رجفتها لسائر جسدها بينما تحدق فيها باختناق.

كيف ما زالت هذه الصورة هنا؟ لقد مزقت كل صورها وأحرقتها، دمرت رواء القديمة وذكرياتها، فكيف بقيت هذه؟

توقفت غصة مؤلمة بحلقها وهي تنظر لابتسامتها الحمقاء بينما تضم الجرو الصغير الذي أحضره لها ذلك اليوم الذي فاجأها فيه باحتفال لعيد ميلادها يضمهما وحدهما.

ارتجفت أكثر والصورة تنبض عائدة إلى الحياة حتى خُيل إليها أنّها تشعر بالنسيم الذي لامسها بينما تجلس أسفل شجرة معزولة في حديقة النادي وسالم يلتقط لها تلك الصورة.

اختنقت أكثر وعيناها تتوقفان على شعرها الأسود الطويل جدًا.

"كنت أسمع أن السحر الأسود شرير، أول مرة أعرف أنّ هناك سحرًا أسود طيبًا"

همسات غزله ترددت في أعماقها، تجذبها أكثر وأكثر لتلك اللحظات، إلى عمق نظراته التي كانت تأسرها بلا أدنى مقاومة.

إلى مشاعر الضياع التي جذبتها وأغرقتها معه فكادت تنسى كل شيء حين مال نحوها مأسورًا في تلك اللحظة المسروقة من الزمن.

كادت تغرق في عمق الذكرى لولا سقطت دمعة من عينها على الصورة، أغمضت عينيها تطبق صندوق الذكريات بكل عنف وتمحو لحظة الضعف الخائنة.

مسحت دمعتها قبل أن تقلب الصورة بضيق، كارهة رؤية نفسها فيها، كادت تمزقها لكنّها توقفت حين رأت خط سمراء المميز.

دمعت عيناها بشدة وهي تقرأ المكتوب

"إلى شقيقتي الغالية رواء 

ربما تغضبين إن عرفتِ باحتفاظي بصورتكِ هذه لكنني لست نادمة. أنا أحب رواء هذه كما أحب رواء الجديدة، وليتكِ  أنتِ تحبيها من جديد. أرجو أن تغفري لها فهي تستحق

سامحيها وعودي فأنا أنتظركِ"

سقطت كفها بالصورة بينما تحدق في الفراغ للحظات طويلة، ولأول مرة منذ سنوات، تترك دروعها وتستسلم للبكاء.

************************

 

الشروخ التي ظلت تتراكم لسنوات على جدران فقاعتها، تعمقت بقسوة حتى تهشمت كأنها لم تكن. الشرنقة التي جمدت خلفها مشاعرها كانت تنحل خيوطها يومًا بعد يوم حتى أتت جيلان لتفجر بكلماتها الحمقاء كل شيء فتجد نفسها فجأة عارية من حصونها أمامه.

تجلس في مقعدها متراخية الأطراف تحدق في الفراغ كصدفة خاوية. 

روحها غادرتها لتحلق حولها مسترجعة سنينًا مضت وحماقة ارتكبتها حين أحبت وحين تخلت وحين وافقت على زواجها من آخر مدعية أنها لم تحبه أصلًا ولم تنكسر بعد تخليه عنها كأنها ما مرت يومًا بحياته، 

حماقة تلو حماقة أوصلتها إلى هنا.

تتذكر قرارها نسيانه كما فعل هو، بضعة شهور مرت على سفره دون أن يودعها حتى، توعدته أن تجتثه من داخلها. لن تبكي خلف رجل ترك وتخلى.

بضعة أشهر قضتها تتعافى منه، نهضت واقفة تتحدى انكسارها، عادت للجامعة، تارا كتلة النشاط التي عرفوها، 

ردت على أسئلتهم الفضولية بمرح، تجاهلت كلامهم عنه كأنّها لا تعرف ذلك الشخص الذي يقولون أنّه كان أقرب صديق لها.

كان كل شيء بخير حتى ذلك اليوم الذي أتت فيه أمها تزف إليها بشارة خطبتها. رفضت في الحال وتشاجرت مع أمها التي لم تكن لتضيع فرصة زواجها من عائلة المنصوري الشهيرة. أمها ذات الطموح الشره، حاولت معها باللين مرة وبالشدة تارة.

يقولون أن الزن على الآذان أمر من السحر ولم يخطئوا، مع الأيام بدأت تميل، أخرست ذلك الهمس الأحمق داخلها يخبرها أن تنتظر إيهاب، ربما سيعود.

لم تكن لتسمح لنفسها بمزيد من الحماقة، وافقت لتقتل أملها في انتظاره، وحين أتى أسامة ظنت أن القدر يمنحها الفرصة لتنسى وتُشفى من إيهاب.

لا تنكر أنها أعجبت بأسامة، أي فتاة مكانها ستفعل. شاب به كل المواصفات التي تحلم بها كل فتاة. ماذا تريد أكثر من هذا؟ 

الحب؟

 الحب وهم لا مكان له سوى الروايات.

ارتاحت له ووافقت، لكنّ شيئًا داخلها ظل يخبرها أنّ هناك خطأ، شيء ناقص.

ظنت ترددها بسبب إيهاب فأخرسته بقوة ومضت الأيام ترسم الأحلام لحياتها المقبلة برفقة أسامة، رمت إيهاب وذكرياته خلف ظهرها لتخلص للرجل الذي ستتزوجه. 

العوض الذي ظنته مكافئة القدر على قوتها وانتصارها في حربها ضد قلبها الضعيف الأحمق.

لم يكن عوضًا…

ولم تكن مكافأة.

