الفصل الثالث
"لن تصدق ما فعلته يا حسن .. لقد شعرت بالحرج الشديد"
هتفت رباب عبر الهاتف وضحك حسن وهو يستمع إليها تردف
"الفتاتان كانتا من الذوق، لو كان شخصًا غيرهما لتصرف بطريقة أخرى"
ابتسم مرددًا
"هل ستأتين اليوم وتعرفين خالتكِ يا رباب؟"
زفرت بقوة وغمغمت
"أعرفها .. أعرفها يا أخي .. كان الله في عون زوجتك المستقبلية حقًا"
غامت عيناه وخيال ساحرته يمتثل أمامه معذبًا فتنهد ثم قال بمرح مفتعل
"دعي زوجتي المستقبلية وشأنها يا رباب"
ضحكت قليلًا قبل أن ترد
"إن تركتها وشأنها فلن تتركها الحاجة سهير"
ابتسم بخفوت بينما تابعت
"بالمناسبة هي لا تنوي ترك الفرصة لك لتهرب أكثر .. لقد اختارت لك الفتاة وانتهى الأمر"
قطب وهو يعتدل هاتفًا
"أي فتاة؟"
وصله صوتها بنبرة خبيثة
"عروسك طبعًا .. ألم تفهم ما أتحدث عنه منذ الصباح؟ .. لقد أعجبتها إحدى الفتاتين وطارت بها في السماء حتى إنها تغاضت عن سنها على غير العادة .. إنها تصغرك بعام .. في الحقيقة هي تستحق"
وضحكت لبرهة قبل أن تكمل
"خالتي الماكرة لم تترك الفرصة وهجمت على بيتهما قبل حتى أن ترتاحا من ترتيب أثاثهما"
استمع لها متنهدًا بقلة حيلة
"أرادت أن تطرق الحديد وهو ساخن .. بصراحة الفتاة جميلة ورائعة فعلًا وتستحق انبهار خالتي لكن .. لم أرها مناسبةً لك .. أختها الصغيرة ما شاء الله .. رغم أنّها ليست بنفس فتنتها لكنّها تدخل القلب وتتربع داخله بسرعة"
خفق قلبه وهو يتذكر واحدة مثلها .. ساحرة سرقت قلبه من نظرة واحدة .. سمع رباب تردد
"بالنسبة لي أنا أحببتها أكثر من أختها وأراها تناسبك أكثر .. لا أعرف .. أشعر أنكما تكملان بعضكما بطريقة ما"
ضحك قائلًا بتهكم
"ماذا يا سيدة رباب؟ .. هل قررتِ الانضمام إلى أمي أم أنّها سلطتكِ عليّ؟"
ضحكت بافتعال
"ظريف جدًا .. لا لم تسلطني عليك يا عبقري أنا المخطئة أنني قررت إخبارك بتحليلي"
عاد يضحك بقوة ثم أخبرها بمرح
"طيب يا سيدي شكرًا .. كفاية"
هتفت بحنق
"لا فائدة فيك"
وصمتت لحظة ثم تابعت ساخرة
"انتظر فقط حتى تعود وتقع الفأس في الرأس"
مط شفتيه وابتسم
"يبدو أنني سأندم كثيرًا على الوعد الذي قطعته لها قبل سفري"
أخبرته ضاحكة
"لا أعتقد أنّك ستندم صدقني .. الأمر يستحق .. سواء ترشيح خالتي أو ترشيحي .. الفتاتان رائعتان ولن تخسر شيئًا لو قررت طاعة خالتي هذه المرة"
عاد يردد
"طيب يا سيدي شكرًا"
هتفت اسمه بحنق لتزداد ضحكته ثم قال أخيرًا بجدية
"أعدكِ سأفكر في الأمر .. عامةً ما زال أمامي بعض الوقت .. وقتها يحلها الحلّال"
تنهدت بحرارة، بينما أكمل ساخرًا
"من يدري ربما تسببت أمي في هربهما قبل عودتي بتصرفاتها هذه"
ضحكت مؤكدة على كلامه ثم رددت
"اعتن بنفسك يا حسن ولا تتأخر علينا .. كلنا هنا مشتاقون لك"
"وأنا مشتاق لكم أكثر .. اعتني أنتِ بنفسكِ وبأمي واعتني بزوجكِ وأبلغيه سلامي"
"يوصله إن شاء الله"
ودعها وأغلق الهاتف، وتمدد على الأريكة مسندًا رأسه لذراعه وأغمض سامحًا لخيالها بالتحرر وهمس بشرود
"هل ستظلين طيفًا يطاردني يا ساحرة أم أنّ قدري سيشفق عليّ وأجدكِ قبل فوات الأوان؟"
تردد سؤاله دون جواب بينما قلبه يلومه بشدة على الوعد الذي قطعه لأمه وكل لحظة تقربه من الوفاء به تبعده أكثر عن ساحرته الضائعة.
