الفصل العاشر
ماذا تفعل إن كانت كل الخيارات مُرة؟
ماذا لو كانت تخاطر بابنتها أملًا في استعادتها؟ من أين لها تلك الثقة أنّ سالم لن يؤذي رواء من جديد؟
لكن ما البديل؟
أن ترضى برؤية ابنتها تستمر في تيهها؟ عالقة في شِباك ماضيها حتى وإن أنكرت.
راقبت جميلة زوجها الشارد منذ فترة وأدركت من وجهه أين شرد بفكره، ما كان عليها أن تفتح معه موضوع سالم مجددًا. توقعت أنّ يغضب ويغلق الحديث ككل مرة، لكنّه لم يغضب، اكتفى بإخبارها أن تتركه لأنّه متعب وغادرت هي لتصنع له مشروبًا مهدئًا وعادت لتجده على هذه الحال، شاردًا يستعيد ربما تلك الذكريات المؤلمة لهم جميعًا.
ربما ظنت يوم هربت معه أنّ سنواتهما الأولى معًا أصعب ما سيمرون به، ولم تعرف أنّ القدر يخبئ لهم أيامًا أصعب. ما حدث بعد أن عرفا بحب ابنتهما ربما كان أسوأ وأكثر إيلامًا من أي شيء عاشاه.
آلمها قلبها وهي تتذكر تلك الأيام، هل سيكون خطأ بالفعل أن يمنحوا سالم فرصة أخرى؟ هل ستفتح النار عليهم من جديد؟ من قال أنّ سالم سينجح هذه المرة في الوقوف لجده؟
أوقفت أفكارها ومخاوفها واقتربت من زوجها لتجلس على طرف الفراش، همست وهي تلامس كفه
"ما لك يا حاج؟"
انتفض من شروده ونظر لها لحظة كأنّه لا يراها
"هل تفكر فيما قلته؟ اعتبرني لم أقل شيئًا لو"
زفر وهو يربت على يدها
"ﻻ يا جميلة، لديكِ وجهة نظر. أنا أترك مشاعري وغضبي يتحكمان بي. لكن لا أستطيع نسيان ما حدث، كيف يمكنني أن أسامحه وأدعه يقترب منا مرة أخرى؟"
ضغطت يده ومالت قائلة برفق
"ﻻ تسامحه يا بدر، الشاب يتوسلني كل مرة ليقابلك. كان يمكنه أن يأتي رغمًا عنا"
نظر لها مستهجنًا فابتسمت
"كان يمكنه، لكنه احترمك، لو سألتني رأيي يا حاج، فهو تغير كثيرًا"
وغامت عيناها بحزن
"هو أيضًا تغير مثل رواء، لهذا أنا أشفقت عليه. أعرف أنّه يحبها رغم كل ما حدث و"
"وماذا يا جميلة؟ وماذا؟ هل سيغير هذا ما حدث؟"
"الماضي راح لحال سبيله، نحن أولاد اليوم، لا أقول لك انس أو سامحه .. فقط قابله واسمع منه"
ودمعت عيناها وهي تنظر لعينيه
"لقد تعبت يا بدر، والله تعبت من رؤية رواء بهذه الطريقة"
انتقلت دموعها لعينيه بينما تواصل هي بغصة
"تعبت وأنا أعيش كل يوم في قلق عليها. أريدها أن تعود كما كانت. ابنتي ذهبت من عشر سنوات ولم تعد، أريد ابنتي يا بدر"
تنهد بألم وشدها إلى صدره، فتمسكت بثيابه
"لو كان هو من سيعيدها لا تعاند، أقبل يديك. قابله ربما كان عنده الحل"
ضمها بحنان وسالت دمعة عاجزة من عينه
"وربما كان عنده دمارها الكلي هذه المرة"
وتابع وهو يمسح على ظهرها برفق
"اهدأي الآن وليفعل الله ما فيه الخير"
*****************
استمع إيهاب بشرود لحديث كارمن التي تجاوره في سيارته ورد بابتسامة شاردة على شيءٍ لم يسمعه بينما عقله متخبط في تفكيره.
ما الذي يفعله؟ ما الذي يورط نفسه فيه؟ أسامة محق، هو لا يعرف أين تسير قدماه.
وكما في الماضي تمامًا حين لم يتريث ويفكر في خياراته، خوفه من تكرار مصير رواء جعله يقرر بهذه الطريقة.
والآن يدرك حجم الألم الذي سببه لتارا حين ظن أنّه كان يحميها برحيله.
كانت تحبه، كانت وقتها تحبه، في تلك الأيام التي تجاهلها فيها ولم يرد على اتصالاتها حتى سافر دون خبر وتركها تعرف من الغرباء.
كان نذلا معها ويستحق العذاب أضعاف ما يشعره الآن.
تذكر بألم ما ذكرته عن رؤيته بالخارج، لا تعرف أنّه كان يتخبط هناك محاولًا نسيانها. كل ليلة تراوده الرغبة في العودة لأجلها، أن يفعل مثل سالم ويرحل معها قاطعًا كل علاقته بعائلته لكنّه يستيقظ في النهاية على كابوس موت أسرته.
كيف يأخذها ليكرر نفس المصير؟ العذاب الذي عاشه والداه بعد أن تمرد أبوه والثمن الذي دفعه بعد أن حاربه جده بشراسة ليجبره على العودة إلى سجنه.
عاند أبوه وتحمل لسنوات حتى تورط مع أشخاص خطرين ليحقق ربحًا سريعًا ينقذه وإياهم ويهاجر بهم مبتعدًا عن جحيم أبيه، لكنّه فشل وانتهى الأمر بأن كتب النهاية المأسوية بيده.
اعتصر الألم قلبه بينما صوت كارمن يتسلل إليه من بعيد كهمس من عالم آخر غير الذي غرق فيه مستعيدًا تلك الليلة.
لم يكن بعد أكمل السابعة من عمره، ذكريات محفورة في روحه قبل جسده.
ذكريات كلما عاودته يشتعل ألم جروحه حيًا من جديد وبدرجة لا تُحتمل.
لم يدرك أنّه يمسك صدره بوجع بينما المشهد يتمثل حيًا أمام عينيه، شقيقته الصغيرة تنزف دمها وروحها بجواره وعلى مقربة جسد أمه، يرفع عينيه الذاهلتين إلى والده الذي بدا غريبًا كأنّما أصابه مس من الجنون، عيناه متسعتان بجنون وقد سالت دموعهما، وكلمة واحدة همسها باكيًا قبل أن يضغط الزناد
"سامحوني"
شعر بعدها بالنار تخترق جسده ليسقط جوار شقيقته، ينتفض شاعرًا بروحه تغادره مع دمه، والده يرفع مسدسه إلى صدغه ويغمض عينيه ليدوي صوت الرصاصة الأخيرة يرافقه إلى الظلام.
******
"إيهاب .. احترس"
صرخة كارمن انتزعته من كابوسه بينما تدير مقود السيارة للاتجاه المعاكس وضغط هو الفرامل تلقائيًا، لتتوقف السيارة بعد لحظات على جانب الطريق
"إيهاب، ما بك؟ كدت تصطدم بالسيارة"
تسارعت أنفاسه وهو يحدق أمامه مصدومًا، شعر بكارمن تفك حزام الأمان وتتحرك مقتربة منه، لتلامس كتفه برفق
"إيهاب ، هل أنت بخير؟"
ونظرت لقبضته التي تمسك بقلبه
"هل تشعر بألم؟ إيهاب، رد عليّ"
همس وهو يحاول تمالك نفسه
"أنا بخير"
"ﻻ تبدو بخير أبدًا، هل نذهب للمشفى؟"
أجابها بهزة رأس نافية بينما يعيد تشغيل سيارته
"أنا بخير، لا تقلقي. شردت للحظة، وما حدث الآن وترني فحسب"
واصل قيادته وربطت هي حزام الأمان مرددة بقلق
"يمكننا العودة ما دمت تشعر بالتعب"
رسم بصعوبة ابتسامة ليطمئنها
"أخبرتكِ أنني بخير، ثم لا يمكنني أن أعيدكِ بعد أن غادرنا لتونا، هذا عيب في حقي"
قالها غامزًا فابتسمت بقلة حيلة واسترخت في مقعدها وقاوم هو حتى لا يغرق في ذكرياته مجددًا، يكفيه أن يطارده موتهم في كوابيسه لن يعذبه في صحوه أيضًا.