كانت صفعة احتاجتها لتفيق من أوهامها لكنها نالت اثنتين؛ واحدة ليلة زفافها على أسامة والثانية...

هزت رأسها توقف نفسها عن استعادة تلك الذكرى التي تجعلها تمقت نفسها بشدة.

 

تركزت نظراتها على الفراش بخواء، فارتسم خيالها هناك ساخرًا منها ومن أحلامها. 

تجسدت الذكرى أكثر حتى شعرت بكل تفصيلة منها حية…

**

تجلس مطرقة، تشبك كفيها بتوتر فوق حجرها تحاول إيقاف رجفتهما، تشتد قبضتاها على قماش فستانها الأبيض بينما تشعر به يقترب حتى وقف أمامها، مضت لحظات لم تجرؤ خلالها على النظر إليه.

سمعته بعد لحظات يناديها فلم تجد بُدًا من رفع عينيها له، وجهه الوسيم المطل عليها يخبرها أنها لا تحلم. هذه ليلة زفافهما، ماذا تفعل بخجلها هذا؟

يجب أن...

"ﻻ بد أنكِ متعبة، بدلي ثيابكِ ونامي. أنا سأنام على الأريكة في الصالة"

شفتاها انفرجتا بسؤال حائر كتمته سريعًا بينما تناول هو بيجامته وأسرع ينوي المغادرة. لم تشعر بنفسها وهي تناديه ليقف، لم يفتها تشنجه، انقبض قلبها بتوجس وإحساس مخيف بدأ يعبث داخله.

 التفت لها أخيرًا، ونظرة واحدة لعينيه جعلتها تدرك أنه لا يتركها لترتاح ولا تفهمًا منه لخجلها. 

لم تعرف من أين أتتها الجرأة لتسأله لماذا يترك غرفتهما، وصمت هو لبرهة زادتها شكًا وتوجسًا، بدا وكأنما جبلٌ ثقيل يجثم على قلبه لم يلبث أن قرر رميه، فتنهد بحرقة 

"أنا آسف"

هل قال آسف أم أنها توهمت؟ أكد لها سريعاً وهو يكرر

"أنا آسف جدًا، لا أعرف كيف أخبرك بهذا، والآن بالذات"

عيناه صفعتاها من أحلامها الوردية بما تراه داخلهما، تخبط، ندم و... رفض

"علام تتأسف؟"

هل كان هذا صوتها؟ نعم، وجدته أخيرًا لكنه خرج شاحبًا متحشرجًا. 

انتظرت إجابته وقلبها يخبرها أنّها حتمًا لن تعجبها

"آسف لأنني ورطتكِ معي، كنتُ جبانًا ولم أستطع المواجهة. لم أستطع حتى إخباركِ ... آسف لأنكِ ضحية معركة لا تخصكِ"

قلبها تزداد رجفته، تشعر به يبكي دافعًا بالدموع لعينيها لكنها أبت أن تذرفها.

"أنا لا أفهمك. ماذا تقول؟ أنت"

"أنا أحب أخرى"

هتفت بحرقة لفحتها..

صوت زجاج يتهشم تردد حولها…

لا، كان صوتًا داخلها لا حولها.

هي تحلم... هي ليست الآن في غرفة نومها الجديدة في ليلة زفافها، زوجها لا يقف أمامها الآن يخبرها بحبه لأخرى.

اعتُصر قلبها وهي تستمع له ذاهلة

"آسف بشدة، أعرف أنني نذل وأي كلمة ستنعتينني بها لن تشفي غليلك. أنا آسف حقًا، كنت مجبرًا"

"مجبرًا؟"

همست بصوت ليس لها فتراجع مطرقًا

"أعلم أنني أفسدت الليلة لكن لم أرد أن تنتظري ولا أن تبني أ"

صمت فأكمل عقلها، أحلاماً؟ هل بقى أحلام؟ أحلامها الوردية ترقد مهشمة أسفل قدميها، تنزف، تنعي حلمًا لم يكتمل.

ظنت أنها وجدت العوض، ستبني حياة جديدة برفقته، ستجد سعادتها.

تراجع أكثر نحو باب الغرفة كأنما لا يحتمل البقاء معها لحظة، ربما حتى لا يخون حبيبته أو ربما لا يطيقها وحسب.

الآن تفهم كل شيء، الآن كل القطع المبعثرة عادت لمكانها الصحيح وظهرت الصورة الكاملة التي تغاضت عنها طيلة خطبتهما.

"سنتحدث غدًا في كل شيء وأعدكِ سأجد حلاً يرضي كلينا"

لم تعرف كيف أومأت ليسرع هو مغادرًا، رفعت رأسها بعد برهة ليصفعها انعكاسها في المرآة، بفستانها الأبيض وتاج شعرها وطرحتها، فستان زفافها الثمين الذي حسدتها عليه كل الفتيات بينما تزف في حفل زفاف لم يقل عنه إبهارًا...

الآن ماذا؟

الآن هي... عروس منبوذة، عروس أحلامها الوردية ممزقة أسفل قدميها، عروس محطمة القلب...

ضحكت فجأة وانعكاسها يسخر منها، 

كيف ظنت بهذه البساطة أن الأمور ستسير كما تتمنى؟

أرادت بداية جديدة فأعادها أسامة إلى نقطة الصفر، من نقطة بعيدة في أعماقها انتفض خيال إيهاب ليسخر منها هو الآخر، وقف أمامها ضاحكًا شامتًا، لم تحتمل.

صاحت بقهر وهي تنتزع طرحتها بعنف وتلقي بها جوار أحلامها الصريعة. ضحكات إيهاب ترتفع أكثر، خيال أسامة انضم إليه يضحكا منها، من حماقتها وأحلامها البريئة.