********************
تحركت أصابع شذى بتوتر فوق مقود السيارة بينما تتطلع للطريق المزدحم وزفرت بقوة وهي تنظر في ساعتها .. من الأفضل أن تكون كريمة وصلت للمحل وفتحته .. لا تحب التأخر أبدًا لكن ما باليد حيلة .. ابتسمت مرغمة وهي تفكر في أم حسن التي أوقفتها قبل أن تغادر في روتين أصبح معتادًا .. هذه السيدة رغم كل شيء لطيفة وليست سيئة كجاراتها القديمات وهي لا تريد أن تكسر بخاطرها ولذا باتت تتقبل تصرفاتها بتهذيب.
تنهدت وعقلها يشرد للماضي وتذكرت والدتها .. تبدو أم حسن امرأة تقليدية .. تُرى لو علمت عن أمها هل ستظل على معاملتها الحسنة لهما أم ستصبح كجيرانها القدامى؟ .. أطلقت زفرة حادة وهي تسند رأسها للخلف تتطلع بعينين غائمتين للسيارات أمامها .. ولم تنتبه للصبية الصغيرة التي طرقت على نافذة سيارتها إلا بعد ثوان .. التفت بشرود لتجدها تحمل باقة ورود وتردد شيئًا لم تسمعه وهزت رأسها بلا انتباه لتنصرف الفتاة بحزن .. انفتح الطريق في اللحظة التي ابتعدت الفتاة، وانتبهت شذى لكن قبل أن تفعل شيئًا دوى بوق سيارة متعجل من خلفها فأدارت المحرك وانطلقت وعيناها على الصبية بينما تبحث عن مكان مناسب لتوقف السيارة.
في نفس اللحظة كانت الصبية تتجه لسيارة أخرى وطرقت نافذتها شبه المفتوحة وقالت وهي ترفع الورود وعقود الياسمين في يدها
"نفعني يا بك .. اشتر مني الـ"
توقفت كلماتها عندما التفت ضياء مبتسمًا لتتسع ابتسامتها بسعادة
"صباح الفل يا باشا"
ضحك قائلًا وهو يمد يده ليلتقط باقة الورود كلها
"مصرة يا ياسمين على كلمة باشا .. تمام يا ياسمين هانم .. هاتي الورد"
ومنحها مبلغًا كبيرًا من المال رمقته بضيق ثم أخذت بضع ورقات وأعادت الباقي
"تسلم يا باشا .. لن آخذ أكثر من سعره"
تنهد مبتسمًا بقلة حيلة ونظر لإشارة المرور التي تكاد تُفتح
"تمام يا ياسمين هانم .. أي أوامر؟"
ابتسمت الصبية التي أصبح لقاؤه اليومي بها لحظة سعيدة في أيامه العصيبة في العمل، منذ باعته الورد أول مرة ودعت له بتلك الدعوة التي لامست قلبه المتعب، وأصبح كل يوم يمر بها خصيصًا ليراها ويسمع دعوتها .. سمعها تقول بابتسامتها الحلوة وكلماتها التي صار يحفظها
"شكرًا يا باشا .. الله يسعد قلبك ويعطيك ما تتمناه ويجمعك بحبيبتك"
أخبرها بقلب سعيد
"آمين يا رب .. يسمع منكِ الله يا ياسمينا"
لوح لها والإشارة تنفتح ثم انطلق بسيارته وعيناه عليها في المرآة .. رآها تتجه لتجلس على الرصيف حيث صندوقها المليء بالزهور وهمس لنفسه
"يجب أن أجد طريقة لمساعدتها .. لا يجب أن تظل في إشارات المرور هكذا"