عاد يركز في حديثه معها حتى وصلا إلى وجهتهما، دخلا معا إلى النادي واتجها إلى طاولتهما، أزاح لها المقعد لتجلس بأناقة وانتظرا حتى أخذ النادل طلبيهما وانصرف لتسأله كارمن
"كيف كانت رحلتك؟ لم أجد الفرصة لسؤالك حين التقينا في الشركة"
قطب بحيرة قبل أن يتذكر أنّه تحجج لها بسفره بعد ليلة الحفل.
"جيدة"
"فقط؟"
سألته رافعة أحد حاجبيها فابتسم
"بالنسبة لوضعي وقتها فهذا كل ما يمكنني قوله، كنت في حاجة للابتعاد بعض الوقت لأرتاح، أعتقد أنّها أتت بثمارها والحمد لله"
بادلته ابتسامته قبل أن تلمع عيناها وهي تسأله بخبث
"إذن كنت بمفردك؟"
سؤالها حمل في طياته أكثر مما يظهر لكنّه ضحك ورد
"لماذا أشعر أنّه ليس سؤالًا بريئًا؟ بالطبع كنت بمفردي"
هزت كتفيها مبتسمة
"ربما... أحببت أن أطمئن فقط"
بحث عن كلمات لا تزيد تورطه معها بينما عيناه تتحركان بتوتر في المكان، وانتفض قلبه حين توقفتا على نقطة خلفها.
كادت تلتفت لترى ما فاجأه لكنّه أسرع يمسك كفها فوق الطاولة. ضغط على يدها مبتسمًا يحاول لفت نظرها بعيدًا بينما عذاب قلبه الجالس خلفها على مسافة قصيرة.
قال مبتسمًا يتحاشى أن تخونه نظراته
"اطمئني، أنا لا أصطحب أي فتيات في رحلاتي الخاصة"
رفعت حاجبها بغير تصديق فأطلق ضحكة أخرج فيها توتره
"لماذا لا أصدقك؟"
أخبرته ضاحكة فابتسم وهو يسحب كفه عن يدها
"هل تحبين مرافقتي المرة القادمة لتتأكدي بنفسكِ؟"
ضحكت بينما اكتفى هو بابتسامة شاحبة بينما قلبه ينتحب.
*******************
"ناديا، انزلي من عندكِ حالاً. أنا لا أمزح"
صرخ شاهين وقلبه يرتجف بعنف، بينما يراها تقف على الحافة الضيقة. التفتت ترمقه والدموع تغرق زرقة عينيها والمطر يغرق شعرها وثيابها
"ناديا... إياكِ ، لا تفعليها"
ضحكت بكاءً وهي تتمسك بالسور، ورفعت صوتها فوق صوت المطر هاتفة
"أنت لم تصدقني يا شاهين، لقد قتلتني... أنت قتلتني"
اقترب خطوة بحذر وهو يمد يده نحوها
"انزلي يا ناديا وسنتفاهم. أنا أصدقكِ، انزلي أرجوك"
هزت رأسها صارخة بعنف
"لا، هذه هي النهاية يا شاهين. تذكر أنك من دفعتني لهذا"
"أرجوكِ ، لا تفعلي"
ابتسمت بمرارة وهمست
"أحبك يا شاهين، تذكر هذا أيضاً"
اتسعت عيناه برعب ويداها تتخليان عن السور واندفع هو للأمام صارخًا
"لا"
حاول الإمساك بها لكنّها أفلتت من يده وسقطت
"ناديا"
*********
انتفض مستيقظًا بأنفاس عنيفة مع صرخته باسمها، خفض عينيه لتصطدما بالصورة التي يحملها. كان ينظر إليها حين أدركه النوم، ما الذي جعله يخرجها أصلاً؟ لم يكن في حاجة إليها لتؤجج ناره، ذكراها محفورة داخله.
اعتدل على الأريكة وأطرق دافناً رأسه بين كفيه، يعرف السبب جيدًا… رويدا.
أراد مهربًا من تفكيره الأحمق فيها، أراد تذكيرًا بسبب وجودها هنا.
أطلق سبة غاضبة من نفسه وهو يهب ليفتح شرفة مكتبه واندفع للخارج لتضربه الرياح الباردة. ماذا يفعل؟ لم يكن هذا ما انتواه.
إنّها هنا ليوصلها للجنون، ليدفعها للمصير الذي انتهت إليه ناديا.
وماذا يفعل بالمقابل؟
عاد بذاكرته للقائهما الأول حين دخلت مكتبه باعتداد ورقة فاتنة لا تخلو من قوة وتحد. الصور ظلمتها كثيرًا لم تُعِده للفتنة المتحدية التي قابلها يومها، وفي أعماقه يعترف أنّه شعر بحسد ونقمة تجاه سالم.
قاوم أفكاره بشأنها بينما يقبض كفيه على السور مستعيدًا ذكرى ناديا وهي تهوي إلى الموت أمام عينيه
"ركز يا شاهين، لا تحد عن هدفك"
انتظر حتى استعاد هدوء نفسه وعاد إلى الداخل، أرجع الصورة مكانها في درج مكتبه وأغلقه بالمفتاح ثم غادر مكتبه مرددًا
"لنرى ما فعلت الفراشة العنيدة"
العنيدة ما زالت مضربة عن الطعام، تذكر وقفتها المتحدية أمامه بينما تخبره بعجرفة وهي متخصرة
"ما دمت تعرف كل شيء عن ماضيّ فربما تعرف إذن أنني بت ليالي وأيام دون لقمة طعام واحدة"
زفر بضيق وهو يصعد إلى جناحه الذي تركه لها، لا يتخيل أن يعود لينام فيه. لم يعد يأمن لأفكاره الحمقاء، يكفي أنّها تحاصره بخيالاتها منذ تلك القبلة الغبية بينهما و
"سُحقًا"
تمتم ساخطًا وهو ينتبه لشروده مجددًا في تلك الذكرى. وصل إلى الباب وطرقه، لم يصله ردها كالعادة فطرق بقوة أكبر
"افتحي الباب يا بلانكا"
واصل الطرق لثوان أخرى قبل أن يتسلل إليه القلق والشك. في العادة تنفجر فيه ساخطة تأمره أن يتركها ويذهب.
همس بغيظ متوعدًا واتجه إلى الغرفة المجاورة ليفتح الباب المشترك الذي لا يظنها لاحظت وجوده من الأساس.
حين دخل غرفة نومه وقف مصدومًا يحدق في المكان الخالي، حتى الملابس التي كانت قد...
توقفت عيناه على الشرفة المفتوحة واتسعتا وهو يرى القماش المعقود حول سورها. اندفع فزعًا وأمسك بالقماش يشد الحبل الطويل الذي صنعته من الملابس. انحنى بقلب منقبض ينظر للمسافة التي تفصله عن الأرض. بحث بعينيه عنها يتوقع رؤيتها جثة هامدة.
لم ير شيئاً، فألقى الحبل بعنف واندفع خارج غرفته
"تبًا يا رويدا، لا يمكن أن تكون قد فعلتها. الغبية، أين تتوقع أن تذهب؟"
خرج جريًا من الفيلا واندفع إلى أسفل شرفتها ليطمئن أنّها لا ترقد هناك نازفة أو ميتة وتنهد براحة عندما لم يجدها. لم تدم راحته وهو ينطلق ليبحث عنها، مضت دقائق دون أن يجد لها أثرًا، نظر نحو منطقة الأشجار العالية التي تحتل قسمًا من الجزيرة، وتطلع للشمس التي تكاد تغرب.