ماذا أرادت أكثر من شخص يحبها ويحتويها؟ 

هي تعترف.

كانت تريد الحب ولو كان وهمًا، كانت تريد الابتعاد عن ذلك البيت البارد الذي لم يحبها فيه أحد. ظنت نفسها ستجده مع إيهاب لكنه كسرها. 

هذه المرة رسمت الأحلام مع أسامة فأتى ليذبحها ليلة زفافهما.

يحب أخرى، تزوجها مجبورًا، وهي البائسة التي لن يحبها أحد. لم يحبها أبواها فكيف تطلب من الآخرين أن يحبوها؟

أرادت الهرب من واقعها المر فاندفعت بعماء نحو واقع أمرّ.

********

واقعها الذي انتزعها بقسوة من ذكرياتها،

مع انفتاح الباب واندفاع أسامة المفاجئ بوجه  مكفهر مشتعل بغضب مكتوم. 

دخل إلى غرفته صافعًا بابها بقوة رجت المكان. حدقت في الباب المغلق بقلق وتردد، 

هل تذهب لتسأله ما به؟

ترددها ضاع مع أول صوت تهشم تلاه صرخته الغاضبة المقهورة، تواصلت أصوات التهشم فأسرعت نحو الباب. حاولت فتحه لكنّه كان مغلقًا من الداخل، طرقت تناديه بجزع

"أسامة... أسامة ماذا تفعل؟"

لم يرد، واصل تحطيم الأشياء بالداخل، يصرخ بقهر، دمعت عيناها بعجز وعادت تناديه بتوسل 

"أسامة أرجوك. افتح الباب، توقف عما تفعله وتحدث إلي"

***************

صوتها كان يصله بصعوبة بينما هو في غمرة غضبه، كلمات جده تتردد دون رحمة تلهب حريقه، جده الذي لم يترك فرصة واحدة طيلة عمره ليقهره ويضعه في المكان الذي يراه يستحقه.

مهما فعل لا يرضى عنه.

لكم الحائط بيمينه، ولم يشعر بألم وهو يواصل لكماته، الألم داخله كان أشد قسوة، هل هناك أسوأ من قهر الرجال؟

رجل في عمره، زوج وأب، رجل يحترمه الجميع خارج جدران هذا السجن، يقف عاجزًا عن الدفاع عن حقه، يقف ذليلًا عاجزًا عن توجيه الأذى لجده، عاجزًا عن إخباره أن يذهب للجحيم بتهديداته.

لماذا؟

لأنه يعرف قسوته وقلبه الميت، كيف يواجهه وهو يعرف أنها حياتها ستكون الثمن؟ سيخسرها وسيخسر ابنته أيضًا.

 

"هذا تحذيري الأخير يا أسامة، ستبتعد عن تلك الفتاة نهائيًا... لو حاولت الاقتراب منها مجددًا ستكون نهايتها فهمت؟"

 

"أسامة، افتح الباب أرجوك"

صوت تارا يتسلل من بين السواد المحدق به ممتزجًا بصوت جده، طرقاتها تزداد إصرارًا على الباب

"أسامة أرجوك، دعنا نتحدث"

سقط على ركبتيه، يضرب رأسه بكفيه يريد إخراس صوت جده الذي يواصل داخله دون رحمة

"ابتعد عنها وإلا سيكون آخر يوم في عمرها، إن عصيتني وتزوجتها ضد إرادتي لن أرحمها. أما أنت فلن يكون لك مكان هنا، وابنتك لن تراها في حياتك مطلقًا"

الطنين يزداد بعقله وقلبه وصوت تارا الباكي يحاول اختراق الحجب إليه

"أسامة، أتوسل إليك"

رفع رأسه محدقًا في الفراغ بعينين دامعتين 

"افتح الباب يا أسامة، حلفتك بالله. أعرف أنك لا تريد رؤيتي ولا الحديث معي لكن... أرجوك، افتح ودعنا نتحدث"

*********

 

مضت لحظات طويلة ظنته لن يستجيب لها لكنّها تراجعت خطوة حين سمعت المزلاج يتحرك قبل أن ينفتح الباب. توقف قلبها وهي تنظر لهيئته، وجهه الشاحب وعينيه، ثيابه المشعثة وكفه الدامية. شهقت وهي تنحني لتلتقطها

"ماذا فعلت يا أسامة؟"

تفحصت يده بجزع ورفعت عينيها إليه ليحطمها الضياع المطل من عينيه. كان مقهورًا، وما أصعب أن ترى رجلًا مقهورًا.

كل ما هو فيه الآن بسببها، لو أنّها استمعت إليه، ربما كان كل شيء تغير، 

هما أسيران الآن بسبب حماقتها هي.

"أنا آسفة"

شهقت باكية، لكنّه ظل يتطلع إليها بخواء، لم تحتمل رؤيته هكذا فاقتربت تحيط عنقه بذراعيها هامسة بمرارة

"أنا آسفة، كل هذا بسببي. أنا آسفة"

نزل على ركبتيه يشدها معه حين لم تتركه، ظلت متعلقة به تضمه كأمٍ رؤوم، تبكي معه، وتستمع لزفراته الحارة التي يكتم بها بكاءً حرقه من الأعماق

"سامحني، أنا آسفة يا أسامة"

*******************

 

هل هناك أسوأ من أن تدرك فجأة كم كنت أعمى وأحمق؟ 

أن تكتشف أنك كنت تسير في عماء ثم تنكشف الحجب عن عينيك وتصفعك الحقيقة التي كنت عنها غافلًا؟

ليته لم يعرف، ليته ظل على عماه. إن كان يتعذب سابقًا ألف مرة فعذابه الآن صار أضعافًا.