توقفت أفكاره وخفق قلبه فجأة حين وقعت عيناه على السيارة المتوقفة بجانب الرصيف، والشابة الأنيقة التي نزلت منها .. ضغط على الفرامل دون شعور لتتوقف السيارة بصرير حاد وارتفع من خلفه أبواق غاضبة معترضة .. تجاوزته السيارات وسائقوها يشتمونه بضيق بينما كان هو ضائع فيما يراه .. تابعها وهي تتجه إلى حيث كانت ياسمين .. أسرع ينطلق قبل أن يتشاجر معه بقية السائقين وركن سيارته على مقربة من سيارتها وقلبه يرتجف ولا يكاد يتمالك خلية من أعصابه .. لا يصدق أنّه رآها .. وجدها أخيرًا بعد كل هذا الوقت.
*****************
"صباح الخير"
ألقت شذى التحية وهي تقترب من ياسمين الجالسة على الرصيف والتي رفعت وجهها لها بحيرة فمنحتها شذى أجمل ابتساماتها وقالت
"مرحبًا يا جميلة .. أنا شذى .. هل يمكنني أن أشتري منكِ بعض الورود؟"
ابتسمت ياسمين وهتفت بحبور وهي ترفع باقة الورد الأحمر وباقة أخرى من الفل
"لديّ فُل ولديّ ورد أحمر .. وهناك أيضًا .."
استمعت لها بحنان ثم قالت
"سأشتريها كلها .. أخبريني كم تريدين"
أخبرتها السعر وهي ترمقها بدهشة فابتسمت شذى وأخرجت المبلغ، ومعه بطاقة محلها وأخبرتها برقة
"تفضلي حبيبتي .. لكن قبل أن أذهب .. أريد أن أعرض عليكِ شيئًا"
قطبت بتوجس فطمأنتها شذى بابتسامتها ومدت يدها بالبطاقة
"أخبريني أولًا .. هل تذهبين إلى المدرسة؟"
لمعت عيناها بحزن
"لا .. أمي أخرجتني منها لأنّها لا تستطيع دفع المصروفات لي ولأخوتي"
خفق قلبها بأسف وشفقة ثم ابتسمت بحنان وأعطتها البطاقة
"لا بأس .. يمكننا أن نجد حلًا لهذا لاحقًا .. تفضلي"
تناولت منها البطاقة المزينة برسومات للزهور ونباتات الزينة وقلّبتها بحيرة لتخبرها شذى
"أنا أمتلك محلًا لبيع الزهور ونباتات الزينة وكنت أحتاج لمساعد جديد لأنّ العمل تراكم علينا"
رمقتها بشك فربتت على شعرها برفق متابعة
"العنوان مكتوب على البطاقة .. هو قريب من هنا وتستطيعين الوصول إليه وحدكِ .. فكري في الأمر ولو أحببتِ العمل معنا سأكون سعيدة وسأمنحكِ أجرًا جيد"
احتارت نظراتها وبدت متشككة أكثر فنهضت شذى ونفضت التراب عن بنطالها
"يمكنكِ بيع الزهور لكن في مكان أفضل من وقوفكِ هكذا في إشارات المرور .. فكري واعرضي الأمر على والدتكِ"
وتحركت لتنصرف لكنّها توقفت
"لم أعرف اسمكِ بعد حبيبتي"
"ياسمين"
همست بخفوت فاتسعت بسمة شذى وأخبرتها بحنان قبل أن تنصرف
"يليق بكِ كثيرًا .. حسنًا .. سأنتظر زيارة قريبة منكِ ياسمين"
أومأت دون رد وظلت تتبعها بعينيها الحائرتين وعادت تُقلِب البطاقة بحيرة أكبر.