أسرع للداخل ليجلب كشافًا تحسبًا لحلول الظلام وعاد ليدخل وسط الأشجار، يواصل نداءها تارة وتوعده لها تارة أخرى. أزاح أفرع الأشجار المتشابكة، لمح أخيرًا أثرًا لقدميها فتتبعه سريعًا
"كان يجب أن أعرف أنّكِ متهورة وحمقاء"
كيف تتحرك دون تفكير هكذا في مكان لا تعرف شيئا عنه؟ ألم تفكر في وجود كائنات قد تؤذيها؟ الغبية... صفعه عقله مؤنبًا، لقد فضلت الهرب معرضة نفسها للخطر على البقاء معه
"بلانكا"
صاح مناديًا والريح تعصف بالأشجار التي تسلل النور بينها خافتًا، سيظلم الجو تمامًا بعد قليل. انتهت الأثار فجأة لينتبه أنه قد اقترب من المرتفع الصخري الذي تنتهي به الغابة الصغيرة. سقط قلبه بين قدميه وهو يهرع إليه، ماذا لو كانت قد سقطت هناك؟ ماذا لو...
توقف على الحافة يحدق بالأسفل، وعقله يرسم صورة مرعبة لجسدها يسقط مرتطمًا بالماء والصخور أسفله، ممتزجة بصورة ناديا وهي تسقط أمامه.
تنفس بصعوبة وساقاه تكادان تخونانه
"بلانكا .. بلانكا .. ناديا"
همس بشحوب والصور تختلط في رأسه قبل أن تتردد صرخة عالية من مكان قريب، تحرك بسرعة هاتفًا اسمها. شق طريقه بين الأشجار التي خدشت وجهه
"بلانكا... بلانكا أين أنت؟"
سمع صوت أقدام تجري فاندفع نحوها ليصطدم فجأة بجسد، صرخت صاحبته بخوف وسقط المصباح منه. أسرع يكتم فمها قبل أن تخرق أذنيه بصراخها
"هذا أنا"
أزاح كفه لتصرخ وهي تتعلق به باكية
"ثـ ثعبان... كان هناك ثعبان وكاد أن"
انتبهت فجأة للواقع، لتدفعه بكل قوتها
"اللعنة عليك .. أنت السبب"
ولم تمنحه الفرصة لكلمة وهي تضربه مرة أخرى
"أيها الملعون البغيض، أنت سبب بلائي"
أسرع يمسك قبضتيها صائحًا بغضب يفرغ فيها رعب الدقائق التي عاشها
"أنا السبب؟ هل أنا من قلت لكِ اقفزي من الشرفة كالانتحاريين؟"
وقبض على مرفقيها يهزها بعنف
"أنا من قلت لكِ اهربي وسط جزيرة لا تعرفين أي شيء عنها؟"
حدقت فيه بشحوب وهو يواصل هزها
"ماذا لو كنتِ سقطت عن الجرف، هه؟ ماذا لو كان ذلك الثعبان أو غيره قد آذاكِ؟"
ارتجفت مع كلماته قبل أن تعاودها شراستها
"أنت من دفعني لهذا أيها الـ"
زفر بحنق ثم شدها خلفه
"لقد استنفزتِ فرصكِ معي، كنت رحيمًا معكِ حتى اللحظة والآن"
لم تتركه يكمل وانحنت على ذراعه، تغرس أسنانها فيه فصرخ وهو ينتزعه منها
"اللعنة، هل جننت؟"
هتفت وهي تطلق ساقيها للريح
"أفضل الموت على البقاء معك"
لم تدم صدمته سوى ثوان اندفع بعدها يلحق بها
"تبا لغبائكِ، مما صنعتِ يا امرأة؟"
تعثرت وهي تندفع بين الأشجار مبتعدة أكثر وأكثر
"لن أنتظر في هذا الجحيم لحظة واحدة، ابحث عن حمقاء أخرى لـ"
لحقها وقبض على رسغها وشدها إليه فصرخت بقهر
"دعني أيها اللعين، دعني"
قاومته بآخر قواها التي تتهالك من جوعها لأيام
"اذهب للجحيم أيها الـ .."
انقطعت كلماتها بصرخة وجسدها يهوي للخلف فتمسكت به لاإراديًا ليسقط معها. شهقت وجسدها يرتطم بالماء البارد، وصرخت وهي تضرب ماء البركة التي سقطا فيها
"تبًا، ما هذا؟"
اعتدل هو بسرعة لتلامس قدماه قاع البركة الصناعية التي أصرت شقيقته المهووسة على إنشائها. زفر وهو ينظر في أحد الاتجاهات، جيد، هذا يعني أنهما قريبين من الفيلا.
انتبه عندما رشقته بالماء هاتفة بقهر
"اللعنة عليك، هل كانت تنقصني مصائبك أنت أبضا؟"
رمقها بقسوة قبل أن يشد رسغها
"أنا من كان غنيًا عن مصائبكِ يا سنيورا"
هتفت وهي تضربه بقبضتها الحرة
"لم أطلب منك اختطافي يا أحمق، أنت سبب كل هذا"
واصلت ضربه وهي تواصل بشراسة
"ابتعد ودعني أخرج من هذه البركة اللعينة مثلك"
أمسك قبضتها وجذبها له بقوة، فشهقت وتسارعت أنفاسها وهي تحدق في عينيه
"دعني، أنت تؤلمني"
ضاع صوتها كما ضاع غضبه وهو يحدق في شعرها المبتل وقطرات الماء تتساقط على جفنيها برقة،خصلاتها ملتصقة بوجهها وشفتاها انفرجتا بأنفاس متهدجة، عيناها المتسعتان تحدقان فيه بصدمة. حرر رسغها دون وعي ليرفع كفه يزيح خصلاتها عن شفتيها فشهقت بارتجاف
"ماريبوسا"
*******
تخبط قلبها وكفه تلامس خدها برقة وذراعه الأخرى تمتد لتحيط خصرها وسط الماء، اتسعت عيناها وخيالها يسترجع ما حدث بينهما في المطبخ. ألم تهرب لهذا السبب؟ لأنها أدركت أن بقائها معه خطر.
دوارها يشتد بصورة مفزعة… لا بد أنّه الجوع.
لا علاقة لقربه منها، دوارها وتسارع أنفاسها وضربات قلبها المتعثرة هذه سببها الجوع لا أكثر.
أفكارها تجمدت برعب وكاد قلبها يتوقف حين شعرت به يميل نحوها،
عند هذه النقطة تخلت عنها بقايا قواها، أغمضت عينيها والدوار يستولي عليها لتسقط فاقدة الوعي وآخر ما سمعته كان صوته يهتف اسمها بقلق قبل أن يحملها برفق مغادرًا البركة عائدًا بها إلى أسرها مرة أخرى.