منذ عودته من الحفل وهو يستعيد ما حدث كأنه حلم، يكرره على عقله عله يستوعب الأمر.

كان يجلس على حافة فراشه مطرقًا ورأسه بين كفيه، يكاد ينفجر، بينما لحظة هربت منه إلى أسامة تتكرر مضاعفة عذابه، احتواء أسامة لها، كيف احتمت فيه ودفنت نفسها بصدره.

رفع رأسه ينظر بتشتت إلى محتويات دولابه التي بعثرها بعد عودته من الحفل، حين أخرج ألبوم الصور الذي لم يطاوعه قلبه على حرق ذكرياتها منه فأخفاها مدعيًا أنها ما عادت موجودة.

أخرج كل الصور التي تظهر فيها، بعضها كان صورًا مشتركة من رحلات ذهبا فيها مع زملاء الجامعة وبعضها كانت لهما وحدهما، كم نزف قلبه وهو يتأمل صورها، ابتسامتها الساحرة وانطلاقها المرح،

انفتح صندوق ذكرياته على مصراعيه هذه المرة دون أن يوقفه صوت ضميره كالسابق لينسف معه ستار غفلته وغبائه. دار الشريط مستعيدا ذكرى كل صورة.

كانت تنظر إليه، كل صورة كان هو مشغولًا مع غيرها كانت عيناها عليه ونظراتها قالت كل شيء.

من قال أن الاقتراب من شمس الحقيقة يحرق لم يخطئ.

هو اقترب وكشف الستار، وكان يجب أن يهوي محترقا.

تارا تحبه، كانت تحبه.

وهو كان أعمى. كانت تحبه.

تكررت الكلمة في ثنايا عقله تزيد احتراقه لينحني ممسكا برأسه، ضرب رأسه بكفيه مرارًا يشتم نفسه بلا توقف.

ارتمى على فراشه شاعرًا بحمى تتملكه ومئات الصور تطارده، كان الأمر أكبر من احتماله. قضى الليل طافيًا في نقطة بين صحو ويقظة يتقلب تارة في ذكرياته معها وتارة في ذكريات طفولته المريرة، وذكرى ذنب عظيم ارتكبه في نوبة كراهية وتمرد ما زال يدفع ثمنه حتى اليوم ويبدو أنه سيظل يدفعه حتى النهاية.

 

ضرب بكفيه على رأسه يوقف شريط أفكاره ونهض واقفًا، لمح صورته وهو يمر أمام المرآة فبدا لنفسه كشبح رجل دفن حيا.

تجاهل رنين هاتفه الذي يتردد منذ يومين تغيبهما عن الشركة.. بالكاد أجاب اتصال كارمن في اليوم التالي حين أرادت الاطمئنان عليه بعد الحالة التي انصرف بها ليلتها، وادعى أنه سافر حتى لا تأتي لزيارته.

عشرات المكالمات والرسائل من أسامة، من أين يأتي بالجرأة ليرد؟ ليواجهه، بماذا سيبرر غيابه وحالته؟ أسامة لم يكن ابن عمه وحسب كان أخاه وصديقه الوحيد لسنوات.

أسامة الذي يعرف جده جيدا مدى قربهما وصداقتهما ولهذا اختاره هو بالذات ليزوجه تارا، اختار من يعتبره أخاه ليمنحه الفتاة التي يحبها، وانتصر جده في النهاية.

انتصر وما زال.

*******************

 

وقفت رويدا مكتفة ذراعيها تنقل بصرها ببرود بينه وبين الأدوات والصناديق التي أحضرها لجناحه 

"لم أفهم"

قالت ببرود فابتسم بسماجة

"كما سمعتِ، ستنظفين هذا الجناح كله. أريده كما كان"

وأشار إلى الملابس المرمية والتي ازدادت حالتها سوءًا بعد أن فشّت فيها غلها

"وهذه الملابس المسكينة ستضعينها في الصناديق ريثما تتفرغين لإصلاح ما يمكن إنقاذه منها لأرسله للمحتاجين"

واتسعت ابتسامته المستفزة لأعصابها

"ربما تنالين منهم بعض الدعوات لتعينكِ على ما ينتظركِ... وكل هذه الأشياء المحطمة تضعينها في الصندوق الآخر، وبعد أن تنتهي من التنظيف سأرى ما يمكنكِ فعله بعدها لتقضي وقت فراغكِ"

اندفعت نحوه بغضب وهي تركل الثياب الممزقة في طريقها

"هل تمزح معي؟ أي جناح هذا الذي سأنظفه؟ من تظنني؟ خادمة عندك؟"

"ماذا؟ هل لدى السنيورة أي اعتراض؟ لا أعتقد نّكِ كنتِ تعيشين في برجٍ عاجي طيلة عمركِ"

حدجته بنظرات متوحشة ليردف بسخرية

"أعرف كل شيء عن ماضيكِ  يا ماريبوسا  فلا حاجة للادعاء أمامي"

"اللعنة عليك"

صرخت وهي تندفع لتمسك فازة سبق ونجت من إعصارها السابق وألقتها أرضًا لتتهشم بعنف 

"تفضل هذا"

لم تهتز له عضلة، فاندفعت إلى الدولاب تخرج ما تبقى من أحشائه

"وهذا أيضًا .. وهذا... تريد جناحًا نظيفًا... تفضل"

كتّف ذراعيه يراقبها ببرود وهي تواصل إفساد المزيد

"تفضل هذه النظافة، هل تعجبك؟ أرني كيف ستجبرني على تنظيف جناحك القذر"