*******************
نفخ ضياء بحنق وهو يغلق هاتفه شاتمًا زميله الذي لم يجد لحظة يتصل فيها سوى هذه اللحظة .. وضع الهاتف بجيبه وغادر سيارته وتوقف حانقًا حين انتبه لسيارتها تتجاوزه بعد أن أنهت حديثها مع ياسمين .. حاول اللحاق بها لكنّها انطلقت بسرعة كبيرة .. شد خصلات شعره هاتفًا
"يا لحظي .. كان يجب أن أعرف"
انتبه لياسمين مطرقةً بطريقة غريبة فأسرع إليها وكله أمل أن يجد لديها طرف خيط ... هناك أمل ما دامت مرت من هذا الطريق اليوم فقد تمر غدًا أو بعده .. اقترب من الصبية التي كانت على وشك المغادرة وهتف
"ياسمين .. انتظري"
التفتت له بدهشة
"ضياء باشا .. لماذا عدت؟ .. هل"
أسرع يقاطعها بلهفة
"تلك الآنسة التي كانت تتحدث معكِ .. هل تعرفينها من قبل؟"
رمقته بدهشة قبل أن تنقلب نظراتها لخبث وابتسمت غامزة
"لماذا تسأل؟ .. هل غمزت السنارة أم .."
ضربها على رأسها بخفة
"تهذبي يا بنت .. أخبريني حالًا ماذا كانت تريد منكِ .. وفيما تحدثتما وهل"
"على مهلك .. ما كل هذه الأسئلة؟"
وعادت تغمز بشقاوة
"كم تعطيني وأخبرك؟"
رمقها شذرًا وأخرج مبلغًا من المال
"اطلبي ما تريدين"
رفعت كفها بحركة تمثيلية وقالت بمسرحية
"احتفظ بأموالك يا باشا .. نحن لا نشحذ"
مط شفتيه وقرص أذنها قائلًا
"لن أخلص من لسانكِ هذا .. ارحميني يا بنت وأخبريني .. أعدكِ سأشتري منكِ كل الورود التي تحضرينها يوميًا"
كتفت ذراعيها تدعي التفكير وكاد يضربها على رأسها لولا أن أسرعت ترد ضاحكة
"تمام سأخبرك وأمري لله .. يبدو أنّ الباشا وقع ولا أحد سمّى عليه"
رفع حاجبًا شريرًا فابتسمت وهي ترفع البطاقة
"اشترت مني كل الزهور وأعطتني هذه"
خطف البطاقة في ثانية ليقرأ المكتوب عليها بلهفة وهي تتابع
"قالت أنّها تريد توظيف مساعد جديد في محلها وعرضت عليّ العمل مقابل أجر جيد بدل وقوفي هنا"
رفع حاجبي بدهشة ولم يلبث أن ابتسم بإعجاب .. ليست جميلة من الخارج وحسب، بل وجميلة القلب أيضًا .. لم يخب ظن قلبه فيها .. همس عقله معترضًا .. انتظر .. لم نعرف كل شيء عنها بعد .. أسرع يركله بعيدًا وهو يتأمل البطاقة الرقيقة التصميم التي تشبه صاحبتها .. زهرة فاتنة تبيع الزهور .. هل هناك أجمل من هذا؟
انتبه على فرقعة إصبعين أمام وجهه ونظر حانقًا لياسمين التي رقّصت حاجبها بعبث
"ما الأمر يا باشا؟ .. أنت وقعت أم الهوى رماك؟"
هز رأسه بيأس منها ولم يلبث أن غلبته ابتسامته
"الاثنان يا بكاشة .. المهم أخبريني .. ماذا ستفعلين؟"
بهتت ابتسامتها وقالت بعد لحظة
"لا أعرف .. أنا لست متأكدة منها .. أمي أخبرتني ألا أثق في الغرباء"
أخبرها مبتسمًا برفق
"أمكِ محقة وحكيمة .. وأنا أثق في عقلكِ وحسن تصرفكِ لكن أراها فرصة جيدة يا ياسمين .. تبدو سيدة محترمة جدًا وأيضًا أعطتكِ بطاقتها ويمكنكِ أن تذهبي إلى محلها وتراقبي من بعيد .. يمكن أن تأخذي والدتكِ معكِ وهي ستتأكد إن كان العمل مناسباً أم لا"
كاد يقترح عليها أن يذهب هو معها لكنّه أوقف لسانه وأخبرها
"احتفظي بالبطاقة وفكري في عرضها .. وصراحةً لو كنت مكانكِ لم أكن لأضيع هذه الفرصة من يدي"
ورفع رأسه ينظر إثر سيارتها التي اختفت وابتسم قلبه بسعادة بالغة بينما اسم وعنوان محلها انطبع في مخيلته وبقى فقط خطوة واحدة .. أن يذهب لمالكته .. بائعة الزهور السارقة ليسترجع منها قلبه.