*****************
"هل تمزحين الآن يا تارا؟"
رددت جيلان بعد ذهول دام لبرهة طويلة فغمغمت تارا بضيق
"وهل سأمزح في شيءٍ كهذا؟"
واصلت تحديقها فيها قبل أن تهز رأسها وتأخذ نفساً من سيجارتها وتنفثه بتوتر
"ﻻ أصدق. عندما قلتِ أنّ لديكِ ما تخبريني به لم أتوقع هذا. إنّه أمر ، لا أدري ماذا أقول"
تنهدت تارا بأسى
"أعرف كيف هو الأمر، أنا أعيشه منذ ست سنوات وأكثر"
رمقتها بأسف بينما قالت تارا بعد ثوان
"أردت تصحيح الأمر لكِ قبل أن تحدث مشاكل بسبب سوء فهمكِ . أرجو ألا تكوني قد أخبرتِ أحدا"
لوحت بيدها التي تحمل السيجارة
"لم أفعل"
وعادت تتأملها بحزن
"إذن فأنتِ وإيهاب لم تتزوجا، وأنتِ الآن زوجة ابن عمه"
ابتسمت بمرارة
"والذي يعده مثل أخيه وأكثر"
"وتعيشان في نفس البيت؟"
أومأت تارا فتنهدت جيلان وهمست بأسى
"أنتِ في ورطة"
بل هي في مصيبة وبلاء عظيم، رسمت ابتسامة بصعوبة
"لقد تعودت"
"ماذا تقصدين بتعودتِ؟ هل تنوين قضاء حياتكِ هكذا؟"
هتفت جيلان باستنكار فرددت تارا
"وماذا تريدينني أن أفعل؟ هذا أمر واقع ولا أملك تغييره"
"كل شيء يمكن تغييره يا تارا، يكفي أن نتخذ القرار"
ابتسمت تارا بسخرية
"هذا لأنّكِ لم تجربي الحياة في سراي المنصوري. هل تظنين أنني لم أحاول؟ بل فعلت ولم أنجح... مراراً"
تأملتها جيلان بأسف لحظات ثم قالت
"ﻻ أتخيل أن أبقى في بيت واحد مع الرجل الذي أحبه بينما أنا زوجة ابن عمه أو حتى أخيه"
"أنا لا أحب إيهاب"
رددت باعتراض واهن كذبته جيلان بحسم
"كاذبة... أنتِ تكذبين يا تارا، لم يتغير شيء منذ افترقنا. ما زلتِ تحبينه وهو أيضًا يحبكِ"
ارتجف قلبها وشفتاها لكنّها ضحكت بتهكم
"نعم صدقتكِ . جيلان، توقفي عن ادعاء قراءة الآخرين لأنّكِ فاشلة"
رفعت حاجبًا وهي تواجهها بحقيقتها
"وأنتِ فاشلة في الكذب كالعادة. عيناكِ تفضحانكِ ، وإيهاب كذلك. لقد رأيتكما معاً وكأنّ السنوات لم تفرقنا، نفس الهالة التي كانت تحيطكما معًا... نفس النظرات التي تفضحكما"
وابتسمت ملوحة بكفها مرددة بهيام
"هناك شرارات وذبذبات تتطاير في الهواء حين تجتمعان. أنا كنت أشعر بها، شعرت بها قديمًا والآن بعد أن جربت الحب بنفسي، صرت متأكدة"
ومالت للأمام تحسم بنبرة تقريرية
"أنتما عاشقان"
حدقت فيها بشحوب شديد قبل أن تهمس
"حتى لو كان كلامكِ صحيح، ما الفائدة؟"
تراجعت هاتفة بحنق
"ما الفائدة؟ هل تمزحين؟ لو كنت مكانكِ لطلبت الطلاق في الحال"
أخبرتها بألم
"ﻻ يمكنني، حتى لو كنت حرة لا يمكنني أن أكون معه"
زفرت الدخان بحرارة ورمقتها بيأس
"حتى إن لم تجتمعا في النهاية، وضعكما هكذا ليس جيدًا. أنتما تتعذبان. والآن بعد كلامك فهمت نظرات إيهاب ليلتها. كلاكما تتعذبان ولن ترتاحا بهذا الوضع"
ومالت نحوها تخبرها بجدية شديدة
"انفصلي عن زوجكِ، أنتِ هكذا تخونينه بقلبكِ"
اخترقت الكلمة قلبها تطعنه بقسوة، تعيدها لتلك الليلة التي دمرت فيها كل شيء بينها هي وأسامة، الليلة التي عرفت فيها أي خائنة هي.
قاومت أفكارها لتخبرها باختناق
"ﻻ تقلقي، هو من الأساس لا يشعر بي ولا يراني. نحن مقيدان بهذا الزواج حتى نجد مخرجاً"
صمتت جيلان تتأملها بحزن
"هل تسمعين نفسكِ ؟ هل تتخيلين الحياة التي تعيشينها؟ هل فكرتِ أنّ مقاومتكِ وقوتكِ هذه ستنهار يومًا؟ هل تتخيلين لا قدر الله ماذا قد يحدث لو ضعفتِ يوماً أمام عاطفتكِ نحو إيهاب؟"
اتسعت عيناها بذعر
"قلت لك أنا لا أفكر فيه، وبالتأكيد لن أنحدر لأقع في الخيانة الزوجية، أنا لست"
قاطعتها بابتسامة مشفقة
"لستِ ماذا؟ أنتِ في ورطة. انظري لنفسكِ ، أجزم أنّك كنتِ تدعين القوة لتجبري نفسكِ على الاستمرار في هذا الجحيم، ولتقاومي مشاعركِ الحقيقية. هل ما زلتِ تأمنين على نفسكِ وقلبكِ ؟"
حدقت فيها بخوف واضح، لا، هي لا تنكر أنّها باتت تخاف من نفسها بعد أن انهار حصنها، بعد أن فتحت جروحها أمامه واعترفت بكل شيء.
لا، هي لن تسقط هكذا، لن تقع في الخيانة حتى لو كانت زوجة على الورق فحسب.
التقطت أنفاسها لتخبرها بعناد
"قصتنا انتهت دون رجعة... حتى لو انفصلت انا وأسامة لن أعود له، هذا على افتراض أنّه يحبني كما تدعين"
"إنّه يحبكِ"
ردت بإصرار لتهتف تارا
"لم يعد مهمًا. كل ما يهمني الآن هو ابنتي، لا يمكنني أن أهز استقرارها النفسي"
وأطرقت مقطبة بحزن وألم
"هي من الأساس بدأت تشعر وتخاف كثيراً أن أترك والدها"
هزت جيلان رأسها برفض
"أنتِ ترتكبين خطأً فادحًا، هل تظنينها ستكون سعيدة ومستقرة نفسياً حين تكبر وتفهم أكثر؟"
وتأملت وجهها الذي لم تفلح زينتها في إخفاء آثار الإرهاق والسهر والحزن منه
"تذكرين الفترة التي تلت رحيل إيهاب؟ أنتِ الآن تذكرينني بحالكِ وقتها... أنتِ تزوين، أرى هذا بوضوح"
وصمتت لحظة بينما تطفئ سيجارتها بالمطفأة الصغيرة ثم تكمل
"غدًا تلاحظ ابنتكِ التعاسة التي تعيشان فيها، هذا إن لم تتعقد الأمور أكثر"
"ماذا تعنين بتتعقد أكثر؟"
هزت كتفيها بابتسامة حزينة
"أنت عاطفية جدًا، لا يمكنكِ الاستمرار في هذه الحياة الجافة. أنتِ تقتلين نفسكِ ببطء وابنتكِ حتمًا ستتأثر، شئتِ أم أبيتِ ستفهم الوضع عندما تكبر"
غامت عيناها وهي تفكر، ومن أكثر منها خبرة بهذا؟ هي التي نشأت في بيت بارد بين أبوين يكرهان بعضهما ويكرهانها، هل ترضى لابنتها نفس الحياة؟
تنهدت بحرارة
"أنا أوقعت نفسي في هذا كله وسأدفع ثمن غبائي للنهاية"
وعادت تتنهد وهي ترفع عينيها نحوها
"من يدري، ربما أجد مهربًا ذات يوم و"
سكتت وعيناها تتوقفان بصدمة على شيءٍ ما خلف جيلان وانقبض قلبها بألم رهيب، تحركت أنفاسها كسكاكين حادة في صدرها وانتبهت جيلان لتغيرها فتمتمت بحيرة وهي تدير رأسها
"ما الأمر، ماذا"
قاطعتها بسرعة تمنعها من الالتفات
"آه، لقد أخذنا الحديث ونسيت سؤالكِ"
نجحت في جذب انتباهها عن الشخصين اللذين دلفا إلى المكان
"ماذا فعلتِ في حياتكِ بعد الجامعة؟"
حدجتها جيلان بشك قبل أن تبتسم وتسترخي في مقعدها قائلة
"ظننتكِ لن تسألي أبدًا"
ضحكت تارا بافتعال بينما عيناها تعودان إليهما، راقبت تقدمه وكارمن جواره بأناقتها المعهودة ورأسها مرفوع باعتداد امرأة تثق بجمالها وحضورها، تبتسم له بفتنة فيرد بابتسامة أوغرت قلبها عليهما معًا.