وقفت تلهث في النهاية ليقول ببرود متناه

"جيد، لقد ضاعفتِ مجهودكِ"

وتحرك ليغادر مكملاً بعجرفة

"سأمنحكِ حتى نهاية اليوم وإلا فأنتِ حرة"

"أجبرني"

التفت لها مبتسمًا واشتعلت أعصابها أكثر حين حرك بصره فوق جسدها بوقاحة

"لا تغريني بالمحاولة"

"أيها الـ... أقسم أنني"

قاطعها مشيرًا

"لمصلحتكِ ابدأي الآن .. وإلا"

"وإلا ماذا؟ هه، أخبرني ماذا ستفعل"

ابتسم ببرود

"وإلا لن تتناولي طعامًا... حتى لو انتظرت أسبوعًا أو فضلتِ الموت جوعًا. أنتِ وخياركِ"

تسارعت أنفاسها بوحشية

"حقير... سأجعلك تندم على كل هذا حتمًا"

ضحك مستهزئًا بها

"أحب عنادكِ هذا... يزيد اللعبة تشويقًا وإثارة"

تلفتت حولها واندفعت تمسك زجاجة عطر ألقتها عليه 

"فلتختنق بإثارتك يا معتوه، خذ... هاك المزيد من الإثارة"

تفادى الزجاجة ببساطة مستفزة وأخبرها

"هيا، ابدأي في الحال إن أردت الطعام، تذكري أنّكِ تحتاجين كل قواكِ لتواجهيني"

رمقته بغل قبل أن يندفع لسانها بنوبة من الشتائم الأسبانية مسحت ابتسامته وجعلته يندفع ليشدها من معصمها

"ماذا قلنا عن لسانكِ البذيء هذا؟"

هتفت من بين أسنانها

"اترك يدي .. قلت اترك يدي"

لم يستجب لأمرها بل أجبرها على مواجهته ممسكًا ذقنها بقسوة

"لنعقد اتفاقًا يا سنيورة... كل شتمة بذيئة ستخرج من شفتيكِ الساحرتين هاتين سآخذ مقابلها عشر قبلات"

اتسعت عيناها وصفعت يده 

"لن تجرؤ"

كانت تعلم أنّه يجرؤ وأكثر، فلم تر أحدًا بوقاحته من قبل 

"جربيني"

تراجعت بتوتر مع اقترابه

"إياك أن تقترب مني. سأقتلك، هل تسمع؟ سأقتلك"

لدهشتها تراجع دون المزيد من الوقاحة 

"إذن احتفظي بلسانكِ لنفسكِ  يا سنيورا"

فتحت فمها لتشتمه لكنّها منعت نفسها واكتفت برمي بنظرات شرسة غمرته بها بينما يغادر، سمعت صوت المفتاح في الباب فحررت شتائمها واندفعت تركل كل ما يقابلها. 

دقائق قضتها في مزيد من التدمير انتهت بسقوطها على الأرض تلهث، تتحسر على حالها، منذ أول يوم التقته وهي تشعر أنّه خطر وأنّه يترصدها هي بالذات. ما الذي سيجعله يدور بهذه الطريقة ليستولى على مشروعها ويفسد لها كل خططها؟

خطط ولعب من خلف الستار، وبعد أن كانت مسافرة باطمئنان وقد تركت كل شيء على عاتق جون لينهيه وحين لم يبق إلا إنهاء العقود اتصل بها ليفاجئها أن الرجل تراجع وفرض شروطًا مجحفة.

عادت تنوي مقابلة الوقح الذي تدخل ليفسد حلم حياتها وليتها ما قابلته. تلك الدقائق المعدودة في مكتبه جعلتها تشعر بنفسها فريسة دلفت بقدميها لفخ صياد، ولم تستطع لأيام طرد شعورها بالخوف والقلق من ناحيته.

لعنتها بدأت منذ ذلك اليوم، قلب حياتها وانتهى بها الحال تشعر بنفسها مطاردة لكنّها لم تفكر أن يكون هو نفسه متعقبها، حتى كشف عن قناعه وأتى بها لسجنه.

تضاعفت حرقة القهر بقلبها فألقت قطع الملابس الممزقة بعيدًا وهي تعاود شتمه بحقد، وصوت معدتها الجائعة يزيدها حقدًا عليه، دمعت عيناها وهتفت بكراهية 

"ستندم على كل هذا، لن أتركك تفلت"

***********************

 

دندنت جايدا بنعومة بينما تزين قالب الكعك الذي صنعته، ورددت مادحة نفسها

"فنانة يا بنتي والله، كان يجب أن أحترف صناعة الحلوى"

وتراجعت تتأمل صنع يديها وصفقت بحماس

"رائع .. ماذا بقى أمامنا؟"

أسرعت لتتأكد من ترتيب كل شيء وأشعلت الشموع التي تتوسط المائدة ثم نظرت حولها تتأمل الزهور والقلوب التي وزعتها في المكان. تنهدت برضا ثم عادت إلى المطبخ لتضع الكعكة في الثلاجة متمتمة

"ستنتظرين هنا يا حلوة، أنت تحليتنا الليلة"

خلعت مئزرها وغادرت متجهة إلى غرفتها لتتجهز، وحين انتهت تراجعت أمام المرآة تتأمل فستانها وزينتها وابتسمت... كل شيء جاهز، بقي فقط أن يأتي يوسف.

صحيح أنّهما تصالحا بعد شجارهما الأخير وتعترف أنّها ضغطت عليه رغم معرفتها بالوضع وبمعرفتها من البداية بما سيقابلهما لكنها ما زالت متألمة وهو ما زال متغيرًا.