*******************
ابتسمت روض وهي تلوح لجارها العجوز الجالس في الحديقة واقتربت منه بالسلة الصغيرة التي حمّلتها بمجموعة من الزهور المختلفة
"لا أعرف كيف أشكرك يا عم راضي"
أخبرته بابتسامة ممتنة وحملت وردة جورية من السلة وأعطتها له
"أول زجاجة عطر أصنعها من هذه الورود ستكون من نصيبك"
ضحك وهو يتناول منها الوردة
"أدركتِ الآن أنني لم أساعدكِ بنية خالصة؟"
بادلته ضحكته وقالت
"لا تتواضع يا رجل يا طيب .. شخص غيرك كان أطلق عليّ الرصاص إن حاولت الاقتراب من حديقته الغالية"
ابتسم وهو يطوي الجريدة ووضعها على حجره قائلًا
"زوجتي هي من غرست بيديها أشجار وزهور هذه الحديقة حين بنينا هذا البيت .. منحتها من قلبها وروحها لسنين"
وأشار للعمارات المحيطة بهم مضيفًا وهو يتنهد بحرارة
"لم تكن كل هذه المباني الأسمنتية قد غزت المكان .. كانت ستحزن كثيرًا عندما ترى ما حل بالمنطقة .. أشجار كثيرة تم قطعها لبناء هذه المباني مكانها"
ابتسمت بأسى وجلست على المقعد القريب منه ليتابع بعد برهة بحنين
"كانت تحب الزهور كثيرًا"
تمتمت بابتسامة حانية
"امي أيضًا .. أنا وشذى ورثنا هذا منها .. ربما بالغت أنا ووقعت في حب روائحها ومن بعدها أسرتني العطور"
أومأ مبتسمًا ثم قال
"لهذا سمحت لكِ بأخذ زهور زوجتي الحبيبة يا فتاة .. لقد ذكرتِني بها"
اتسعت ابتسامتها وهي تتذكر لقاءهما الأول بعد أيام من انتقالها حين لم تستطع مقاومة نداء الزهور الجميلة في حديقته ونزلت لتستأذن منه .. في البداية قطب معترضًا ثم عندما بدأت تتحدث بحماس عن رغبتها في صنع بعض العطور من مستخلصات زهوره الغالية تبدلت تعابيره تمامًا وسمح لها بدخول حديقته ليبدأ في استجوابها .. تعرفت عليه وعلى كلبه الذي سرعان ما صادقها وعرفت أنّه يعيش وحيدًا بعد رحيل زوجته قبل سنوات طويلة، دون أن ينجبا أولادًا .. تألمت من أجله لكنّها سرعان ما أحبته وأصبحت لا تترك يومًا دون أن تلوح له من النافذة بينما يجلس في حديقته يقرأ الجريدة وبجواره كلبه مستلق على الأرض، أو تنزل بنفسها حاملةً له كعكة صنعتها أو أي طعام .. أحيانًا تصنع له مشروبًا من أعشابها الطبية ويجلسان معًا يتبادلان الحديث الطويل .. أخبرته عن شغفها بالعطور وصناعتها وعن أمنياتها أن تطلق يومًا اسمها عالميًا .. لم يسخر من حلمها بل أخبرها أنّه سينتظر بشغف إطلاق علامتها في الأسواق وسيكون أول المشترين.