الغضب يشتعل داخلها ببطء ويبدأ في التهامها من الأعماق، كيف عذبها قلبها على ما فعلته به قبل أيام بينما هو مشغول كما يبدو في أمور أهم؟
هل هناك دليل أكبر على إساءة فهمها لرد فعله تلك الليلة؟
وجيلان أيضًا مخطئة. هو لم يحبها يومًا ولن يفعل. ما انتابه ليلتها بسبب شعوره بالذنب نحو أسامة لا أكثر.
ويبدو أنه وجد الحل ليقطع الطريق على مشاعرها الحمقاء القديمة، ألم يصدق كلامها؟ ماذا يظنها؟ ستطارده بمشاعرها متناسية حقيقة وضعها؟
هي لن تفعلها حتى لو كانت حرة، لن تمنحه قلبها مجددًا، ولو حصلت على حريتها من أسامة، وقلبها الأحمق هذا ستنتزعه وتدوسه قبل أن يخفق من أجله مرة أخرى.
"تارا، أنتِ لستِ معي"
انتبهت على صوت جيلان فردت بسرعة
"أنا معكِ ، ماذا قلتِ؟"
ضاقت عيناها بشك لكنّها واصلت كلامها
"كنت أقول أنني استمريت في المشاركة في أدوار ثانوية بالمسرحيات حتى اكتشفني أحد المخرجين وعرض عليّ المشاركة في بطولة مسرحيته وانطلقت بعدها"
وضحكت غامزة
"وقبل عام التقيت بخطيبي، في البداية ظننته مهتمًا بالمسرح، واتضح أنّه أتى بالصدفة لحضور أحد عروضي وكان مجبرًا. لكنّه كما يقول، وقع في حبي لحظة رآني ومن وقتها وهو لا يفوت عرضًا لي... ظل يحاصرني بوجوده واعترف بحبه حتى سلّمت واعترفت أنا الأخرى"
ابتسمت تارا تخبرها بود كبير
"مبارك لكِ ، أنتِ تستحقين كل خير"
بادلتها ابتسامتها ومشاعرها الصادقة
"وأنتِ أيضًا يا تارا، لهذا أتمنى أن تفكري جيدًا، يكفي ما ضاع من حياتكِ، ولا تنسي أيضًا.. ابنتكِ ستكبر وتحلق بعيدًا عنكِ ولن يبقى وقتها أمامكِ سوى الوحدة والتحسر على ما ضاع من عمركِ"
أومأت وعيناها التعيستان تتحركان لاإراديًا نحو إيهاب، ضاق صدرها وهي تراه يمسك كف جيلان فوق المائدة، شعرت بقلبها ينزف حرفيًا، أين ذهب ما كانت تردده على نفسها للتو؟
"تارا، أنتِ لستِ معي فعلاً، ماذا هُنـ"
نهضت مرددة بصوت مختنق
"تذكرت شيئًا مهمًا، هل يمكننا الذهاب؟"
نهضت جيلان بدورها وقد أقلقها شحوب تارا الواضح
"طبعًا حبيبتي، هيا"
تحركتا معًا ومرت تارا مسرعة، متفادية المرور جوار طاولتهما تمنع في الوقت نفسه جيلان من ملاحظتهما لكنّها لم تنجح، قاطعها أحد النُدل فاضطرت للتنحي جانباً
"آه، انظري من هنا. إيهاب"
شتمتها تارا بحنق حين سمعتها، ها هي تستعيد شخصيتها المتهورة المندفعة بغباء. راقبتها بتخاذل وهي تندفع نحوهما والتفت إيهاب على ندائها بتساؤل، قبل أن يبتسم ونهض مرحباً بها.
اقتربت بتخشب من جيلان التي بدأت ثرثرتها
"يا ربي، لم أتوقع أن أراك الآن. كنا لتونا في سيرتـ"
قبضت على مرفقها توقفها عن الهذيان فصححت بسرعة
"أعني، كنا ذاهبتين ولحسن حظي أنني رأيتك. لم يتسن لي الاتصال بك والاعتذار عن المكالمة التي فاتتني"
ابتسم بشحوب متحاشيًا بوضوح النظر إليها وجيلان تواصل
"اتصلت بتارا وأخبرتها أن توصل لك رسالتي لكن يبدو أنّها لم تفعل، صحيح؟"
رمقتها تارا بحنق وهي تترك مرفقها، ماذا تفعل هذه المستفزة؟
"ﻻ بأس يا جيلان، عرفت أنّكِ كنتِ مسافرة"
ردد إيهاب والتفت نحو كارمن قاطعًا على جيلان عليها المزيد من ثرثرتها التي هو متأكدٌ من أنّها ستفضحهما أمام كارمن
"جيلان، دعيني أقدم لكِ كارمن عزمي، شريكتي في العمل وصديقة عزيزة"
لم تتحكم تارا في التواء شفتيها باستخفاف بينما تقلد كلماته داخلها بتهكم، لمح حركتها فخانه قلبه لحظة تحكم فيه بعدها ليركز على كلامه
"كارمن، هذه جيلان، زميلتي من الجامعة، وممثلة مسرحية موهوبة جدًا"
"لم أعرف أنّك متابعٌ لأخباري يا إيهاب"
قالت جيلان وهي تضرب كتفه بمرح لتنال زوجًا من النظرات الحانقة، من تارا التي كادت تركلها بغيظ وكارمن التي ابتسمت لها بتشنج وهي تردد
"مرحباً"
تأملتها جيلان بتفحص وتقييم مستفزين أشعرا إيهاب بالحرج بينما يتساءل عما دهاها
"مرحباً"
ردت التحية بعد ثوان بابتسامة سمجة وأشارت لتارا
"طبعًا هذه تارا السيوفي، غنية عن التعريف، وأنت يا إيهاب طبعًا لا داعي لأعرفك عليها"
قرأت رغبته في ضرب جيلان مثلها تمامًا بينما تتشنج شفتاه بشبه ابتسامة مغتاظة
"ﻻ بد أنّها أخبرتكِ أنّها زوجة أخي يا جيلان، طبعًا أعرفها"
التقت أعينهما لحظة تبادلتا حديثًا مليئًا بالعتاب وعشرات الكلمات الجريحة قبل أن ينتبها على ضحكة جيلان
"صحيح، لقد صححت لي سوء الفهم الذي حدث في الحفل"
نقلت كارمن بصرها بينهم بشك وفضول بينما إيهاب يردد بصبر يكاد ينفد
"إنّها عادتكِ ، تتسرعين دائمًا في الحكم على الأمور"
نظرت جيلان نحو كارمن وعادت لتقييمها ولوحت بعدها بكفها
"ﻻ يا صديقي، أنا أجيد الحكم على الأمور أكثر مما يبدو عليّ"
ومالت قليلاً توجه حديثها لكارمن
"هذه مشكلة أن يكون لكِ أصدقاء لا يقدرون حكمتكِ ... وصديقاي هذان حقيقةً، ماذا أقول؟"
تنهدت بطريقة استعراضية وهي تهز كتفيها
"ما علينا، أحيانًا أتمنى لو لم أحظ بكل هذه الحكمة. آه، إنّها مأساة كبيرة"
"صحيح"
تمتمت كارمن كأنّما تأخذها على قدر عقلها وهتفت تارا
"أيتها الحكيمة، أعتقد أنّ هذا القدر كاف، أزعجناهما بما يكفي"
"آه صحيح، لقد أثقلت عليكما بثرثرتي. آسفة جداً، تقبلي اعتذاري يا كارمن هانم"