ربما احتفال صغير وبعض السعادة يعيدان الوضع لطبيعته بينهما.

تحركت لتتصل به وحين سمعت صوته هتفت بلهفة

"جو حبيبي. لماذا تأخرت؟ أيـ .."

شحب وجهها وهي تستمع إليه، جلست ببطء على حافة الفراش

"نعم؟ ماذا يعني لن تأتي؟"

"آسف يا جيجي، حدثت بعض المشاكل هنا ولا يمكنني القدوم الآن، ربما غدًا"

تبخرت سعادتها تمامًا

"ربما؟ يوسف... لقد وعدتني، كيف لن تأتي؟"

"جايدا، أرجوكِ، لا تزيدي تعبي. أنا بي ما يكفيني"

صاحت بغضب

"ولا ما يكفيك ولا ما يكفيني... أنا اكتفيت وتعبت يا يوسف"

"جايدا"

انحدرت دموعها في لحظة مع هتافه

"جايدا، أرجوكِ"

"لا فائدة من كل هذا، لا فائدة من كل محاولاتي.. أنت لا تهتم بي ولا تتوقف عن جرحي"

رقق نبرته مهادنًا

"حبيبتي، أنا آسف جدًا، سأعوضكِ أقسم لكِ "

قاطعته بحدة

"ﻻ تقل حبيبتي... أنت لا تحبني ولم تفعل أبدًا، أنا المخطئة لأنني ما زلت آمل شيئًا منك"

ناداها مترفقًا لكنّها هتفت قبل أن تغلق

"اذهب يا يوسف واهتم بشؤونك وانس أمري تمامًا، اذهب"

وأغلقت الهاتف ورمته وهي تنفجر باكية

"أنا المخطئة،  أنا جلبت كل هذا على رأسي"

اندفعت إلى الخارج لتتوقف أمام المائدة، حملت فازات الزهور وألقتها أرضًا بانفعال قبل أن تحمل أطباق الطعام إلى المطبخ وألقتها في الحوض 

"أنا الغبية وأستحق كل هذا"

عادت إلى الغرفة وانهارت على الفراش، دافنة وجهها بين كفيها تبكي بحرقة... كيف فعلت هذا بنفسها؟ أين كان عقلها؟

أين دفعها فضولها الأحمق وأوقعها قلبها؟

ذكرياتها مع يوسف من البداية إلى لقائهما الأول إلى اللحظة التي تهورت فيها ووافقته جرت كشريط فيلم سريع أمام عينيها.

"أستحق كل هذا"

همست وهي تضرب على قلبها باكية بينما عقلها يذكرها أنه حاول إنقاذها لكنها أطاعت قلبها الأحمق.

عادت ذكرى تلك الليلة التي كادت تصل بهما إلى النهاية، حين كانا في حفل لأحد أصدقائه ورافقته إلى هناك.

حين انصرفا في وقت متأخر وأوصلها إلى شقتها، خطأ... لحظة ضعف وغباء.

رفعت يدها بارتجاف تلامس شفتيها تستعيد لحظة قبّلها يوسف لأول مرة واستسلمت هي بضعف لكنها أفاقت مع تماديه لتدفعه عنها بعنف.

حاول الاعتذار لكنها لم تستمع، بكت واتهمته أنّه عاملها هكذا فقط لأنّها تربت في الخارج وظن أن تساهلها معه واستسلامها السريع أمامه يمنحه الحق فيما فعل.

رحل مكررًا اعتذاره وندمه لكنه لم يعلم السبب الآخر لانفعالها ذاك... 

كان شعورها المتأخر بالندم على الظهور في حياته، على القرار المتسرع الذي دفعها رغم كل المحاذير أن تقطع طريقه وتتعمد إيقاعه في حبها.

لم يكن من المفترض أن تدع فضولها ورغبتها في الاقتراب من ماضيها المحرم والممنوع الذكر يقوداها إلى هذه النقطة.

لم يكن من المفترض أن تقع في حبه.

وكان يجب بعد تلك الليلة التي راجعت فيها نفسها وفكرت فيما ينتظرها حين يعرف بهاء بما فعلت، أن تنفذ قرارها وترحل.

ما كان يجب أن تستسلم لقلبها حين منعها يوسف من السفر ما أن علم أنها عائدة إلى الخارج.

ما كان عليها أن تعود معه والأهم... 

ما كان يجب أن تضعف مجددًا وتوافق على زواجهما بهذه الطريقة وتثق بوعده أن تنتظر معه حتى يرتب أموره، إما يقنع جده بزواجه منها أو يسافرا معًا إن فشل الأمر.

بهاء سيعرف... أو هو بالتأكيد عرف ولن يتأخر في القدوم.

ربما ما يؤخره فقط هو انشغاله في تلك الدولة التي سافر إليها قبل شهر في عمل شديد الأهمية.

سيعود وسيغضب حتمًا ولا تعرف كيف سـ...

انقطعت أفكارها مع رنين جرس الباب، نسيت كل ما كانت تقوله لنفسها للتو، كل غضبها تبخر ورفرف قلبها

"لقد أتى"

ربما كان يمازحها فقط ليفاجئها،

مزاحه أحمق لكنّها ستسامحه… كالعادة.

مسحت دموعها ووقفت أمام مرآة الصالة تعدل من شعرها الذي تشعث وأسرعت تفتح الباب بابتسامة واسعة

"كنت أعرف أنني لن"

شحب وجهها وهي تحدق في الوجه الواقف أمامها... هل استدعته بأفكارها بهذه السرعة؟

ظلت على صدمتها حتى قال ساخرًا

"ما بك؟ لهذه الدرجة مصدومة برؤيتي؟"

"بهاء؟"

همست بشحوب، وقلبها يهوي بلا توقف مخبرًا إياها بجزع،

تمردها ينتهي هنا،

ورحلة الهرب تتوقف عند هذا الحد.