"كانت تقول أن الزهور خُلِقت لتمنح السعادة للآخرين"
انتبهت على صوته ونظرت بتأثر لعينيه الغارقتين بالحب بينما يتحدث عن زوجته الراحلة
"لم تكن تبخل بها على أحد .. حين كان يصادف مرور أحد من أمام الحديقة كانت تمنحه وردة وتتمنى له يومًا طيبًا .. كنت أرى التغير الذي يتركه تصرفها هذا في الناس، وبعد رحيلها وجدتني أحافظ على عادتها"
ابتسمت بحنان وعيناها تغرورقان بتأثر بينما يهمس
"تركتني باكرًا ورحلت زهرتي الغالية"
ربتت على كتفه وهمست بتحشرج
"رحمها الله يا عمي .. تعيش وتتذكر"
ثم أردفت بمرح
"ثم إنّك قلت أنني أذكرك بها صحيح .. لو كنتُ أكبر سنًا لطلبتُ يدك للزواج"
انفجر ضاحكًا ومسح دمعة خانته
"ليست عطوركِ فقط الساحرة بل لسانكِ أيضًا يا مشاغبة"
وصمت قليلًا يتأملها بحنان ثم أردف
"لو كانت تركت لي قطعة منها لم تكن لتكون أجمل منكِ"
احمر وجهها وابتسمت بتأثر
"ربما أرسلكِ القدر ليعوضني عنها وعن ابنة لم نحظ بها"
مدت كفها تحتضن يده مغمغمة بتهدج
"أنا لم أر أبي قط .. لم أعرف معنى أن يكون لي أب يا عم راضي"
لمحت الدموع في عينيه فاغرورقت عيناها بالمثل
"لهذا أخبرك والله يشهد على كلامي .. منذ أول يوم عرفتك فيه وأنا أشعر أنّ الله عوضني بالأب الذي لم أعرفه يومًا"
شعرت برجفة يده قبل أن يربت على كفها هامسًا بتأثر شديد
"سلمتِ يا ابنتي"
أخبرته بتردد
"هل .. هل يمكنني أن أناديك أبي يا عم راضي؟"
ارتفع حاجباه بشدة وسالت دموعه وأسرع يمسحها متمتمًا
"طبعًا يا ابنتي طبعًا .. ناديني كما تحبين .. لا تعرفين حجم الخدمة التي ستسدينها لقلب هذا العجوز الوحيد"
رفعت كفه تطبع قبلة عليها وهمست بتأثر
"بل أنت من تسدي لي خدمة وجميل كبير يا .. أبي"
رفع يده المرتجفة ليربت على رأسها بحنان
"حفظكِ الله يا ابنتي وأسعدكِ دنيا وآخرة"
منحته أجمل ابتساماتها وهمست
"هذه أجمل دعوة حصلت عليها منذ رحلت جدتي الغالية"
****************
ترجل حسن من السيارة بعد أن نقد السائق أجره وحمل حقيبته متجهًا لمدخل العمارة، وابتسم باشتياق وهو يرفع عينه ناظرًا لشرفة شقته
"يا الله .. أشعر أنني غبت لسنين"
أسرع البواب نحوه هاتفًا بترحيب
"حمدًا لله على سلامتك يا أستاذنا .. العمارة كانت مظلمة من دونك"
شكره بابتسامة ممتنة وأخرج مبلغًا أعطاه إياه
"حلاوة عودتي بالسلامة .. فَرِّح البنات يا عم محمود"
تناول النقود وقبلها ورفعها لجبينها شاكرًا
"تسلم يا أستاذنا .. ربنا يفتح عليك من أوسع أبوابه"
شكره مرة أخرى ثم أسرع وشوقه لأمه دفعه ليصعد السلالم مسرعًا مشتاقًا ليأخذها في حضنه وينسى معها غربة الأشهر التي قضاها بعيداً عنها.