أومأت كارمن بابتسامة باهتة والتفتت جيلان إليه تودعه في اللحظة التي رن فيها هاتف تارا، كان رقم بيت والديها فأجابت
"مرحباً، نعم يا نجاة... ماذا؟ متى حدث هذا؟"
التفتوا على هتافها الجزع وسألها إيهاب بقلق
"ما الأمر يا تارا؟"
واصلت هي عبر الهاتف بصوت مرتعد
"وأين أمي؟ تمام، أنا قادمة حالًا"
أغلقت الهاتف وتحركت بسرعة لكنّ إيهاب أوقفها ممسكًا مرفقها
"ماذا حدث؟ ما الأمر؟"
تمتمت ودموعها تسيل
"أبي ساءت حالته فجأة ونقلوه إلى المشفى، أمي مسافرة ولا أحد معه. عليّ الذهاب"
رددت بارتجاف وهي تحاول شد مرفقها لتذهب لكنّه لم يفلتها
"انتظري، أين تذهبين وحدكِ في هذه الحالة؟"
تمتمت وهي تهز رأسها بتشتت
"سآخذ سيارة أجرة و"
"سأوصلكِ"
هتف باندفاع وهو يشدها دون أن يمنحها فرصة الرفض
"إيهاب"
هتاف كارمن المصدوم أوقفه مكانه، تجمد محدقًا في تارا بذعر قبل أن ينتزع يده كالملسوع وهمس بعد وهلة
"آسف يا كارمن، عليّ الذهاب، سأتصل بالسائق ليأتي ويقلكِ"
رمقته بغير تصديق ليتابع بحرج منها
"سأعوضكِ عن موعدنا"
تحركت تارا هامسة باختناق
"لا داعي لقدومك، لا أريد مساعدة"
وقف بحيرة نسفتها جيلان بهتافها الحاد
"ماذا تنتظر؟ ألم تر حالتها؟ قد يصيبها مكروه في الطريق"
**
نظر لكارمن معتذرًا فتنهدت بضيق وأشاحت وجهها عنه ليسرع هو ويلحق تارا. راقبت جيلان اندفاعه الملهوف وهمست تقلد تارا
"إنّه لا يحبني. هل هي حمقاء؟ حبه واضح للأعمى"
استدارت فور اختفاءهما إلى كارمن المقطبة بضيق وشك، وابتسمت لها بمسرحية
"بقينا وحدنا"
التفتت لها بنظرات ضيقة فرسمت جيلان ابتسامة واسعة وهي تسألها
"بالمناسبة، هل تحبين المسرح؟"
********************
زهرة زنبق وغيمة سكر،
هل كان يليق بها أرق منهما؟ من كان يظن أن يتعلق هو بهذه التفاصيل الرقيقة ويعشقها لسنوات فقط لأنّها تذكره بها.
ضحكتها كانت أول تعويذتها الساحرة لأسره،
ثم غيمة سكر من غزل بنات وردي،
رآها معها في أول مرة يراها وسرقها في ثاني لقاء.
ثم زهرة زنبق كانت أول هدية منحها إياها حين أهداه القدر لقاءهما الثالث في سراي المنصوري.
شرد ويده تداعب زهور الزنبق في الحديقة،
يستعيد ذكريات اللقاء الأول بوضوح كأنّه عاشها أمس فقط،
ذلك اليوم الذي جره فيه سالم جرًا وأصر على أن يصحبه ليرى حبيبته التي صدع رأسه بالحديث عنها،
يومها هتف بحنق بينما يتناول حقيبته الرياضية من المقعد الخلفي لسيارة أخيه
"لا أفهم ماذا سأفعل معك يا سالم"
لم يرد عليه وهو يسرع بخطواته داخلًا المركز التجاري الذي افتتِح قريبًا وتبعه هو متنهدًا بنزق
"لقد فقد عقله كُليًا"
وعاد يناديه بصوت مرتفع بينما يراه يتلفت حوله بحثًا
"أنت يا "بني آدم"، لماذا جررتني معك إلى هنا؟ أخبرتك أنّ لدي تمرين مهم"
"ألم تقل أنّك تريد رؤية الفتاة التي سرقت عقلي مني؟"
تأفف مرددًا
"كنت أستعجب فقط من حالك، لم أعرف أنّك ستنفذ الأمر، ومؤكد كنت سأراها يومًا حين تتزوجها"
لوح بيده مغمغمًا بشرود
"أعرف هذا، لم آت بك لهذا السبب، أحتاج مساعدتك"
رمقه بحذر وقال متوجسًا
"فيما؟"
واصل البحث بعينيه وهما يسيران عبر المكان
"أريد تشتيتًا جيدًا لأصل إليها وأنفرد بها بعيدًا"
"نعم؟ ماذا يعني هذا؟ وما شأني أنا؟"
وضع كفه على كتفه بقوة فرمقها بحذر رافعًا أحد حاجبيه
"أنت هو التشتيت"
"أنا؟"
لم يهتم سالم بالتوضيح بينما يدير عينيه
"أين اختفين؟"
زفر بيأس منه وتراجع ليجلس على حاجز رخامي قريب ملقيًا حقيبته جانبًا
"حسنًا فلنجلس كالشحاذين حتى يرتاح سالم باشا"
تراجع مستندًا لكفيه يتابع تحركات سالم بملل
"العشق أفقده عقله تمامًا"
ولم يدر أنّه سيدفع ثمن كلماته بعد قليل، ظل مكانه متململًا حتى عاد سالم ليجلس جواره مقطبًا
"ماذا؟ هل فقدت أثرها؟"
رمقه بحدة وهو ينظر للجهة الأخرى
"ستظهر حتمًا"
تنهد وهو يحرك عينيه بسأم، يراقب بدوره الناس شاعرًا بتململ سالم جواره. كاد يلتفت إليه ويقول شيئًا حين التقطت أذناه ضحكة رقيقة انقطعت فجأة.
التفت تلقائيًا يبحث عنها لتقع عيناه على صاحبتها الواقفة عند كشك صغير على مقربة، تغطي فمها بكفها حرجًا.
اعتدل منتبهًا وقلبه يضطرب بطريقة عجيبة، رآها تضع سبابتها على شفتيها بحركة محذرة للفتاة الصغيرة جوارها. تعلقت عيناه بابتسامتها التي حاولت التحكم فيها بخجل واضح، وقلبه يزداد اضطرابا وهو يراقبها مسحورًا، تتناول من البائع- بسعادة لمعت في ابتسامتها وعينيها- عصا تحمل غيمة كبيرة وردية من حلوى غزل البنات.
نسي كل شيء ونسي سالم وغرق بكل كيانه في تأملها،بشرتها السمراء وملامحها الرقيقة التي بدت أوضح وهي تتحرك نحوه.
سمراء كليلِ السهرانِ
وكطلةِ بنتِ السلطانِ
من مكانٍ ما قربه أو ربما من داخله ترددت الكلمات، لا، كان يسمعها داخله بينما السمراء تقترب أكثر من مجلسه، رجفة كهربية سرت بقلبه حين خانتها ضحكة أخرى
ضحكتها كالفرحِ المنصوب
شراعًا فوق الخلجانِ
كصباحٍ تمرحُ فيه الشمس
كرقص الريح بفستانِ
…..
بل كرقص قلبه الذي اهتز مع ضحكة شفتيها اللتين قضمتا برقة قطعة من الغيمة الوردية، والأغنية تواصل داخله مع كل خطوة لها يشعرها تسيرها على قلبه
…..