************************

ظل يوسف محدقًا في هاتفه بأسى قبل أن يعيده إلى جيبه وتقدم نحو سيارة سالم الذي ينتظره، صمت شاردًا لبرهة في جايدا قبل أن ينتبه إلى الطريق، ألقى نظرة حائرة خارج السيارة قبل أن يلتفت إلى سالم 

"هذا ليس الطريق للمشفى"

"أعرف"

تمتم بجمود زاده قلقًا، منذ طلب منه مرافقته وهو على هذه الحالة. 

توقع أن تكون رواء السبب، ربما غضب أخيرًا من معاملتها الباردة في كل مرة يذهبان فيها للزيارة، بينما نظرات شقيقه تفضحه بطريقة مغيظة.

ماذا يرى فيها مميزًا؟ حسنًا، يعترف أنّها جميلة لكن... أن يظل يحبها بعد كل ما حدث؟ لو كان مكانه ما احتمل تلك المعاملة.

عاد ضميره يصارعه كما يفعل مؤخرًا، إنّه يكرهها ولا يريد عودته إلى حياة شقيقه لكن... كيف يساعد جده ضد سالم؟

كل مرة يحاول إخبار سالم توقفه كراهيته ثم تأتي معاملتها الكريهة لتقنعه أنّ عليه تنفيذ أمر جده.

من ناحية يبعدها عن سالم ويحميه من أذاها ويحمي عائلته من تكرار مأساة الماضي، ومن ناحية أخرى يحمي جايدا وربما رضى عنه جده ووافق في النهاية على زواجهما.

ضحك عقله ساخرًا، تعرف أنّه يتلاعب بك أنت الآخر.

عاد يتأمل شقيقه بحيرة، 

تُرى أي أذى أكبر؟ رجوعها إلى حياته أم انتصار جده وسيطرته عليه؟

اختار عقله الجواب ببساطة، لا أسوأ من نجاح جده في كسر سالم وإخضاعه. منذ عاد سالم وهو يضع فيه الأمل، رغم تمرده وخروجه على جده، يعرف جيدًا مكانة سالم عنده. إنّه حفيده الأول والأثير، من كان يضع فيه كل آماله وتطلعاته ليكون خليفته من بعده.

لو سمح لجده بالانتصار فسينجح في جعل سالم مثله، إن اختفت رواء من حياته فلا بد أنّه سيصبح شخصاً آخر.

حسم تردده بسرعة ونادى شقيقه

"سالم"

أجابه بهمهمة وعيناه تتابعان الخريطة على جهاز السيارة.

"سالم، أريد أن أخبرك شيئًا مهماً"

"قل بسرعة فقد أوشكنا على الوصول"

تردد لحظة ثم أخبره

"جدي عرف بشأن الحادث وبشأن..."

"عرف بشان لقائي برواء؟"

أومأ مجيبًا

"نعم، كان يعرف كل شيء من وقت الحادث"

"توقعت هذا"

تمتم سالم قبل أن يردف ساخرًا

"المتوقع من سالم باشا"

ران الصمت حتى قطعه يوسف بعد ثوان

"هذا ليس كل شيء"

التفت له بتوجس

"ماذا أيضاً؟"

أجابه مشيحاً نظراته بحرج

"طلب مني التجسس عليك وإخباره كل ما يحدث بينك أنت ورواء"

صمت سالم لثوان انفجر بعدها ضاحكًا

"يعني... أنا تفهمت تجنيده لسكرتيرتي لتتجسس عليّ... لم أتوقع أن يجند شقيقي أيضًا"

دافع يوسف عن نفسه

"لم أوافق، لم أكن لأخبرك لو وافقت. كما أنني لم أخبره بشيء يهددك. أخبرته أنّه يبدو أنّ لا أمل من عودتكما، وأنّك تذهب فقط لأداء الواجب"

رمقه ملياً ولم ينتبه يوسف أنّهما توقفا في إحدى الحارات إلا عندما أشار له سالم

"لقد وصلنا، انزل"

التفت محدقًا في البنايات القديمة بينما غادر سالم السيارة 

"هيا يا يوسف، لا وقت لتضييعه. سنناقش ما قلته لاحقاً"

أسرع خلفه هاتفًا

"انتظر يا سالم، أخبرني فقط لماذا نحن…"

"أردتك معي لأتأكد من شيء"

والتفت مجيبًا نظراته المتسائلة

"أو شخص بالأحرى"

ووجه حديثه إلى رجال حراسته 

"قوموا بتأمين المكان، لا أريده أن يحاول الهرب"

أومأ قائدهم ليندفع سالم إلى بناية عتيقة وصعد بسرعة السلالم المتهالكة. توقف عند إحدى الشقق ورفع قبضته يضرب بابها بعنف. نظر يوسف حوله بقلق وحيرة ومضت لحظات حتى انفتح الباب وأطل وجه مألوف جعل عينيه تتسعان بصدمة

"ماذا يا أوغاد؟ لماذ..."