**********************
استأذنت روض من العم راضي وتركته وهي توصيه أن يرتاح، وحملت سلة الزهور وأسرعت إلى العمارة مدندنة بأغنية وهي تلامس بإحدى الوردات شفتيها
"الورد جميل .. جميل الورد"
واصلت دندنتها وهي تدخل من الباب وأسرعت تلتقط وردة أخرى وتقدمها لطفلة البواب التي كانت قرب والدها
"الورد لأجمل وردة في عمارتنا"
ضحكت الصغيرة وهي تأخذها منها وابتسم البواب قائلًا
"تسلمي يا ست البنات"
مالت تقبل خد الصغيرة متمتمة
"ربنا يحفظها لك يا عم محمود هي وأخواتها ويبارك لك فيهن"
"سلمكِ الله من كل سوء يا بنتي"
ربتت على شعرها ولوحت لها ثم أسرعت إلى السلالم .. كانت مطرقة تداعب الزهور وهي تواصل همهمتها بالأغنية مبتسمة بهيام .. غارقة في تخيلاتها العطرية ومشروعها الجديد فلم تنتبه للواقف في منتصف السلالم قبل شقتها مباشرة إلا حين اصطدمت رأسها بظهره ولم تجد الفرصة لتتأوه، فقد فقدت توازنها وشهقت بفزع وذراعاها تتخبطان في الهواء تحاول التمسك بأي شيء.
كان حسن قبل لحظات قد توقف قبل شقته ليضع حقيبته جانبًا ويخرج مفاتيحه استعدادًا للتسلل خُفية ليفاجئ أمه .. انتبه لهمهمات منغمة ترتفع من خلفه وصوت كعبين يتقافزان ولم يجد الوقت ليلتفت، حين اصطدم به صاحب الصوت .. سمع الشهقة المرتعبة والتفت لتتسع عيناه برعب وفي رد فعل سريع مد يده يمسك بكفها ويشدها نحوه قبل أن تسقط بينما طارت السلة وتناثرت محتوياتها فوقهما بنعومة .. لم ينتبه لكل هذا وهو يتنفس بانفعال وتوتر .. أفاق بعد ثوانٍ على حقيقة أنّه يضم فتاة بين ذراعيه .. فتاة ملتصقة به وكفاها متشبثتان بظهره، ترتجف تأثرًا مما حدث .. تسارعت نبضاته بغباء بينما شعور مألوف وغريب ينتابه .. رجفة قلبه هذه حدثت من قبل وهذه اللحظة مرت عليه مسبقًا .. خفض عينيه لتصطدما بالوشاح الرقيق على رأسها وهمس بارتباك
"يا آنسة .. أنتِ بخير؟"
لم ترد فرفع كفه يهز كتفها
"هيييه .. يا آنسة هل فقدتِ وعيكِ؟"
لا رد .. بدأ قلبه يفزع .. ماذا أصابها؟ .. قبل أن يهزها من جديد توقف قلبه حين حركت رأسها ببطء وارتفع وجهها إليه ليرى ملامحها .. عينيها المغمضتين .. أنفها الصغير .. شفتيها الوردتين الـ .. أسرع يبعد عينيه مستغفرًا قبل أن ينتبه لأنفها الذي كان يتحرك برقة .. يتشممه.
خفق قلبه بعنف .. إنّها هي .. الساحرة التي اختطفت قلبه في لحظة مسروقة من الزمن .. الساحرة التي لم تفارق خياله لحظة منذ ما يزيد عن العام .. إنّها هي بكل تفاصيلها .. فقط ذلك الحجاب الذي منع عنه خصلاتها القصيرة .. ضاع حسن في تأملها وقلبه يزداد ارتعادًا وهو يراها تعيد الكرّة .. تتشممه كما فعلت يومها .. وانتظر بشغف تلك اللحظة التي ستفتح فيها عينيها ولم تتأخر.
فتحتهما بعد ثوان ليتوقف قلبه لحظة ثم يعاود الجري بأقصى سرعاته وعيناه تلمحان النجوم التي تحترق في عينيها.
*********************
شرفنا بوجودك، اشترك من هنا