من فرحةِ أرضٍ أزلية
من رنةِ عودٍ شرقية
لفتتُها الخفة
خطوتُها الرقصة
خطواتها المقتربة المتراقصة فوق قلبه الذي نال الضربة القاضية حين التقت عيناها بعينيه للحظة، لتصعقه سحبها الرمادية تعصف بسعادتها، حرمته منهما حين أشاحت بصرها بخجل ووجد شفتاه تتمتان بانبهار
"سمراء"
كان يكمل كلمات الأغنية ولم يعرف لحظتها أنّه همس اسمها دون أن يدري
"ها هي، وجدتها"
انتفض قلبه بجزع مع هتاف سالم والتفت ليجده ينظر إلى حيث تبتعد، هتف بفزع لم يتحكم به
"من؟ تلك السمراء؟"
نهض سالم وسحبه من يده بسرعة
"لا، هذه شقيقتها. هيا بنا"
استكان قلبه، وعاد ينظر خلفه وسالم يجره ليتواريا عن الأنظار ورآها تقترب مع شقيقتها الصغيرة من إحدى السيدات وفتاة جميلة بيضاء، هل هذه رواء شقيقه؟
مال يهمس وعيناه لا تفارقان ساحرته السمراء
"ماذا ستفعل الآن؟"
همس سالم بالمثل
"سأنتظر لأجد فرصة وبعدها حاول أنت تشتيت انتباه والدتها وشقيقتيها حتى اختطفها"
"تختطفها؟"
هتف بصدمة فضرب كتفه
"لن أختطفها طبعًا يا أحمق، هل أنا مجنون؟"
"يبدو لي أنّك أصبحت واحدًا"
أشار له دون أن يرد على سخريته
"هل تعرف ما عليك فعله؟"
ابتسم بحماس هذه المرة، بالطبع يعرف والمهم أنّه سيقترب منها، هذا يكفي ليشجع سالم على حماقته التي لم تعد حماقة في عينيه، ليس بعد الآن.
تحرك معه وأعينهما على الأسرة الصغيرة التي تابعت تسوقها وسالم يبحث عن فرصة ليقتنص حبيبته. مضت دقائق وهما يتابعان تصرفهما الأحمق حتى رأيا رواء تجلس قليلًا في انتظار البقية. تعلقت عيناه بسمرائه وهي تتفحص واجهة تعرض بعض الأحذية برفقة شقيقتها الصغرى، تمنى لو كان قريبًا ليسمع صوتها، هل هو ساحرٌ مثلها يا تُرى؟
قاطع أفكاره صوت سالم عندما وجد أمها تشير إليها أن تنهض
"هيا بنا، تعرف ما عليك فعله"
رفع له إبهامه مبتسمًا وأسرع يخرج نظارته الشمسية وارتداها، وحمل حقيبته. تحرك مقاطعًا طريقهن لتشهق سمراء حين كاد يصطدم بها وتراجعت في اللحظة المناسبة وصاحت الصغيرة
"انتبه يا هذا، ألا ترى؟ ما هذه الوقاحة على بكرة الصبح؟"
رائع، سليطة لسان كأخته العفريتة!
أسرع مدعيًا الارتباك
"آسف بشدة، أنا لا أرى بالفعل"
لمح من طرف عينه شقيقه يختطف رواء ويبتعد بها، وكاد يتنهد لولا أن سمع سمراء تردد بلوم
"عيب يا طيف"
تراقص قلبه مع صوتها الذي داعبه بنبرته المميزة وتلك البحة الرقيقة فيه بينما تلتفت له قائلة باحترام
"أعتذر منك يا أستاذ، لم ننتبه لك"
كانت غافلة عن نظراته لها من خلف النظارة بينما أخذ كل وقتها في استيعاب ملامحها وسحر عينيها.
رد بابتسامة
"لا بأس يا آنسة، الخطأ خطأي. للأسف فقدت عصاي في مكانٍ ما هنا، وفقدت الاتجاه أيضًا"
مطت شفتيها بأسف ولامه قلبه على كذبته لكنّه سرعان ما برر لنفسه، كله في سبيل الاقتراب منها قليلا، وبالطبع من أجل شقيقه.
"هل تحتاج أي مساعدة يا بني؟"
صوت أمها الحاني جعل ندمه يزداد لكنّه ردد مستغلا الفرصة التي أتت حتى قدميه
"إن لم يكن هناك أي إزعاج... هناك محل في هذا الطابق أو التالي، لا أذكر. إنّه خاص بالملابس والأدوات الرياضية"
تلفتت حولها تنظر لعناوين المحلات ثم قالت
"لا أذكر أنّه قابلني هنا، ربما في الطابق العلوي"
"شكرًا لكِ كثيرًا، سأرى إن كان بإمكاني رؤيـ... أعني العثور عليه"
تركهن بعد اعتذار خافت واتجه عامدًا تجاه السلالم المؤدية للأسفل، ليسمعها تهتف خلفه محذرة
"توقف يا أستاذ، هذه السلالم، سـ..."
شهقت حين وضع قدمه على أول درجة مدعيًا التعثر بينما يتمسك بحاجز السُلم، سمع خطوات سريعة خلفه وأتاه صوتها بعد ثوان
"أنت بخير؟"
أمسك قلبه مدعيًا الفزع بينما أسرعت هي تجذبه من كُمه بعيدًا عن السُلم
"كنت ستسقط، كيف تندفع هكذا دون أن ترى أمامك؟ أقصد لم يكن عليك..."
قاطع كلماتها المرتبكة بهدوء مخالف للطبول التي تقرع في صدره
"خشيت أن أسبب لكُن الإزعاج بوقوفي أكثر"
خفضت يدها بسرعة عن كمه متمتمة
"ألا يوجد معك أحد؟"
خفض رأسه بأسف
"ظننت أنني سأستطيع الاعتماد على نفسي، لكن... كما ترين"
رفع رأسه ليراها ترمقه بأسى ثم قطبت مفكرة قبل أن تردد
"لحظة"
تركته إلى أمها تهمس لها بشيء فأومأت موافقة لتعود هي إليه بسرعة
"إن لم يكن لديك مانع، سأوصلك للمحل"
"حقًا؟"
هتف بلهفة خانته أسرع بعدها يتمالك نفسه ليقول بصوت متوازن
"أشكركِ جدًا يا آنسة، لكن... حقًا لا أريد أن أتعبكِ"
"لا تعب إطلاقًا"
همست برقة وظل هو ينظر لها هائمًا حتى نبهته نظراتها المندهشة، تنحنح ليقول مادًا يده نحوها
"إن لم يكن هناك أي مشكلة... بالطبع سأكون ممتنًا لمساعدتكِ"
نظرت ليده بتردد حسمته لعد لحظات لتمد يدها لكنّها قبضت على كمه بدلا من يده. كتم ابتسامة رغم أسف قلبه لأنّها حرمته من لمسة كفها.
رائع، لقد فقد عقله مثل سالم بالضبط، ومن نظرة واحدة. هذا جنون، لكنّه لا يمانع إطلاقًا.