انخرست كلمات الرجل حين هوت قبضة سالم على فكه، وقفز سالم إلى الشقة ليتخلى يوسف عن ذهوله ويندفع خلفه. ترددت صرخة أنثوية انقطعت سريعًا والتفت يوسف ليجد امرأة تقف بملابس شبه عارية، هتف سالم دون أن ينظر نحوها

"اغربي من هنا"

أسرعت للداخل بينما تحسس الرجل فكه وهتف مندفعًا نحو سالم بجسده الضخم

"من أنت يا هذا وكيف"

أخرسه بلكمة أشد قسوة ألقته أرضًا، وحاول الاعتدال لتلتقي عيناه بوجه يوسف. قطب كأنما يحاول تذكره قبل أن تتسع عيناه بذعر حين تعرّفه، وعاد بعينيه المذعورتين سريعًا إلى سالم 

"أنت..."

قاطعه خروج المرأة لتهرب من الشقة بخوف، ونهض بعدها بترنح

"ماذا تريدان؟ كيف تهجمان عليّ في بيتي و"

اندفعت يد سالم إلى سترته ليخرج مسدسه ويشهره في وجهه

"أريد روحك أيها القذر"

شحب وجهه أكثر وردد بخوف لا يناسب حجمه

"أنا لا أعرف من تكونان وماذا"

أمسك ياقته ودفعه ليصطدم بالحائط ملصقًا المسدس بصدغه

"ربما هذا سيذكرك"

تقدم يوسف قائلًا بغضب مكتوم

"من الطبيعي ألا تتذكره، لكنك بالتأكيد تتذكرني"

نظر له بارتباك فواصل ببرود

"وبالتأكيد تعرف لماذا نحن هنا اليوم؟"

"أنا لا أعرف، أنا لم"

ركله سالم بقوة في بطنه لينحني متوجعًا

"حاول التذكر، أنا لن أرحل من هنا إلا بعد أن تعود ذاكرتك لأحاسبك غاليًا"

ارتجفت نظراته وسالم يرفعه من شعره ليواجهه

"هل تذكرت؟ دعني أعطيك اسمًا لينشط ذاكرتك... فلك المنصوري"

اضطربت نظراته وهو يردد 

"أنا لم أفعل شيئًا، كانت أوامر الباشا"

أومأ سالم وعيناه تتوحشان

"نعم، كانت أوامر الباشا"

وعاد يركله بقسوة أكبر ثم يضرب فكه بمسدسه 

"كانت أوامر الباشا لكنّك فقط من تقدم لينفذها في حين لم يجرؤ البقية على رفع إصبع نحوها"

حاول الدفاع عن نفسه

"لم يحدث، جميعهم"

تدخل يوسف صارخًا بغضب

"ﻻ تكذب، لم يمد أحد يده عليها سواك يا حقير. اقسم لو كنت وقعت في يدي لكنت مزقتك بأسناني"

هتف الرجل متوسلًا

"أقسم لم أرد إيذاءها... كما أنني... أنا دفعت الثمن، أخواكما أخذا بثأرها مني"

تقدم يوسف مرددًا

"للأسف لم أكن معهما لأتمتع برؤيتهما يهشمان عظامك واحدة بعد أخرى"

"ﻻ تلوث يديك بهذه القذارة يا يوسف، أنا كفيلٌ به"

ردد سالم ببرود وتابع وهو يخلع سترته ويلقي بها ليوسف الذي رمقه بتوجس وهو يشمر كميه

"أولا... لنجعل مظهرك مقبولاً قبل أن أبر بوعدي وآخذك لتركع أمامها، واعتذارك سيكون آخر شيء تفعله قبل أن تذهب للدار الآخرة"

قبل أن ينطق الرجل بحرف هوى سالم على وجهه بلكمة أشد عنفًا ولم يمهله ليسقط بل أسرع يرفعه ويهوي على فكه الآخر بأخرى أعنف، ويسدد بعدها ركلة، شعر يوسف أنّها كادت تخرج روحه.

رفعه بقبضة واحدة ليلصقه بالحائط بينما يوسف يحدق فيه مذهولاً، كان يعرف أنّ سالم تدرب قديمًا على الفنون القتالية لكنّه لم يره بهذه القوة ولا بهذه القسوة. كانت عيناه مشتعلتين بوحشية لم يرها فيه من قبل، وحشية ترددت في صوته وهو يقبض على يمين الرجل ويرفعها هاتفًا

"يدك هذه التي تجرأت عليها؟ تجرأت ورفعت يدك على ابنة المنصوري"

هز رأسه متوسلًا

"لقد اعتذرت ودفعت الثمن"

"ليس بعد أيها الحقير. ليس بعد"

هتف بتوحش أكبر، وهز يمين الرجل في الهواء

"بهذه اليد القذرة قصصت شعرها"

"كانت أوامر الباشا"

أمال سالم رأسه بشر

"أرني كيف سينفعك الباشا إذن"

تراجع يوسف مصدومًا واقشعر بدنه مع صوت تكسر العظام مصحوبًا بصرخة رهيبة. حدق مذعورًا في شقيقه الذي واصل وهو يتبع كسره لمرفق الرجل، بكسره لعظام يده وهو يهوي عليها بمسدسه

"اليد التي تمتد لبنات المنصوري لا جزاء لها سوى القطع"

سقط قلبه أرضًا وهو يحدق فيه، كان شخصًا غير شقيقه الذي يذكره، غير سالم الذي سافر قبل عشر سنوات. 

هو لم يجد وقتًا حتى ليعرفه بعد عودته وما يراه الآن يقول أن من سافر ومن عاد لا يمتان لبعضهما بِصلة، ولأول مرة يتساءل برعب، 

كيف كان شقيقه يحيا في الخارج؟

ما الذي حدث وحوله إلى هذا الوحش الواقف أمامه؟ 

*********************

التعليقات

200

المشاهدات

30,000

الإعجابات

500

شرفنا بوجودك، اشترك من هنا

اقرأ أيضًا

وردة وقلبُك

اقرأ المزيد