جذبته نحو السلالم المتجهة لأعلى وقالت
"تفضل من هنا"
تحرك معها مواصلًا اختلاس النظر إليها، كان يشعر بحرجها، تكاد تذوب خجلا بينما تشيح بعينيها لأعلى. كان يبحث عن طريقة ليفتح معها حوارًا حين رن هاتفه كما اتفق مع سالم. وقف شاتمًا حظه بحنق، لماذا يا سالم؟ لماذا لم تنتظر بضع دقائق أخرى؟
"ما الأمر؟"
قبل أن يجيبها لمح أحد الشباب ينزل مقتربًا منهما بينما يرن هاتفه مرة أخرى
"هاتفك يرن"
يعرف أنّه يرن، حسنًا يا سالم، طبعًا وجدت حبيبتك وانتهيت مما تريده، تمتم داخله بغيظ
"هل أنت بخير؟"
قاوم ذوبان قلبه الأحمق مع نبرتها وأسرع يرد
"هناك شخص قادم نحونا، أليس كذلك؟"
التفتت للشاب وقالت
"نعم، هل تعرفه؟"
أسرع يشير له بينما قلبه يركل حانقًا يرفض تركها
"لو سمحت"
توقف الشاب ناظرًا لهما بتساؤل فأخبره
"عذرًا منك لكن... هل يمكنك مساعدتي لأصل للدور العلوي. الآنسة ليست معي وقد عطلتها بما يكفي"
"بالتأكيد"
رد الشاب بينا احمر وجهها
"لم يحدث شيء يا أستاذ"
التفت لها مبتسمًا ينظر في عينيها الرماديتين مرة أخيرة
"والدتكِ تنتظركِ ، اذهبي إليها والأستاذ سيساعدني. شكرًا لكِ كثيرًا"
خفق قلبه مع ابتسامتها الرقيقة كصوتها بينما تهمس
"لا شكر على واجب، سلام"
تنهد بحسرة هو وقلبه قبل أن ينتبه على كف الشاب يمدها نحوه فعاد إلى تمثيله وصعد برفقته مواصلا شتم نفسه وسالم الذي توعده بركله فور رؤيته.
لم يستمر غضبه طويلا وخيالها يعود لاحتلال عقله، لن تكون المرة الأخيرة التي يراها فيها، لن ينتظر حتى أن يأخذه سالم مع في مرة قادمة ولا حتى أن يتقدم لخطبة شقيقتها، سيراها ويشق طريقه إليها بنفسه.
وليته عرف لحظتها أن طريقه مثل طريق سالم سيكون متعثرًا وعرًا وربما أشد.
*********************
لم يكن إيهاب متحكمًا في قلبه بينما القلق يعتصره على حالتها، يختلس النظر إليها بينما يقود سيارته، كانت شاحبة وعيناها الدامعتان ثابتتان على الطريق. لم تفته ارتجافة جسدها فهمس مقاومًا وجع قلبه ورغبته في ضمها علّ ارتجافها وحزنها يتبخران
"لا تخافي، سيكون بخير"
أومأت وشفتاها ترتجفان قبل أن تخونها شهقة باكية فزاد سرعته ليصلا إلى المشفى قبل أن يُجن ويتوقف إلى جانب الطريق ويُسلم لقلبه فيضمها حتى يأخذ كل ألمها
"تارا،أرجوكِ"
وكأنّه منحها الإذن فانهارت مقاومتها وبكت بشدة
"توقفي أرجوكِ ، لا تبكي حبـيـ..."
قطع الكلمة قبل أن يخونه لسانه وانقبضت يداه بعنف على المقود وبمعجزة احتمل الدقائق المريرة لبكائها حتى بدأت تهدأ
"لم أعرف أنّكِ تحبينه هكذا"
ردد بعد لحظات فصمتت شهقاتها، نظرت إليه لوهلة كما لو كانت انتبهت لحقيقة وجودها معه.
همست بتحشرج
"إنّه أبي رغم كل شيء، بالطبع أحبه وأخاف عليه"
ابتسم بأسى بينما شردت هي ناظرة للخارج بمرارة
"صحيح أنّني لم أشعر من ناحيته بأي حب، نظراته لي كلها تقول شيئًا واحدًا لكنني مع هذا... أنا مع هذا أحبه يا إيهاب"
تهدج صوتها بالدموع مع جملتها الأخيرة، فردد يطمئنها بخفوت
"اطمئني، سيكون بخير"
"إن شاء الله"
همست وهي تمسح دموعها وران الصمت لبرهة طويلة حتى قطعته
"شكرًا لك يا إيهاب، أتعبتك معي، لم يكن عليك"
قاطعها مقطبًا
"أي تعب؟ هل كنتِ تريدين مني ترككِ وحدكِ بهذه الحالة؟"
ظلت مسلطة عينيها على الطريق وخانها لسانها فهمست
"لكنّك تركت كارمن وحدها"
رد بجمود
"ﻻ تشغلي بالكِ ، ستتفهم الأمر"
أومأت بصمت حل بينهما ولم يحاول هو فتح الحوار من جديد. شعر أنّه لن يحتمل حتى يصلا إلى المشفى لكنّه نجح، وصلا بعد جلسة التعذيب القاسية تلك.
راقبها بأسى وهي تتحرك بارتباك وتخبط، ولوهلة عادت لخياله صورتها أيام الجامعة، شعلة النشاط التي كانتها، ثم المرأة الباردة التي تحولت إليها في السنوات الماضية، والعاشقة الجريحة التي واجهته قبل أيام فقط، والآن...
اختفت كل الوجوه وتحولت إلى طفلة صغيرة تائهة تحتاج المساعدة.
تولى الأمر عنها سريعًا ورافقها حتى غرفة أبيها، كان يتحدث إلى الطبيب وهي إلى جانبه، بنظراتها التائهة وملامحها المرهقة بشدة.
حين انتهى من كلامه مع الطبيب وشكره التفت لها، اهتز قلبه مع نظراتها الضائعة وتمتم مشيرًا إلى الغرفة
"قال الطبيب أنّ حالته استقرت، يمكنكِ رؤيته لبضع دقائق"
لم تحد بعينيها عنه فتنحنح وأمسك مرفقها يحركها نحو الغرفة
"هيا اذهبي إليه ولا تخافي،سأنتظركِ هنا"
ملأت الدموع عينيها بينما تتركه وتدخل الغرفة، تنهد وهو يتراجع مستندًا للحائط بتهالك وأغمض عينيه.
هل ستكون بخير؟ هل يدخل ليطمئن عليها؟
شعر بالدقائق التي غابتها كأنّه يقف على جمرٍ محرق حتى انفتح الباب وخرجت أخيرًا. اعتدل متنهدًا براحة اختفت حال وقعت عيناه على وجهها الذي زاد شحوبًا فاندفع إليها بلهفة
"تارا، أنتِ بخير؟"
وقفت مطرقة في صمت تام، وكاد يهزها هاتفًا فيها أن تريحه وتنطق، أن تصرخ لتتحرر من كل هذا الألم المطل من خلاياها
"تارا، أجيبيني... ماذا حدث؟"
رفعت إليه عينيها أخيرًا دامعتين فيهما جرح رهيب، وهمست بوجع مزق روحه
"تعبت، والله تعبت"
روحه تناثرت داخله وهي تواصل همساتها ونظراتها الباكية المتوسلة
"أنا... أريد أن أموت... ليتني أموت"
لم يحتمل أكثر فأمسك عضديها يهزها بغضب
"اخرسي، ماذا تقولين يا غبية؟"
غمغمت كأنّها لم تسمعه وبدت كأنّها في عالم آخر
"لماذا لا يحبني أحد؟"
توقف قلبه وتجمد محدقا فيها بصدمة وهي تواصل هذيانها
"تعبت من رفضهم لي، تعبت من كراهيتهم. أبي... أمي... أسامة، لا أحد يريدني، لا أحد يحبني"
وتوقفت عيناها على عينيه لحظة قبل أن تعود لضياعها
"حتى أنت"
كاد يخبرها أنّه يحبها لكنّه تمسك بما تبقى فيه من ضمير وعقل، ناداها برفق لكنّها تابعت دون أن تسمعه
"أنا تعبت من كراهيتكم .. والله تعبت"
راودته رغبة أن يقتحم الغرفة ويتهجم على أبيها بالضرب. ما الذي فعله بها لتصل لهذه الحالة؟
"ليتني أموت... دعني أموت"
انتبه بجزع على ترنحها فأسرع يسندها، وقلبه انفجر فجأة عندما شعر بها بين ذراعيه.
نجمته المستحيلة سقطت من العلياء لتقع في صدره، تهاوت كشهب متناثرة أحرقت روحه وقلبه.
*********************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا